[ ص: 24 ] فصل . 
في مولد  الشافعي  رضي الله عنه ووفاته ، وذكر نبذ من أموره ، وحالاته ، وأجمعوا أنه ولد سنة خمسين ومائة ، وهي السنة التي توفي فيها  أبو حنيفة  رحمه الله ، وقيل إنه توفي في اليوم الذي ولد فيه  الشافعي  ، ولم يثبت التقييد باليوم ، ثم المشهور الذي عليه الجمهور أن  الشافعي  ولد بغزة  ، وقيل : بعسقلان  ، وهما من الأراضي المقدسة  التي بارك الله فيها ، فإنهما على نحو مرحلتين من بيت المقدس  ، ثم حمل إلى مكة  ، وهو ابن سنتين ، وتوفي بمصر  سنة أربع ، ومائتين ، وهو ابن أربع ، وخمسين سنة قال الربيع :  توفي  الشافعي  رحمه الله ليلة الجمعة بعد المغرب ، وأنا عنده ، ودفن بعد العصر يوم الجمعة آخر يوم من رجب سنة أربع ومائتين ، وقبره رضي الله عنه بمصر  عليه من الجلالة ، وله من الاحترام ما هو لائق بمنصب ذلك الإمام . 
قال الربيع :  رأيت في المنام أن آدم  صلى الله عليه وسلم مات ، فسألت عن ذلك فقيل : هذا موت أعلم أهل الأرض ; لأن الله تعالى علم آدم  الأسماء كلها ، فما كان إلا يسيرا حتى مات  الشافعي  ، ورأى غيره ليلة مات  الشافعي  قائلا يقول : الليلة مات النبي صلى الله عليه وسلم ونشأ يتيما في حجر أمه في قلة من العيش ، وضيق حال ، وكان في صباه يجالس العلماء ، ويكتب ما يستفيده في العظام ، ونحوها ، حتى ملأ منها خبايا ، وعن  مصعب بن عبد الله الزبيري  قال : كان  الشافعي  رحمه الله في ابتداء أمره يطلب الشعر ، وأيام العرب ، والأدب ، ثم أخذ في الفقه بعد ، قال : وكان سبب أخذه في العلم أنه كان يوما يسير على دابة له ، وخلفه كاتب لأبي ، فتمثل ببيت شعر فقرعه كاتب أبي بسوطه ثم قال له : مثلك يذهب بمروءته في مثل هذا ؟ أين أنت من الفقه ؟ فهزه ذلك فقصد مجالسة الزنجي مسلم بن خالد  ، وكان مفتي مكة  ، ثم قدم علينا فلزم  مالك بن أنس  ، وعن  الشافعي  رحمه الله قال : كنت أنظر في الشعر فارتقيت عقبة بمنى  ، فإذا صوت من خلفي : عليك بالفقه ، وعن الحميدي  قال : قال  الشافعي    : خرجت أطلب النحو ، والأدب فلقيني  مسلم بن خالد الزنجي  فقال : يا فتى من أين أنت ؟ قلت : من أهل مكة  قال : أين منزلك ؟ قلت : شعب بالخيف  قال : من أي قبيلة أنت ؟ قلت : من عبد مناف  قال : بخ بخ لقد شرفك الله في الدنيا ، والآخرة ، ألا جعلت فهمك في هذا الفقه فكان أحسن بك ؟  [ ص: 25 ] 
ثم رحل  الشافعي  من مكة  إلى المدينة  قاصدا الأخذ عن أبي عبد الله مالك بن أنس  رحمه الله ، وفي رحلته مصنف مشهور مسموع ، فلما قدم عليه قرأ عليه الموطأ حفظا ، فأعجبته قراءته ، ولازمه ، وقال له  مالك    : اتق الله ، واجتنب المعاصي فإنه سيكون لك شأن ، وفي رواية أخرى أنه قال له : إن الله عز وجل قد ألقى على قلبك نورا فلا تطفه بالمعاصي ، وكان  للشافعي  رحمه الله حين أتى  مالكا  ثلاث عشرة سنة ثم نزل باليمن    . 
واشتهر من حسن سيرته ، وحمله الناس على السنة ، والطرائق الجميلة أشياء كثيرة معروفة . ثم ترك ذلك ، وأخذ في الاشتغال بالعلوم ، ورحل إلى العراق  ، وناظر  محمد بن الحسن  ، وغيره ، ونشر علم الحديث ، ومذهب أهله ، ونصر السنة ، وشاع ذكره ، وفضله ، وطلب منه  عبد الرحمن بن مهدي  إمام أهل الحديث في عصره أن يصنف كتابا في أصول الفقه فصنف كتاب الرسالة ، وهو أول كتاب صنف في أصول الفقه ، وكان عبد الرحمن   ويحيى بن سعيد القطان  يعجبان به ، وكان القطان  ،  وأحمد بن حنبل  يدعوان  للشافعي  في صلاتهما . 
وأجمع الناس على استحسان رسالته ، وأقوالهم في ذلك مشهورة ، وقال  المزني    : قرأت الرسالة خمسمائة مرة ما من مرة إلا واستفدت منها فائدة جديدة ، وفي رواية عنه قال : أنا أنظر في الرسالة من خمسين سنة ، ما أعلم أني نظرت فيها مرة إلا ، واستفدت شيئا لم أكن عرفته . 
واشتهرت جلالة  الشافعي  رحمه الله في العراق  ، وسار ذكره في الآفاق ، وأذعن بفضله الموافقون ، والمخالفون ، واعترف بذلك العلماء أجمعون ، وعظمت عند الخلفاء ، وولاة الأمور مرتبته ، واستقرت عندهم جلالته ، وإمامته ، وظهر من فضله في مناظراته أهل العراق  ، وغيرهم ما لم يظهر لغيره ، وأظهر من بيان القواعد ، ومهمات الأصول ما لا يعرف لسواه ، وامتحن في مواطن بما لا يحصى من المسائل ، فكان جوابه فيها من الصواب ، والسداد بالمحل الأعلى ، والمقام الأسمى ، وعكف عليه للاستفادة منه الصغار ، والكبار ، والأئمة ، والأخيار ، من أهل الحديث ، والفقه ، وغيرهم ، ورجع كثيرون منهم عن مذاهب كانوا عليها إلى مذهبه ، وتمسكوا بطريقته ،  كأبي ثور  ، وخلائق لا يحصون ، وترك كثير منهم الأخذ عن شيوخهم ، وكبار الأئمة ، لانقطاعهم إلى  الشافعي  لما رأوا عنده ما لا يجدونه عند غيره ، وبارك الله الكريم له ، ولهم في تلك العلوم الباهرة ، والمحاسن المتظاهرة ، والخيرات المتكاثرة ، ولله الحمد على ذلك ، وعلى سائر نعمه التي لا تحصى . 
وصنف في العراق  كتابه القديم ، ويسمى كتاب الحجة ، ويرويه عنه أربعة من جلة أصحابه ، وهم  أحمد بن حنبل  ،  ، وأبو ثور  ، والزعفراني  ، ، والكرابيسي    . 
 [ ص: 26 ] ثم خرج إلى مصر  سنة تسع وتسعين ، ومائة . قال أبو عبد الله حرملة بن يحيى    : قدم علينا  الشافعي  مصر  سنة تسع وتسعين ومائة ، وقال الربيع    : سنة مائتين ، ولعله قدم في آخر سنة تسع جمعا بين الروايتين ، وصنف كتبه الجديدة كلها بمصر  ، وسار ذكره في البلدان ، وقصده الناس من الشام  ، والعراق  ، واليمن  ، وسائر النواحي للأخذ عنه ، وسماع كتبه الجديدة ، ، وأخذها عنه ، وساد أهل مصر  ، وغيرهم ، وابتكر كتبا لم يسبق إليها ، منها أصول الفقه ، ومنها كتاب القسامة ، وكتاب الجزية ، وقتال أهل البغي ، وغيرها . 
قال الإمام أبو الحسن محمد بن عبد الله بن جعفر الرازي  في كتابه ( مناقب  الشافعي    ) : سمعت أبا عمرو أحمد بن علي بن الحسن البصري  قال : سمعت محمد بن حمدان بن سفيان الطرائفي البغدادي  يقول : حضرت الربيع بن سليمان  يوما ، وقد حط على باب داره سبعمائة راحلة في سماع كتب  الشافعي  رحمه الله ورضي الله عنه 
 
				 
				
 
						 
						

 
					 
					