" الثامنة عشرة " : قال الشيخ - رحمه الله - : ليس له أبو عمرو أن يفتي بالتفصيل ، بل يمنع مستفتيه وسائر العامة من الخوض في ذلك أو في شيء منه وإن قل . ويأمرهم بأن يقتصروا فيها على الإيمان جملة من غير تفصيل ، ويقولوا فيها وفي كل ما ورد من آيات الصفات وأخبارها المتشابهة : إن الثابت فيها في نفس الأمر ما هو اللائق فيها بجلال الله - تبارك وتعالى - ، وكماله وتقديسه المطلق ، فيقول معتقدنا فيها ، وليس علينا تفصيله وتعيينه ، وليس البحث عنه من شأننا ، بل نكل علم تفصيله إلى الله - تبارك وتعالى - ونصرف عن الخوض فيه قلوبنا وألسنتنا ، فهذا ونحوه هو الصواب من أئمة الفتوى في ذلك ، وهو سبيل سلف الأمة ، وأئمة المذاهب المعتبرة ، وأكابر العلماء والصالحين وهو أصون وأسلم للعامة وأشباههم ، ومن كان منهم اعتقد اعتقادا باطلا تفصيلا ، ففي هذا صرف له عن ذلك الاعتقاد الباطل بما هو أهون وأيسر وأسلم . إذا استفتي في شيء من المسائل الكلامية
[ ص: 90 ] وإذا عزر ولي الأمر من حاد منهم عن هذه الطريقة ، فقد تأسى رضي الله عنه في تعزير بعمر بن الخطاب ( صبيح ) بفتح الصاد المهملة الذي كان يسأل عن المتشابهات على ذلك . قال : والمتكلمون من أصحابنا معترفون بصحة هذه الطريقة ، وبأنها أسلم لمن سلمت له ، وكان الغزالي منهم في آخر أمره شديد المبالغة في الدعاء إليها والبرهنة عليها ، وذكر شيخه إمام الحرمين في كتابه الغياثي أن الإمام يحرص ما أمكنه على جمع الخلق على سلوك سبيل السلف في ذلك . واستفتي الغزالي في كلام الله - تبارك وتعالى - فكان من جوابه : وأما الخوض في أن كلامه تعالى حرف وصوت أو ليس كذلك فهو بدعة ، وكل من يدعو العوام إلى الخوض في هذا فليس من أئمة الدين ، وإنما هو من المضلين ، ومثاله من يدعو الصبيان الذين لا يحسنون السباحة إلى خوض البحر ، ومن يدعو الزمن المقعد إلى السفر في البراري من غير مركوب . وفي رسالة له : الصواب للخلق كلهم إلا الشاذ النادر ، الذي لا تسمح الأعصار إلا بواحد منهم أو اثنين - سلوك مسلك السلف في الإيمان المرسل ، والتصديق المجمل ، بكل ما أنزله الله تعالى ، وأخبر به رسول الله صلى الله عليه وسلم من غير بحث وتفتيش ، والاشتغال بالتقوى ففيه شغل شاغل .
وقال في كتابه أدب المفتي والمستفتي : إن مما أجمع عليه أهل الفتوى أن من كان موسوما بالفتوى في الفقه لم ينبغ ( وفي نسخة ) لم يجز له أن يضع خطه بفتوى في مسألة من علم الكلام ، قال : وكان بعضهم لا يستتم قراءة مثل هذه الرقعة قال : وكره بعضهم أن يكتب : ليس هذا من علمنا ، أو ما جلسنا لهذا ، والسؤال عن غير هذا أولى ، بل لا يتعرض لشيء من ذلك . وحكى الإمام الحافظ الفقيه الصيمري الامتناع من الكلام في كل ذلك عن الفقهاء والعلماء قديما وحديثا من أهل الحديث والفتوى ، قال : وإنما خالف ذلك أهل البدع ، قال الشيخ : فإن كانت المسألة مما يؤمن في تفصيل جوابها من ضرر الخوض المذكور جاز الجواب تفصيلا ، وذلك بأن يكون جوابها مختصرا مفهوما ، ليس لها أطراف يتجاذبها المتنازعون ، والسؤال عنه صادر عن مسترشد خاص منقاد ، أو من عامة قليلة التنازع والمماراة ، والمفتي ممن ينقادون لفتواه ونحو هذا ، وعلى هذا ونحوه يحمل ما جاء عن بعض السلف من بغض الفتوى في بعض المسائل الكلامية ، وذلك منهم قليل نادر والله أعلم . أبو عمرو بن عبد البر