( المسألة الثالثة ) إذا وفيها صورتان ( أحدهما ) أن يكون السقي يضر بالنخل وينفع الثمرة ، فأراد البائع السقي فوجهان . قال احتاج أحدهما إلى السقي وكان على الآخر ضرر يقال للمشتري : اسمح للبائع بالسقي . فإن سمح فذاك ، وإلا قلنا للبائع : اسمح بترك السقي . فإن سمح فذاك وإن أبى فسخنا العقد بينهما ، وقال أبو إسحاق : يجبر المشتري على ذلك وللبائع أن يسقي ، والأجرة على البائع . وحكى ابن أبي هريرة الإمام وجها ثالثا بمراعاة جانب المشتري لأن البائع ألزم تسليم الشجرة على كمالها . قال : [ ص: 111 ] وحقيقة الأوجه تئول إلى أن من أصحابنا من يرعى جانب المشتري ، ومنهم من يرعى جانب البائع . لا يقدم أحد الحقين على الآخر . وأبو إسحاق
( الصورة الثانية ) أن يكون السقي يضر بالثمرة وينفع الشجرة فأراد المشتري السقي . قال : يقال للبائع ، اسمح في أن يسقي المشتري . فإن سمح فذاك ، وإلا قلت للمشتري : اسمح في ترك البائع فإن سمح فذاك وإن أبى فسخنا البيع بينهما وقال أبو إسحاق : أجبر البائع على ذلك وأوجب الأجرة على المشتري ، لأنه على أن لا يضر بغيره وفيه الوجه الثالث الذي حكاه ابن أبي هريرة الإمام ويكون بينا لمراعاة جانب البائع ، وفي كل من الصورتين لو اتفقا على السقي أو تركه جاز ، قاله صاحب البيان وغيره ، وقد يخص المصنف هاتين الصورتين فيما ذكره وتبين بهذا التفصيل أن قوله : وتجب الأجرة على من يسقي من كلام ، وأما مراده بمن يسقي : البائع في الصورة الأولى والمشتري في الصورة الثانية . ويجوز أن يكون قوله : وتجب أجرة السقي على من يسقي كلاما مبتدأ غير مختص ابن أبي هريرة ، يعني حيث أوجبنا السقي فهو على من ينتفع به ، لا كمن باع ثمرة بعد بدو الصلاح ، فإنه يسقي ، والمنفعة للمشتري ، ويشمل ذلك ما إذا سقى البائع أو المشتري أو هما جميعا فتجب الأجرة عليهما ، كما صرح به بابن أبي هريرة الروياني وهو الظاهر ، والذي يسقي في الصورتين هو المطالب الذي أجبرنا الممتنع لأجله ، ومعنى الإجبار إجباره على تمكين الآخر من السقي ، وقول المصنف : " لأن منفعة السقي تحصل له " تعليل ظاهر في الطرفين ، وقد فهم ابن الرفعة من كلام الماوردي في هذه الصورة الثانية ، وقوله : إن لصاحب الثمرة منعه ، فإذا منعه كان لصاحب النخل فسخ البيع ففهم ابن الرفعة من ذلك قولا آخر . قال : وبذلك يكمل أربعة أوجه .
( ثالثها ) إن تراضيا على أحد الأمرين فذاك ، وإلا فسخه الحاكم .
( ورابعها ) الأمر كذلك إلا أن المتولي للفسخ البائع إن أراد ، وقد بقي من هذه المسائل مسألة ذكرها الشيخ أبو حامد والماوردي وغيرهما ، وتركها المصنف لوضوحها ، ولا خلاف فيها ، وهي إذا كان [ ص: 112 ] السقي يضر بالثمرة والنخل جميعا كان لكل منهما منع الآخر لأنه يدخل الضرر على صاحبه بغير منفعة تعود إليه فهو سفه وتضييع ، قاله الروياني ، وهذا إنما يتصور في غير النخل .
( أما ) النخل فينفعه السقي أبدا ، فلو قال صاحب الثمرة : أريد أن آخذ الماء الذي كنت أستحقه لسقي ثمرتي فأسقي به غيرها من الثمار أو الزروع لم يكن له ذلك ، وهكذا لو أخذ ثمرته قبل وقت جذاذها لم يكن له أن يأخذ الماء الذي كان يستحقه إلى وقت الجذاذ ، لأنه إنما يستحق من الماء ما فيه صلاح تلك الثمرة دون غيرها ، فقد كملت المسائل التي في أحوال السقي ستا شمل كلام المصنف خمسا ، وترك واحدة ، ومسائل ترك السقي سبعا ذكر المصنف منها في آخر كلامه واحدة وترك ستا ، وكلها مندرجة في كلام الماوردي ، والله أعلم .
( فائدة ) قال وغيره : قالوا : هلا قلتم في هذه المسائل : السقي على المشتري صاحب الشجرة كمن باع ثمرة منفردة عن الأصل بعد بدو صلاحها وعطشت ، حيث تجب أجرة السقي على صاحب الأصل ، وفرق هو وغيره من الأصحاب بأنه في مسألة البيع بعد بدو الصلاح يجب عليه تسليم الثمرة كاملة ، وذلك إنما يكون بالسقي وههنا الواجب على البائع تسليم النخل ، وقد سلمها ولم يملك الثمرة من جهة المشتري ، فكان بخلافه ، قال الشيخ أبو حامد ابن الرفعة : وحيث نقول بإجبار المشتري فلا خيار له ، أي في حال انتفاع الثمرة بالسقي .
( فرع ) حيث جعلنا للبائع السقي ، قال والأصحاب : وإنما له أن يسقي القدر الذي فيه صلاحه ، وليس له أن يسقي أكثر من المعهود بحيث يتضرر به صاحب النخل ، فإنه كما يحصل الضرر بالعطش المفرط يحصل بالري المفرط ، فإن اختلفا في ذلك فقال المشتري : في كل عشرة أيام سقية ، وقال البائع : في كل خمسة أيام سقية ، فالمرجع في ذلك إلى أهل الخبرة فما احتاج إليه أجبر الآخر عليه ، ولو قال أهل الخبرة : إن الثمرة لا تفسد بترك السقي ، بل تسلم الثمرة من غير سقي غير أنها لو سقيت لظهرت زيادة عظيمة ، [ ص: 113 ] والشجر يتضرر بها ، قال الشافعي الإمام : فهذا فيه احتمال عندي ، يجوز أن يقال : يمنع البائع ، فإن الزيادات لا تنضبط ، فالمرعي الاقتصاد . ويجوز أن يقال : أن يسقي لمكان الزيادة على مذهب من يراعي جانبه . وهذا بين أن محل الخلاف المتقدم عن أبي إسحاق إذا كان السقي يضر أحدهما فعله ويضر الآخر تركه وفي هذه المسألة لم يتعارض ضرران ، وإنما ضرر وزيادة نفع ، والذي ينبغي ترجيح اجتناب الضرر ومنع البائع من السقي ، والله أعلم . وأطلق وابن أبي هريرة الرافعي احتمال الإمام متى كان السقي يضر بواحد ، وتركه يمنع حصول زيادة للآخر ، وذلك يشمل الصورة المذكورة وعكسها في كل منهما ، هل يلحق ذلك بتقابل الضرر ؟ فيه احتمالان ، ولم أرهما في النهاية إلا في الحالة الواحدة ، وجعل الغزالي الاحتمالين المذكورين وجهين ، والمراد أنه على أحد الاحتمالين يأتي الخلاف السابق بين أبي إسحاق ، وعلى الاحتمال الآخر يتعين السقي ، والله أعلم . وابن أبي هريرة
( فرع ) القولان اللذان أطلقهما المصنف ، هل محلهما فيما إذا كان السقي متعذرا أو مطلقا ؟ كلام الغزالي والإمام يقتضي الأول وجزم في حالة الإمكان بوجوب السقي أو القطع على البائع ، وكلام يقتضي الثاني ، لكنه في حالة انقطاع الماء المعد لذلك وامكان غيره ، ورأى الشافعي ابن الرفعة كذلك تنزيل القولين على حالة إمكان السقي من غير الماء المعتاد ، وتنزيل الجزم بوجوب أحد الأمرين على ما إذا كان السقي ممكنا بالماء المعد لذلك . واستنبطه من كلام ، وقوله : أخذ صاحبه بقطعه إلا أن يسقيه متطوعا ، أخذ من ذلك أن الواجب عند إمكان السقي القطع عينا ، وله أن يسقطه بالسقي إلا أن الواجب أحد الأمرين ، كما يقول ذلك في المولى ، فإن لم يمكن السقي بحالة من الأحوال تعين وجوب القطع ، لأنه لا مسقط له ، ولا جرم كان هو الأصح عند الشافعي وغيره . وقال الكرخي النووي : إن هذين القولين فيما إذا كان للبائع نفع في ترك الثمرة ، فإن لم يكن وجب القطع قولا واحدا ، كذا قاله الإمام وصاحب التهذيب [ ص: 114 ] فرع ) ظاهر كلام الأصحاب أنه يجب السقي بالماء الذي جرت العادة أن يسقي منه تلك الأشجار ، ولو كان ملك المشتري بأن كان من بئر دخلت في العقد ، وقلنا بأنه يملك ماءها كما هو المذهب ، ولما كان استحقاق البائع لذلك من جهة الشرع اغتفر ، بخلاف ما لو شرط لنفسه انتفاعا بملك المشتري حيث يفسد العقد ، قال ابن الرفعة : لكن هذا يقتضي عدم استحقاق السقي إذا كانت الثمرة غير مؤبرة وشرطها البائع لنفسه فليتأمل .
( قلت : ) لا يقتضي ذلك فإن شرطه الثمرة غير المؤبرة لنفسه يصيرها بمنزلة الثمرة المؤبرة ، وحينئذ يكون وجوب السقي بالشرع وجوب الإبقاء ، وليس ذلك ، كما إذا شرط الانتفاع بملك المشتري ومن كون السقي واجبا من الماء المعتاد وإن كان ملك المشتري يستفاد ، معنى قول المصنف تجب أجرة السقي على من يسقي ، ولم يقل : تجب مؤنة السقي ، لأن الماء من جملة المؤنة ، وهو على المشتري وفي الصورة المذكورة وإنما يجب على من يسقي بها الأجرة في نقله ، وما أشبهه ، نعم تجب عليه أيضا الآلات التي يستقي بها المشتري إنما يلزم التمكين من الماء خاصة ، والله أعلم .
( فرع ) أما الأرجح من هذه الأوجه صحح الرافعي قول الفسخ كما هو قول أبي إسحاق . وصحح الغزالي في الوسيط مراعاة جانب المشتري والذي يقتضيه إطلاق نص يشهد لما قاله الشافعي فإنه قال : وإذا كان لا يصلحها إلا السقي فعلى المشتري تخلية البائع . وما يكفي من السقي فهذا في هذه الصورة موافق ابن أبي هريرة في إجبار المشتري ، فيحتمل أن يكون في عكسها يجبر البائع كما يقوله لابن أبي هريرة وهو الأقرب . ويحتمل أن يكون يقول بمراعاة جانب البائع مطلقا . وقال ابن أبي هريرة ابن الرفعة : إن ظاهر النص على ما صححه في الوجيز