أما قوله تعالى : ( ولا تحلقوا رءوسكم حتى يبلغ الهدي محله ) ففيه مسائل :
المسألة الأولى : في الآية حذف لأن الرجل لا يتحلل ببلوغ الهدي محله ، بل ، فتقدير الآية : حتى يبلغ الهدي محله وينحر فإذا نحر فاحلقوا . لا يحصل التحلل إلا بالنحر
المسألة الثانية : قال - رضي الله تعالى عنه : يجوز إراقة دم الإحصار لا في الحرم ، بل حيث حبس ، وقال الشافعي - رضي الله تعالى عنه : لا يجوز ذلك إلا في الحرم ، ومنشأ الخلاف البحث في تفسير هذه الآية ، فقال أبو حنيفة رضي الله تعالى عنه : المحل في هذه الآية اسم الشافعي ، وقال للزمان الذي يحصل فيه التحلل : إنه اسم للمكان . أبو حنيفة
حجة - رضي الله تعالى عنه - من وجوه . الشافعي
الأول : أنه - عليه الصلاة والسلام - أحصر بالحديبية ونحر بها ، والحديبية ليست من الحرم ، قال أصحاب إنه إنما أحصر في طرف أبي حنيفة الحديبية الذي هو أسفل مكة ، وهو من الحرم .
قال : الواقدي الحديبية على طرف الحرم على تسعة أميال من مكة ، أجاب القفال - رحمه الله - في " تفسيره " عن هذا السؤال ، فقال : الدليل على أن نحر ذلك الهدي ما وقع في الحرم قوله تعالى : ( هم الذين كفروا وصدوكم عن المسجد الحرام والهدي معكوفا أن يبلغ محله ) [ الفتح : 25 ] ، فبين تعالى أن الكفار منعوا النبي - صلى الله عليه وسلم - عن إبلاغ الهدي محله الذي كان يريده فدل هذا على أنهم نحروا ذلك الهدي في غير الحرم .
الحجة الثانية : أن المحصر سواء كان في الحل أو في الحرم فهو مأمور بنحر الهدي فوجب أن يتمكن في الحل والحرم من نحر الهدي .
بيان المقام الأول : أن قوله : ( فإن أحصرتم ) يتناول كل من كان محصرا ، سواء كان في الحل أو في الحرم ، وقوله بعد ذلك : ( فما استيسر من الهدي ) معناه فما استيسر من الهدي نحوه واجب ، أو معناه [ ص: 128 ] فانحروا ما استيسر من الهدي ، وعلى التقديرين ثبت أن هذه الآية دالة على أن نحر الهدي واجب على المحصر سواء كان محصرا في الحل أو في الحرم ، وإذا ثبت هذا وجب أن يكون له الذبح في الحل والحرم ، لأن المكلف بالشيء أول درجاته أن يجوز له فعل المأمور به ، وإذا كان كذلك وجب أن يكون المحصر قادرا على إراقة الدم حيث أحصر .
الحجة الثالثة : أن الله سبحانه إنما مكن المحصر من التحلل بالذبح ليتمكن من تخليص النفس عن خوف العدو في الحال ، فلو لم يجز النحر إلا في الحرم وما لم يحصل النحر لا يحصل التحلل بدلالة الآية ، فعلى هذا التقدير وجب أن لا يحصل التحلل في الحال ، وذلك يناقض ما هو المقصود من شرع هذا الحكم ، ولأن الموصل للنحر إلى الحرم إن كان هو فقد نفي الخوف ، وكيف يؤمن بهذا الفعل من قيام الخوف ، وإن كان غيره فقد لا يجد ذلك الغير فماذا يفعل ؟ .
حجة - رضي الله عنه - من وجوه : أبي حنيفة
الأول : أن المحل بكسر عين الفعل عبارة عن المكان ، كالمسجد والمجلس ، فقوله : ( حتى يبلغ الهدي محله ) يدل على أنه غير بالغ في الحال إلى مكان الحل ، وهو عندكم بالغ محله في الحال .
جوابه : المحل عبارة عن الزمان وأن من المشهور أن محل الدين هو وقت وجوبه .
الثاني : هب أن لفظ المحل يحتمل المكان والزمان إلا أن الله تعالى أزال هذا الاحتمال بقوله : ( ثم محلها إلى البيت العتيق ) [ الحج : 33 ] وفي قوله : ( هديا بالغ الكعبة ) [ المائدة : 95 ] ولا شك أن المراد منه الحرم ، فإن البيت عينه لا يراق فيه الدماء .
جوابه : قال - رضي الله عنه : كل ما وجب على المحرم في ماله من بدنة وجزاء هدي فلا يجزي إلا في الحرم لمساكين أهله إلا في موضعين : الشافعي
أحدهما : من ساق هديا فعطف في طريقه ذبحه وخلى بينه وبين المساكين .
والثاني : دم المحصر بالعدو فإنه ينحر حيث حبس ، فالآيات التي ذكرتموها في سائر الدماء فلم قلتم إنها تتناول هذه الصورة .
الثالث : قالوا : الهدي سمي هديا لأنه جار مجرى الهدية التي يبعثها العبد إلى ربه ، والهدية لا تكون هدية إلا إذا بعثها المهدي إلى دار المهدى إليه ، وهذا المعنى لا يتصور إلا بجعل موضع الهدي هو الحرم .
جوابه : هذا التمسك بالاسم ، ثم هو محمول على الأفضل عند القدرة .
الرابع : أن سائر دماء الحج كلها قربة كانت أو كفارة لا تصح إلا في الحرم ، فكذا هذا .
جوابه : أن هذا الدم إنما وجب لإزالة الخوف ، وزوال الخوف إنما يحصل إذا قدر عليه حيث أحصر ، أما لو وجب إرساله إلى الحرم لا يحصل هذا المقصود ، وهذا المعنى غير موجود في سائر الدماء فظهر الفرق .
المسألة الثالثة : هذه الآية دالة على أنه لا ينبغي لهم أن يحلوا فيحلقوا رؤوسهم إلا بعد تقديم ما استيسر من الهدي كما أنه أمرهم أن لا يناجوا الرسول إلا بعد تقديم الصدقة .