الكفاءات المهاجرة
طلائع لحضارة الإسلام
د. محمد الغمقي
إن هـجرة العقول المسلمة ليست بمعزل عن واقع أوطان الهجرة. وإذا كان «البعض» قد اختار الهجرة للتحصيل العلمي، فإن هـجرته في حقيقة الأمر اضطرارية، لأنها تعبر عن عدم ارتقاء هـذه الأوطان إلى اكتفاء ذاتي على مستوى البحث العلمي ، والحال أنها تنتمي إلى أمة نزلت فيها كلمة ( اقرأ ) (العلق: 1) [1] ، كما تعبر عن ضعف حركة [ ص: 75 ] التعاون العلمي وتبادل الكفاءات العلمية بين هـذه الأوطان المنتمية للمنظومة الحضارية نفسها رغم ما لهذا التبادل من أهمية، والحاجة إليه في ظل وجود نسبة من خريجي الجامعات في البطالة، فتضطر هـذه العقول إلى الهجرة إلى بلاد تنتمي إلى منظومة حضارية أخرى.
وكثيرا ما تواجه الكفاءات التي "اختارت" الهجرة بانتقادات مثل أنها ضعيفة أمام الإغراءات المادية في بلاد الغرب..لكن المسألة أكثر تعقيدا من مجرد الحصول على امتيازات مادية في مستوى الجهود العلمية المبذولة. فهناك عوامل نفسية عميقة لدى الباحث منها الرغبة في التجديد والاكتشاف، خاصة ونحن في عصر العولمة وفي زمن العالم القرية وتقارب الشعوب والثقافات. فلا يمكن حصر الكفاءات في رقعة صغيرة ومنعها من السير في الأرض لتوسيع آفاقها، وهذه سنة التدافع الحضاري .
إذ «يعد حراك الطلبة وتنقلهم فيما بين البلدان عنصرا من عناصر التدويل المتزايد لكافة أنواع العلاقات بين الشعوب. وحركة الطلبة عبر المناطق والبلدان هـي في جانب منها استجابة النشء لوعيهم المتنامي بما يجري من تطورات عبر العالم ولمصلحتهم في تهيئة أنفسهم للحياة في عالم متكافل. وفي الوقت نفسه، تدرك الحكومات وأرباب [ ص: 76 ] العمل أنه إذا أريد ضمان الرخاء الإقليمي والفردي، فسيجب أن تتألف القوى العاملة في المستقبل من أناس أجيد تدريبهم ونما وعيهم بما يدور في العالم من حولهم» [2] .
والأهم من ذلك -وهنا جوهر المشكل-أن هـذه الكفاءات تبحث عن الفضاء الذي تجد فيه أقدارا من الاحترام لعلمها وضمان كرامتها والاعتراف بجميلها. وهو ما يصعب توفره في أوطان المهجر، حيث يشعر أصحاب هـذه الكفاءات في كثير من الحالات بالغربة داخل الوطن، وهو شعور أشد على النفس من وقع الحسام، ولسان حالهم يقول:
«هل سيتم الاكتفاء بالشعارات البراقة حول الدولة الحديثة مع تشغيل فئات دون المستوى اللائق أو الممكن؟ أم ستشرع الأبواب على مصراعيها لاستضافة "الخبراء الأجانب" بكلفتهم الباهظة وافتقارهم إلى قيم الولاء للأمة أو روح التضحية والمثابرة من أجلها..زيادة على احتمالية عدم تمتعهم بالفهم المتكامل لاحتياجات الأمة وظروفها؟..وهل التخلص من نير التخلف الحضاري الذي يلف [ ص: 77 ] أمتنا سيكون ممكنا مع الرضى بحالات العزلة القسرية التي يجد المبدعون المسلمون فيها ذواتهم؟» [3] .
وتتطور هـذه الغربة من أزمة شعورية إلى قطيعة في حال تأزم العلاقة بين السلطة والمثقفين الرافضين، في حال وجود استبداد سياسي.
لكن هـناك إشكال يتمثل في التركيز على الجوانب السلبية والخسارة التي تلحق العالم العربي والإسلامي جراء هـجرة هـذه الكفاءات واستقرار نسبة منها في بلاد المهجر. ولا شك أن كل نزيف في العقول له وجه سلبي، بالنظر إلى نوعية هـذه الهجرة التي تأخذ معها طاقات إبداعية يستفيد منها المجتمع الأم.
ولكن إذا أمعنا النظر، فإن هـذه الهجرة لها أوجه إيجابية إذا نظرنا إليها من جانب الدور الحضاري الذي تقوم به هـذه الكفاءات، والذي ترجع فوائده على الأقليات المسلمة، بل على كل من العالم الغربي والعالم الإسلامي. [ ص: 78 ]