أما قوله تعالى : (
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=196تلك عشرة كاملة ) فقد طعن الملحدون لعنهم الله فيه من وجهين :
أحدهما : أن المعلوم بالضرورة أن الثلاثة والسبعة عشرة ، فذكره يكون إيضاحا للواضح .
والثاني : أن قوله : (
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=196كاملة ) يوهم وجود عشرة غير كاملة في كونها عشرة ، وذلك محال ، والعلماء ذكروا أنواعا من الفوائد في هذا الكلام :
الأول : أن
nindex.php?page=treesubj&link=20928الواو في قوله : ( nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=196وسبعة إذا رجعتم ) ليس نصا قاطعا في الجمع ، بل قد تكون بمعنى أو كما في قوله : (
nindex.php?page=tafseer&surano=4&ayano=3مثنى وثلاث ورباع ) [النساء : 3] وكما في قولهم : جالس الحسن وابن سيرين أي جالس هذا أو هذا ، فالله تعالى ذكر قوله : (
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=196عشرة كاملة ) إزالة لهذا الوهم .
النوع الثاني : أن المعتاد أن يكون البدل أضعف حالا من المبدل كما في التيمم مع الماء ، فالله تعالى بين أن هذا البدل ليس كذلك ، بل هو كامل في كونه قائما مقام المبدل ؛ ليكون الفاقد للهدي المتحمل لكلفة الصوم ساكن النفس إلى ما حصل له من الأجر الكامل من عند الله ، وذكر العشرة إنما هو لصحة التوصل به إلى قوله : ( كاملة ) كأنه لو قال : تلك كاملة ، جوز أن يراد به الثلاثة المفردة عن السبعة ، أو السبعة المفردة عن الثلاثة ، فلا بد في هذا من ذكر العشرة ، ثم اعلم أن قوله : ( كاملة ) يحتمل بيان الكمال من ثلاثة أوجه :
أحدها : أنها كاملة في البدل عن الهدي قائمة مقامه .
وثانيها : أنها كاملة في أن ثواب صاحبه كامل مثل ثواب من يأتي بالهدي من القادرين عليه .
وثالثها : أنها كاملة في أن حج المتمتع إذا أتى بهذا الصيام يكون كاملا مثل حج من لم يأت بهذا التمتع .
النوع الثالث : أن الله تعالى إذا قال : أوجبت عليكم الصيام عشرة أيام ، لم يبعد أن يكون هناك دليل يقتضي خروج بعض هذه الأيام عن هذا اللفظ ، فإن تخصيص العام كثير في الشرع والعرف ، فلو قال : ثلاثة أيام في الحج وسبعة إذا رجعتم ، بقي احتمال أن يكون مخصوصا بحسب بعض الدلائل المخصصة ، فإذا قال بعده : تلك عشرة كاملة ، فهذا يكون تنصيصا على أن هذا المخصص لم يوجد ألبتة ، فتكون دلالته أقوى واحتماله للتخصيص والنسخ أبعد .
النوع الرابع : أن مراتب الأعداد أربعة : آحاد ، وعشرات ، ومئين ، وألوف ، وما وراء ذلك فإما أن يكون مركبا أو مكسورا ، وكون العشرة عددا موصوفا بالكمال بهذا التفسير أمر يحتاج إلى التعريف ، فصار
[ ص: 134 ] تقدير الكلام : إنما أوجبت هذا العدد لكونه عددا موصوفا بصفة الكمال ، خاليا عن الكسر والتركيب .
النوع الخامس : أن التوكيد طريقة مشهورة في كلام العرب ، كقوله : (
nindex.php?page=tafseer&surano=22&ayano=46ولكن تعمى القلوب التي في الصدور ) [الحج : 46] وقال : (
nindex.php?page=tafseer&surano=6&ayano=38ولا طائر يطير بجناحيه ) [الأنعام : 38 ] . والفائدة فيه أن الكلام الذي يعبر عنه بالعبارات الكثيرة ، ويعرف بالصفات الكثيرة ، أبعد عن السهو والنسيان من الكلام الذي يعبر عنه بالعبارة الواحدة ، فالتعبير بالعبارات الكثيرة يدل على كونه في نفسه مشتملا على مصالح كثيرة ، ولا يجوز الإخلال بها ، أما ما عبر عنه بعبارة واحدة فإنه لا يعلم منه كونه مصلحة مهمة لا يجوز الإخلال بها ، وإذا كان التوكيد مشتملا على هذه الحكمة كان ذكره في هذا الموضع دلالة على أن رعاية العدد في هذا الصوم من المهمات التي لا يجوز إهمالها ألبتة .
النوع السادس : في بيان فائدة هذا الكلام أن هذا الخطاب مع العرب ، ولم يكونوا أهل حساب ، فبين الله تعالى ذلك بيانا قاطعا للشك والريب ، وهذا كما روي أنه قال في الشهر : هكذا وهكذا ، وأشار بيديه ثلاثا ، وأشار مرة أخرى وأمسك إبهامه في الثالثة منبها بالإشارة الأولى على ثلاثين ، وبالثانية على تسعة وعشرين .
النوع السابع : أن هذا الكلام يزيل الإبهام المتولد من تصحيف الخط ، وذلك لأن سبعة وتسعة متشابهتان في الخط ، فإذا قال بعده : تلك عشرة كاملة زال هذا الاشتباه .
النوع الثامن : أن قوله : (
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=196فصيام ثلاثة أيام في الحج وسبعة إذا رجعتم ) يحتمل أن يكون المراد منه أن يكون الواجب بعد الرجوع أن يكمل سبعة أيام ، على أنه يحسب من هذه السبعة تلك الثلاثة المتقدمة ، حتى يكون الباقي عليه بعد من الحج أربعة سوى تلك الثلاثة المتقدمة ، ويحتمل أن يكون المراد منه أن يكون الواجب بعد الرجوع سبعة سوى تلك الثلاثة المتقدمة ، فهذا الكلام محتمل لهذين الوجهين ، فإذا قال بعده تلك عشرة كاملة زال هذا الإشكال ، وبين أن الواجب بعد الرجوع سبعة سوى الثلاثة المتقدمة .
النوع التاسع : أن اللفظ وإن كان خبرا لكن المعنى أمر ، والتقدير : فلتكن تلك الصيامات صيامات كاملة ؛ لأن الحج المأمور به حج تام على ما قال : (
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=196وأتموا الحج والعمرة لله ) وهذه الصيامات جبرانات للخلل الواقع في ذلك الحج ، فلتكن هذه الصيامات صيامات كاملة حتى يكون جابرا للخلل الواقع في ذلك الحج ، الذي يجب أن يكون تاما كاملا ، والمراد بكون هذه الصيامات كاملة ما ذكرنا في بيان كون الحج تاما ، وإنما عدل عن لفظ الأمر إلى لفظ الخبر ؛ لأن التكليف بالشيء إذا كان متأكدا جدا فالظاهر دخول المكلف به في الوجود ، فلهذا السبب جاز أن يجعل الإخبار عن الشيء بالوقوع كناية عن تأكد الأمر به ، ومبالغة الشرع في إيجابه .
النوع العاشر : أنه سبحانه وتعالى لما أمر بصيام ثلاثة أيام في الحج وسبعة بعد الرجوع من الحج ، فليس في هذا القدر بيان أنه طاعة عظيمة كاملة عند الله سبحانه وتعالى ، فلما قال بعده : (
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=196تلك عشرة كاملة ) دل ذلك على أن هذه الطاعة في غاية الكمال ، وذلك لأن الصوم مضاف إلى الله تعالى بلام الاختصاص على ما قال تعالى : "الصوم لي" والحج أيضا مضاف إلى الله تعالى بلام الاختصاص ، على ما قال : (
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=196وأتموا الحج والعمرة لله ) وكما دل النص على مزيد اختصاص لهاتين العبادتين بالله سبحانه وتعالى ، فالعقل دل أيضا على ذلك ، أما في حق الصوم فلأنه عبادة لا يطلع العقل ألبتة على وجه الحكمة فيها ، وهو مع ذلك شاق على النفس جدا ، فلا جرم لا يؤتى به إلا لمحض مرضاة الله تعالى ،
nindex.php?page=treesubj&link=3277والحج أيضا عبادة لا يطلع العقل ألبتة على [ ص: 135 ] وجه الحكمة فيها ، وهو مع ذلك شاق جدا ؛ لأنه يوجب مفارقة الأهل والوطن ، ويوجب التباعد عن أكثر اللذات ، فلا جرم لا يؤتى به إلا لمحض مرضاته ، ثم إن هذه الأيام العشرة بعضه واقع في زمان الحج فيكون جمعا بين شيئين شاقين جدا ، وبعضه واقع بعد الفراغ من الحج ، وهو انتقال من شاق إلى شاق ، ومعلوم أن ذلك سبب لكثرة الثواب وعلو الدرجة ؛ فلا جرم أوجب الله تعالى صيام هذه الأيام العشرة ، وشهد سبحانه على أنه عبادة في غاية الكمال والعلو ، فقال : (
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=196تلك عشرة كاملة ) فإن التنكير في هذا الموضع يدل على تعظيم الحال ، فكأنه قال : عشرة وأية عشرة ، عشرة كاملة ، فقد ظهر بهذه الوجوه العشرة اشتمال هذه الكلمة على هذه الفوائد النفيسة ، وسقط بهذا البيان طعن الملحدين في هذه الآية والحمد لله رب العالمين .
أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى : (
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=196تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ ) فَقَدْ طَعَنَ الْمُلْحِدُونَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فِيهِ مِنْ وَجْهَيْنِ :
أَحَدُهُمَا : أَنَّ الْمَعْلُومَ بِالضَّرُورَةِ أَنَّ الثَّلَاثَةَ وَالسَّبْعَةَ عَشَرَةٌ ، فَذِكْرُهُ يَكُونُ إِيضَاحًا لِلْوَاضِحِ .
وَالثَّانِي : أَنَّ قَوْلَهُ : (
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=196كَامِلَةٌ ) يُوهِمُ وُجُودَ عَشَرَةٍ غَيْرِ كَامِلَةٍ فِي كَوْنِهَا عَشَرَةً ، وَذَلِكَ مُحَالٌ ، وَالْعُلَمَاءُ ذَكَرُوا أَنْوَاعًا مِنَ الْفَوَائِدِ فِي هَذَا الْكَلَامِ :
الْأَوَّلُ : أَنَّ
nindex.php?page=treesubj&link=20928الْوَاوَ فِي قَوْلِهِ : ( nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=196وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ ) لَيْسَ نَصًّا قَاطِعًا فِي الْجَمْعِ ، بَلْ قَدْ تَكُونُ بِمَعْنَى أَوْ كَمَا فِي قَوْلِهِ : (
nindex.php?page=tafseer&surano=4&ayano=3مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ ) [النِّسَاءِ : 3] وَكَمَا فِي قَوْلِهِمْ : جَالِسِ الْحَسَنَ وَابْنَ سِيرِينَ أَيْ جَالِسْ هَذَا أَوْ هَذَا ، فَاللَّهُ تَعَالَى ذَكَرَ قَوْلَهُ : (
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=196عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ ) إِزَالَةً لِهَذَا الْوَهْمِ .
النَّوْعُ الثَّانِي : أَنَّ الْمُعْتَادَ أَنْ يَكُونَ الْبَدَلُ أَضْعَفَ حَالًا مِنَ الْمُبْدَلِ كَمَا فِي التَّيَمُّمِ مَعَ الْمَاءِ ، فَاللَّهُ تَعَالَى بَيَّنَ أَنَّ هَذَا الْبَدَلَ لَيْسَ كَذَلِكَ ، بَلْ هُوَ كَامِلٌ فِي كَوْنِهِ قَائِمًا مَقَامَ الْمُبْدَلِ ؛ لِيَكُونَ الْفَاقِدُ لِلْهَدْيِ الْمُتَحَمِّلُ لِكُلْفَةِ الصَّوْمِ سَاكِنَ النَّفْسِ إِلَى مَا حَصَلَ لَهُ مِنَ الْأَجْرِ الْكَامِلِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ ، وَذِكْرُ الْعَشَرَةِ إِنَّمَا هُوَ لِصِحَّةِ التَّوَصُّلِ بِهِ إِلَى قَوْلِهِ : ( كَامِلَةٌ ) كَأَنَّهُ لَوْ قَالَ : تِلْكَ كَامِلَةٌ ، جَوَّزَ أَنْ يُرَادَ بِهِ الثَّلَاثَةُ الْمُفْرَدَةُ عَنِ السَّبْعَةِ ، أَوِ السَّبْعَةُ الْمُفْرَدَةُ عَنِ الثَّلَاثَةِ ، فَلَا بُدَّ فِي هَذَا مِنْ ذِكْرِ الْعَشَرَةِ ، ثُمَّ اعْلَمْ أَنَّ قَوْلَهُ : ( كَامِلَةٌ ) يَحْتَمِلُ بَيَانَ الْكَمَالِ مِنْ ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ :
أَحَدُهَا : أَنَّهَا كَامِلَةٌ فِي الْبَدَلِ عَنِ الْهَدْيِ قَائِمَةٌ مَقَامَهُ .
وَثَانِيهَا : أَنَّهَا كَامِلَةٌ فِي أَنَّ ثَوَابَ صَاحِبِهِ كَامِلٌ مِثْلُ ثَوَابِ مَنْ يَأْتِي بِالْهَدْيِ مِنَ الْقَادِرِينَ عَلَيْهِ .
وَثَالِثُهَا : أَنَّهَا كَامِلَةٌ فِي أَنَّ حَجَّ الْمُتَمَتِّعِ إِذَا أَتَى بِهَذَا الصِّيَامِ يَكُونُ كَامِلًا مِثْلَ حَجِّ مَنْ لَمْ يَأْتِ بِهَذَا التَّمَتُّعِ .
النَّوْعُ الثَّالِثُ : أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى إِذَا قَالَ : أَوْجَبْتُ عَلَيْكُمُ الصِّيَامَ عَشَرَةَ أَيَّامٍ ، لَمْ يَبْعُدْ أَنْ يَكُونَ هُنَاكَ دَلِيلٌ يَقْتَضِي خُرُوجَ بَعْضِ هَذِهِ الْأَيَّامِ عَنْ هَذَا اللَّفْظِ ، فَإِنَّ تَخْصِيصَ الْعَامِّ كَثِيرٌ فِي الشَّرْعِ وَالْعُرْفِ ، فَلَوْ قَالَ : ثَلَاثَةُ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٌ إِذَا رَجَعْتُمْ ، بَقِيَ احْتِمَالُ أَنْ يَكُونَ مَخْصُوصًا بِحَسَبِ بَعْضِ الدَّلَائِلِ الْمُخَصَّصَةِ ، فَإِذَا قَالَ بَعْدَهُ : تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ ، فَهَذَا يَكُونُ تَنْصِيصًا عَلَى أَنَّ هَذَا الْمُخَصَّصَ لَمْ يُوجَدْ أَلْبَتَّةَ ، فَتَكُونَ دَلَالَتُهُ أَقْوَى وَاحْتِمَالُهُ لِلتَّخْصِيصِ وَالنَّسْخِ أَبْعَدَ .
النَّوْعُ الرَّابِعُ : أَنَّ مَرَاتِبَ الْأَعْدَادِ أَرْبَعَةٌ : آحَادٌ ، وَعَشَرَاتٌ ، وَمِئِينَ ، وَأُلُوفٌ ، وَمَا وَرَاءَ ذَلِكَ فَإِمَّا أَنْ يَكُونَ مُرَكَّبًا أَوْ مَكْسُورًا ، وَكَوْنُ الْعَشَرَةُ عَدَدًا مَوْصُوفًا بِالْكَمَالِ بِهَذَا التَّفْسِيرِ أَمْرٌ يَحْتَاجُ إِلَى التَّعْرِيفِ ، فَصَارَ
[ ص: 134 ] تَقْدِيرُ الْكَلَامِ : إِنَّمَا أَوْجَبْتُ هَذَا الْعَدَدَ لِكَوْنِهِ عَدَدًا مَوْصُوفًا بِصِفَةِ الْكَمَالِ ، خَالِيًا عَنِ الْكَسْرِ وَالتَّرْكِيبِ .
النَّوْعُ الْخَامِسُ : أَنَّ التَّوْكِيدَ طَرِيقَةٌ مَشْهُورَةٌ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ ، كَقَوْلِهِ : (
nindex.php?page=tafseer&surano=22&ayano=46وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ ) [الْحَجِّ : 46] وَقَالَ : (
nindex.php?page=tafseer&surano=6&ayano=38وَلَا طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ ) [الْأَنْعَامِ : 38 ] . وَالْفَائِدَةُ فِيهِ أَنَّ الْكَلَامَ الَّذِي يُعَبَّرُ عَنْهُ بِالْعِبَارَاتِ الْكَثِيرَةِ ، وَيُعْرَفُ بِالصِّفَاتِ الْكَثِيرَةِ ، أَبْعَدُ عَنِ السَّهْوِ وَالنِّسْيَانِ مِنَ الْكَلَامِ الَّذِي يُعَبَّرُ عَنْهُ بِالْعِبَارَةِ الْوَاحِدَةِ ، فَالتَّعْبِيرُ بِالْعِبَارَاتِ الْكَثِيرَةِ يَدُلُّ عَلَى كَوْنِهِ فِي نَفْسِهِ مُشْتَمِلًا عَلَى مَصَالِحَ كَثِيرَةٍ ، وَلَا يَجُوزُ الْإِخْلَالُ بِهَا ، أَمَّا مَا عُبِّرَ عَنْهُ بِعِبَارَةٍ وَاحِدَةٍ فَإِنَّهُ لَا يُعْلَمُ مِنْهُ كَوْنُهُ مَصْلَحَةً مُهِمَّةً لَا يَجُوزُ الْإِخْلَالُ بِهَا ، وَإِذَا كَانَ التَّوْكِيدُ مُشْتَمِلًا عَلَى هَذِهِ الْحِكْمَةِ كَانَ ذِكْرُهُ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ دَلَالَةً عَلَى أَنَّ رِعَايَةَ الْعَدَدِ فِي هَذَا الصَّوْمِ مِنَ الْمُهِمَّاتِ الَّتِي لَا يَجُوزُ إِهْمَالُهَا أَلْبَتَّةَ .
النَّوْعُ السَّادِسُ : فِي بَيَانِ فَائِدَةِ هَذَا الْكَلَامِ أَنَّ هَذَا الْخِطَابَ مَعَ الْعَرَبِ ، وَلَمْ يَكُونُوا أَهْلَ حِسَابٍ ، فَبَيَّنَ اللَّهُ تَعَالَى ذَلِكَ بَيَانًا قَاطِعًا لِلشَّكِّ وَالرَّيْبِ ، وَهَذَا كَمَا رُوِيَ أَنَّهُ قَالَ فِي الشَّهْرِ : هَكَذَا وَهَكَذَا ، وَأَشَارَ بِيَدَيْهِ ثَلَاثًا ، وَأَشَارَ مَرَّةً أُخْرَى وَأَمْسَكَ إِبْهَامَهُ فِي الثَّالِثَةِ مُنَبِّهًا بِالْإِشَارَةِ الْأُولَى عَلَى ثَلَاثِينَ ، وَبِالثَّانِيَةِ عَلَى تِسْعَةٍ وَعِشْرِينَ .
النَّوْعُ السَّابِعُ : أَنَّ هَذَا الْكَلَامَ يُزِيلُ الْإِبْهَامَ الْمُتَوَلِّدَ مِنْ تَصْحِيفِ الْخَطِّ ، وَذَلِكَ لِأَنَّ سَبْعَةً وَتِسْعَةً مُتَشَابِهَتَانِ فِي الْخَطِّ ، فَإِذَا قَالَ بَعْدَهُ : تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ زَالَ هَذَا الِاشْتِبَاهُ .
النَّوْعُ الثَّامِنُ : أَنَّ قَوْلَهُ : (
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=196فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ ) يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ مِنْهُ أَنْ يَكُونَ الْوَاجِبُ بَعْدَ الرُّجُوعِ أَنْ يُكْمِلَ سَبْعَةَ أَيَّامٍ ، عَلَى أَنَّهُ يَحْسُبُ مِنْ هَذِهِ السَّبْعَةِ تِلْكَ الثَّلَاثَةَ الْمُتَقَدِّمَةَ ، حَتَّى يَكُونَ الْبَاقِي عَلَيْهِ بَعْدُ مِنَ الْحَجِّ أَرْبَعَةً سِوَى تِلْكَ الثَّلَاثَةِ الْمُتَقَدِّمَةِ ، وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ مِنْهُ أَنْ يَكُونَ الْوَاجِبُ بَعْدَ الرُّجُوعِ سَبْعَةً سِوَى تِلْكَ الثَّلَاثَةِ الْمُتَقَدِّمَةِ ، فَهَذَا الْكَلَامُ مُحْتَمِلٌ لِهَذَيْنِ الْوَجْهَيْنِ ، فَإِذَا قَالَ بَعْدَهُ تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ زَالَ هَذَا الْإِشْكَالُ ، وَبَيَّنَ أَنَّ الْوَاجِبَ بَعْدَ الرُّجُوعِ سَبْعَةٌ سِوَى الثَّلَاثَةِ الْمُتَقَدِّمَةِ .
النَّوْعُ التَّاسِعُ : أَنَّ اللَّفْظَ وَإِنْ كَانَ خَبَرًا لَكِنَّ الْمَعْنَى أَمْرٌ ، وَالتَّقْدِيرُ : فَلْتَكُنْ تِلْكَ الصِّيَامَاتُ صِيَامَاتٍ كَامِلَةً ؛ لِأَنَّ الْحَجَّ الْمَأْمُورَ بِهِ حَجٌّ تَامٌّ عَلَى مَا قَالَ : (
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=196وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ ) وَهَذِهِ الصِّيَامَاتُ جُبْرَانَاتٌ لِلْخَلَلِ الْوَاقِعِ فِي ذَلِكَ الْحَجِّ ، فَلْتَكُنْ هَذِهِ الصِّيَامَاتُ صِيَامَاتٍ كَامِلَةً حَتَّى يَكُونَ جَابِرًا لِلْخَلَلِ الْوَاقِعِ فِي ذَلِكَ الْحَجِّ ، الَّذِي يَجِبُ أَنْ يَكُونَ تَامًّا كَامِلًا ، وَالْمُرَادُ بِكَوْنِ هَذِهِ الصِّيَامَاتِ كَامِلَةً مَا ذَكَرْنَا فِي بَيَانِ كَوْنِ الْحَجِّ تَامًّا ، وَإِنَّمَا عُدِلَ عَنْ لَفْظِ الْأَمْرِ إِلَى لَفْظِ الْخَبَرِ ؛ لِأَنَّ التَّكْلِيفَ بِالشَّيْءِ إِذَا كَانَ مُتَأَكَّدًا جِدًّا فَالظَّاهِرُ دُخُولُ الْمُكَلَّفِ بِهِ فِي الْوُجُودِ ، فَلِهَذَا السَّبَبِ جَازَ أَنْ يُجْعَلَ الْإِخْبَارُ عَنِ الشَّيْءِ بِالْوُقُوعِ كِنَايَةً عَنْ تَأَكُّدِ الْأَمْرِ بِهِ ، وَمُبَالَغَةِ الشَّرْعِ فِي إِيجَابِهِ .
النَّوْعُ الْعَاشِرُ : أَنَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى لَمَّا أَمَرَ بِصِيَامِ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ بَعْدَ الرُّجُوعِ مِنَ الْحَجِّ ، فَلَيْسَ فِي هَذَا الْقَدْرِ بَيَانُ أَنَّهُ طَاعَةٌ عَظِيمَةٌ كَامِلَةٌ عِنْدَ اللَّهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى ، فَلَمَّا قَالَ بَعْدَهُ : (
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=196تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ ) دَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ هَذِهِ الطَّاعَةَ فِي غَايَةِ الْكَمَالِ ، وَذَلِكَ لِأَنَّ الصَّوْمَ مُضَافٌ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى بِلَامِ الِاخْتِصَاصِ عَلَى مَا قَالَ تَعَالَى : "الصَّوْمُ لِي" وَالْحَجُّ أَيْضًا مُضَافٌ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى بِلَامِ الِاخْتِصَاصِ ، عَلَى مَا قَالَ : (
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=196وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ ) وَكَمَا دَلَّ النَّصُّ عَلَى مَزِيدِ اخْتِصَاصٍ لِهَاتَيْنِ الْعِبَادَتَيْنِ بِاللَّهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى ، فَالْعَقْلُ دَلَّ أَيْضًا عَلَى ذَلِكَ ، أَمَّا فِي حَقِّ الصَّوْمِ فَلِأَنَّهُ عِبَادَةٌ لَا يَطَّلِعُ الْعَقْلُ أَلْبَتَّةَ عَلَى وَجْهِ الْحِكْمَةِ فِيهَا ، وَهُوَ مَعَ ذَلِكَ شَاقٌّ عَلَى النَّفْسِ جِدًّا ، فَلَا جَرَمَ لَا يُؤْتَى بِهِ إِلَّا لِمَحْضِ مَرْضَاةِ اللَّهِ تَعَالَى ،
nindex.php?page=treesubj&link=3277وَالْحَجُّ أَيْضًا عِبَادَةٌ لَا يَطَّلِعُ الْعَقْلُ أَلْبَتَّةَ عَلَى [ ص: 135 ] وَجْهِ الْحِكْمَةِ فِيهَا ، وَهُوَ مَعَ ذَلِكَ شَاقٌّ جِدًّا ؛ لِأَنَّهُ يُوجِبُ مُفَارَقَةَ الْأَهْلِ وَالْوَطَنِ ، وَيُوجِبُ التَّبَاعُدَ عَنْ أَكْثَرِ اللَّذَّاتِ ، فَلَا جَرَمَ لَا يُؤْتَى بِهِ إِلَّا لِمَحْضِ مَرْضَاتِهِ ، ثُمَّ إِنَّ هَذِهِ الْأَيَّامَ الْعَشَرَةَ بَعْضُهُ وَاقِعٌ فِي زَمَانِ الْحَجِّ فَيَكُونُ جَمْعًا بَيْنَ شَيْئَيْنِ شَاقَّيْنِ جِدًّا ، وَبَعْضُهُ وَاقِعٌ بَعْدَ الْفَرَاغِ مِنَ الْحَجِّ ، وَهُوَ انْتِقَالٌ مَنْ شَاقٍّ إِلَى شَاقٍّ ، وَمَعْلُومٌ أَنَّ ذَلِكَ سَبَبٌ لِكَثْرَةِ الثَّوَابِ وَعُلُوِّ الدَّرَجَةِ ؛ فَلَا جَرَمَ أَوْجَبَ اللَّهُ تَعَالَى صِيَامَ هَذِهِ الْأَيَّامِ الْعَشَرَةِ ، وَشَهِدَ سُبْحَانَهُ عَلَى أَنَّهُ عِبَادَةٌ فِي غَايَةِ الْكَمَالِ وَالْعُلُوِّ ، فَقَالَ : (
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=196تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ ) فَإِنَّ التَّنْكِيرَ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ يَدُلُّ عَلَى تَعْظِيمِ الْحَالِ ، فَكَأَنَّهُ قَالَ : عَشَرَةٌ وَأَيَّةُ عَشَرَةٍ ، عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ ، فَقَدْ ظَهَرَ بِهَذِهِ الْوُجُوهِ الْعَشَرَةِ اشْتِمَالُ هَذِهِ الْكَلِمَةِ عَلَى هَذِهِ الْفَوَائِدِ النَّفِيسَةِ ، وَسَقَطَ بِهَذَا الْبَيَانِ طَعْنُ الْمُلْحِدِينَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ .