المبحث الرابع
أثر غياب البعد المصدري إبان قراءة
النص الشرعي
تقدم فيما سبق التأكيد على اعتماد البعد المصدري للنص الشرعي إذا أريد استنباط الحكم منه، وما ذكر ينبغي أن يكون عليه المنهج الإسلامي في قراءة النصوص التشريعية إذا ثبت صدور تلك النصوص من الشارع، كما كان عليه سلف الأمة الصالحين، وأنه لمن الخطأ البين الذي يؤسف له؛ تأثر بعض المعاصرين من أبناء جلدتنا بمناهج نقد النصوص والمتون الغربية، وبمدرسة الانتقاد التأريخي في إثبات النصوص وتفسيرها، فإنهم استوردوا تلك المناهج من البيئة الغربية بكل ما تحمل من إيجابيات وسلبيات، وغرسوا فسيلتها في بيئة غير بيئتها، وأسقطوها على النصوص التشريعية الإسلامية كرها، من غير مراعاة الفروق الجوهرية الهائلة بينها وبين نصوص التوراة والإنجيل، وبينها وبين النصوص الأدبية، وذلك حينما عمدوا إلى التعامل مع النص التشريعي كبقية النصوص الصادرة عن البشر المعرضين للخطأ والصواب.
ومن الواضح أن استخدام تلك المناهج الغربية والغريبة، وتبني منطلقاتها، وأسسها كما هـي، جملة وتفصيلا في التعامل مع نصوص
[ ص: 131 ] الشرع من دون غربلة وتنقيح وتهذيب؛ قد يأتي بتفسيرات ورؤى تحمل التهم الزائفة تجاه الشريعة وأحكامها، بدلا من التأييد والاستسلام لها، وتبعث على التشكيك والارتياب فيها بدلا من بعث الاطمئنان إليها. وفي النهاية سيفقد النص القيم القيمة السامقة فيه، هـذا فضلا عن أن الإرابة والتشكيك في بعض أحكام الشريعة؛ ستفتح الباب على مصراعيه لبقية الأحكام، حتى يتسع الخرق على الراقع.
هذا ولئن كانت تلك المناهج الغربية صالحة للتعامل مع نصوص التوراة والإنجيل المحرفة؛ فإنها لا تصلح أبدا لنقد نصوص الشريعة الغراء وتفسيرها، والسبب في ذلك بسيط وواضح؛ وهو أن تلك المناهج تولدت ضمن نسقها التأريخي والبيئي الخاص بها، فكانت مناهج مشحونة بانعكاسات الأوضاع الاجتماعية والاقتصادية والثقافية والسياسية والكنسية التي دفعتها إلى الميلاد، فإن زرعها في بيئة غير بيئتها؛ زرع في واد غير ذي زرع.
وهذه المناهج يمكن جمعها فيما يأتي:
أولا: منهج البحث والنقد النابع عن الفلسفة الوضعية
وهذا المنهج أبعد عن مجال المعرفة كل ما لا يخضع للاختبار الحسي المباشر، واتخذ الواقع المادي الشاهد الناطق والوحيد في تقرير، أو رفض أية معلومة من المعلومات، وأقصى الدين تماما عن المجال المعرفي، لعدم
[ ص: 132 ] خضوعه للملاحظة والاختبار، وناهيك عن التسليم لسلطانه وأحكامه في الواقع المعيش.
ثانيا: المنهج النابع عن فلسفة الأنوار الأوروبية
وأصحاب هـذا المنهج عدوا العقل المقياس المعتمد في التقويم والحكم على الأشياء كلها، بالقبول أو بالرفض، وتعاملوا مع التراث تعاملا سلبيا، بتنحيه كليا عن مفردات الحياة، واعتقدوا أنه هـو السبب الذي وقف عائقا أمام التقدم والتجديد والإصلاح، حيث فقد فاعليته، ومن هـنا تعين هـجره، وعزله عن السلطة.
ثالثا: المنهج النابع عن النزعات الإنسانية المتطرفة
آمن أصحاب هـذا المنهج بالدين الذي هـو من صنع البشر، وليست هـناك حقيقة مطلقة، فكل شيء نسبي. وتزامنت ولادة هـذا المنهج مع المد الاستعماري، وأصبح يسخر مقولاته لصالح المستعمر في طمس وإقلاع الشخصية الحضارية، والهوية الدينية للشعوب المستعمرة.
رابعا: المنهج النابع عن الفلسفة المادية
وهذا المنهج فرض سلطانه على الخاضعين له، وعد الدين، كل الأديان، أفيونا للشعوب، وأداة لخداع الشعب.
[ ص: 133 ] خامسا: المنهج النابع عن نظرية دارون في التطور العضوي
تم بهذا المنهج نقل ما توصل إليه أصحابه في مجال العلوم الطبيعية إلى مجال العلوم الإنسانية، وما الأديان عندهم من غير استثناء إلا مظاهر للسحر والشعوذة.
سادسا: المنهج النابع عن العلمانية الشاملة
هذا المنهج عمد إلى تجريد الوجودين الإنساني والطبيعي من معاني القداسة، وأدى إعمال هـذا المنهج إلى فتح أبواب النقد والاعتراض على كل النصوص التوراتية والإنجيلية وحتى القرآنية على حد سواء، فالكل سيان.
سابعا: منهج النقد التأريخي
اعتمد على هـذا المنهج في نقد النصوص الكتابية من التوراة والإنجيل، وأثبت بشرية تلك النصوص، ثم قام بعض بنقل هـذه المعايير النقدية هـنا إلى دائرة التشريع الإسلامي بهدف إثبات بشرية القرآن
[1] .
وقد تغنى بهذا المنهج، وأكثر الدندنة حوله؛ بعض أبناء المسلمين المفتونين، فتقمصوا مقولات الغرب ومناهجهم، وأخذوا بعنقها، ووظفوها في مختلف قضايا الفكر الإسلامي، جريا وراء فتنة روح العصر وتيارات التجديد والتنوير والتغيير، واتخذوا من الغرب، ومنظومته الفكرية والاقتصادية، والاجتماعية والسياسية والقانونية؛ المرجعية العليا والمطلقة، فركبوا بحر المجازفة والمخاطرة مع العلم بالعاقبة.
[ ص: 134 ] أضف إلى ذلك أن الدافع وراء البحث عن منهج جديد بديل؛ لم يكن منبثقا من الحاجة الداخلية، والبواعث المعرفية الذاتية، وإنما الدافع وراءه الانبهار بالغرب، أو الاستسلام لضغوطاته، فجاءت محاكاتهم إياه في كبار المسائل وصغارها، كنتيجة طبيعية، وهذا بعينه هـو التقليد الأعمى المذموم
[2] .
ومن هـنا نقرع أجراس التحذير لننبه كل دارس نصا شرعيا؛ على أن من واجبه النظر إلى النص من منطلقات إسلامية، وعبر المنهج الإسلامي في تفسير النصوص وتحليلها، وأن يحكم على تلك النصوص بعد أن يكون ريان بمعرفة صفات الشارع وتصرفاته في الخلق والتشريع والتكليف.
ولذلك اشترط في كل من يروم الإدلاء بدلوه في فقه الشريعة؛ أن يكون سليم العقيدة، صحيح السلوك، مهذب السيرة والسريرة، مخلصا خائفا من الرقيب العلي، وأن يكون فقيه النفس، ملاكا لأدوات هـذه الصنعة
[3] .
وهناك في التشريع الإسلامي جملة من النصوص زلت أقدام بعض الناس في تفسيرها وتعليلها، أو كادت تزل، فترى ثلة من الآيات تلوى
[ ص: 135 ] وتختزل وتعتصر، كي يستخرج منها بعض ما يلتقي مع الوافدات الفكرية الجديدة، أو يستخرج منها ما يبررها ويؤصل لها شرعا، فلم يكن صنعهم إلا مجرد انتصار لقوالب فكرية جاهزة متداولة، بل تراهم يرفعون النداء لاختراق التفسيرات والاجتهادات الموروثة دون استثناء، والأمر الأدهى من هـذا والأمر؛ إلقاؤهم بالملامة على الرعيل الأول في عدم استشرافهم لنظرية علمية، أو منهج علمي في دراسة النص وبحثه.
ووصفوا تلك المناهج والنظريات المستوردة بأنواع شتى من النعوت، ووصفوها بأنها علمية وموضوعية؛ للإيحاء سلفا إلى القارئ، بأن هـذه الدراسة قد بلغت من العمق والشمول، والحياد والنزاهة، شأوا لا يدانى، وتجاوزت حدود الدراسات المعروفة الموروثة، والتي أطلقوا عليها الدراسات التقليدية للتنفير وبعث الاشمئزاز منها، وللإيحاء أيضا بأن كل دراسة جاءت بنتائج على خلاف ذلك؛ فإنها دراسة لا تتسم بالعلمية والموضوعية.
لقد غاب في تلك التفسيرات والتأويلات النظر إلى البعد المصدري للنص قبل النزول إلى قراءة النص، ولو كانت حركتهم متأتية داخل إطار عام محاط بذلك البعد المصدري؛ لما ارتكبوا تلك المخالفات والمحذورات، والتخمينات والتعليلات، والمجاملات والتسهيلات.
[ ص: 136 ] ومن تلك النصوص التي حملت على غير محاملها، وفسرت تفسيرا سيئا؛ النصوص التي تتعلق بالمرأة، فقد وجدوا في تلك النصوص المرتع الخصب لإيراداتهم وتأويلاتهم، فقالوا: إن تلك النصوص تمتهن المرأة، وتنال من منزلتها، وتحابي جنسا على حساب جنس آخر، تحابي الرجال وتنتصر لهم، وتقطع أوصال قيم المساواة والعدل والإنسانية، وتسخر منها، وتقر التمييز الجنسي والطبقي، وأن عصر امتهان المرأة وحصرها بين جدران البيوت، وتحت رحمة الرجال الأشداء؛ قد ولى أدباره إلى الأبد.
وعليه يتوجب التحرر من قيود تلك النصوص، أو إعادة قراءتها بما يتلاءم والتطورات الهائلة في حياة المرأة المعاصرة، وفي عصر المساواة بين البشر، وعصر حقوق الإنسان، وغير ذلك من أوهام وشبهات ومهاترات كلامية تطرق أسماعنا كل يوم من هـنا وهناك.
وتوهموا أن آيات المواريث التي تفرق بين نصيب الرجل والمرأة في بعض الحالات وتعطي الرجل سهمين، والمرأة سهما واحدا في قوله تعالى:
nindex.php?page=tafseer&surano=4&ayano=11 ( يوصيكم الله في أولادكم للذكر مثل حظ الأنثيين ) (النساء:11) ؛ ما هـي إلا صورة من صور تفضيل جنس الرجال على جنس المرأة، كما توهموا أن آية أخرى تمنح الرجال حقا في ضرب زوجاتهم،
وهي قوله تعالى:
nindex.php?page=tafseer&surano=4&ayano=34 ( واللاتي تخافون نشوزهن فعظوهن واهجروهن في المضاجع واضربوهن فإن أطعنكم فلا تبغوا عليهن سبيلا إن الله كان عليا كبيرا ) (النساء:34) .
[ ص: 137 ] وآية الدين:
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=282 ( يا أيها الذين آمنوا إذا تداينتم بدين إلى أجل مسمى فاكتبوه وليكتب بينكم كاتب بالعدل ولا يأب كاتب أن يكتب كما علمه الله فليكتب وليملل الذي عليه الحق وليتق الله ربه ولا يبخس منه شيئا فإن كان الذي عليه الحق سفيها أو ضعيفا أو لا يستطيع أن يمل هـو فليملل وليه بالعدل واستشهدوا شهيدين من رجالكم فإن لم يكونا رجلين فرجل وامرأتان ممن ترضون من الشهداء أن تضل إحداهما فتذكر إحداهما الأخرى ) (البقرة:282) ؛
تمتهن المرأة، وتطعن في شخصيتها، حينما لم تسو بين شهادتها وشهادة الرجل، وجعلت شهادة اثنتين منهن بمثابة شهادة رجل واحد.
هذا فضلا عن وجود أحاديث تصرح بأنهن ناقصات العقل والدين:
( عن أبي سعيد الخدري أنه قال : خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم في أضحى أو فطر إلى المصلى، فمر على النساء، فقال صلى الله عليه وسلم : «يا معشر النساء ما رأيت من ناقصات عقل ودين أذهب للب الرجل الحازم من إحداكن ) [4] ، وأنهن كالضلع الأعوج،
( عن أبي هـريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «إن المرأة كالضلع إذا ذهبت تقيمها كسرتها، وإن تركتها استمتعت بها، وفيها عوج ) [5] ، وتمنع المرأة من حق حرية اختيار زوجها، وتولي عقد زواجها
[ ص: 138 ] بنفسها:
( أيما امرأة نكحت بغير إذن وليها فنكاحها باطل ) [6] ، ومن حق السفر دون محرم لها:
( لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر تسافر مسيرة ثلاث ليال إلا ومعها ذو محرم ) [7] ، وتحرمها من حق ممارسة السلطة:
( لن يفلح قوم ولوا أمرهم امرأة ) [8] ، وغير ذلك.
وفي الواقع، أن هـذه الشبهات وأمثالها؛ لم تكن غائبة في العصور المتقدمة، بل إن بعضها، أو جلها؛ كانت تعرض في صورة أخرى، وفي ثوب آخر، فالذي حدث في عصرنا الحاضر؛ إنما هـو إعادة ترتيب تلك الشبهات، وإعادة صياغتها، وإلباسها لباسا جديدا، وربطها بمعان جديدة، وتلوينها وتلميعها أمام أعين لا تؤمن إلا بما تراه من الظواهر، وأمام عقول تعمل بمحرك مستعار، ولا تفكر مليا، وتطرح على قلوب لله وشرعه، أو تطرح على مجموعة يعرفون الحق كما يعرفون أبناءهم، ولكنهم يتعمدون في تجاهل تلك الحقائق، وليس التجاهل فقط، بل بدأوا بالهجوم المعاكس، متخذين في ذلك منهجا يرتكز على ثلاث ركائز أساسية، فأي تفسير زاحم ركيزة
[ ص: 139 ] منها وعارضها؛ فهو المردود المرفوض، وهذه الركائز هـي: المادية، والنفعية، والأنانية
[9] .
منهج مادي نفعي، لأنه لا يؤمن إلا بالمادة المحسوسة، وتحظى المسألة بالقبول الحسن؛ إذا كانت لها قيمة مادية، واشتملت على منفعة في نظرهم، سواء كانت هـذه المنفعة منفعة حقيقية أم وهمية، خاصة أم عامة، معتبرة بميزان الدين، أم ملغية.
وقيمة الإنسان مرتبطة - بمعيار هـذا المنهج - بما يملكه من الأرصدة المالية في المصارف، فهو الذي يتألق به نجمه، ويذاع به صيته، ويستحق به الصدارة والأولوية في كل شيء، حتى في التربع على كرسي الحكم ورئاسة الدولة، هـذا الموقع الخطير والحساس، وبقطع النظر عن مؤهلاته في كثير من الأحيان، وبصرف النظر عن كونه فاسقا، أو فاجرا، أو صالحا، فإن الفسق والفجور والصلاح، وما إلى ذلك؛ أمور اعتبارية نسبية، لا تجدي ولا تحرك عقرب الميزان.
منهج أناني لا يعرف ولا يعي إلا ذاته ومصالحه الشخصية، ومصالح من تكأكأ حوله، ولا يرى للآخرين حقا، فما وقع في دائرته، وساير أهدافه، وغازل مطامعه؛ فهو الذي يتعالى ذكره، ويتصاعد فكره.
[ ص: 140 ] بينما المنهج الإسلامي في تقويم الأشياء، والحكم عليها؛ منهج مغاير لذلك المنهج الوضعي المادي، فالقيمة الحقيقية لأمر من الأمور؛ إنما تعود إلى ما يشتمل عليه من خير وصلاح، وبما يحمله من معاني البر والإحسان والتقوى، فإن الاعتبار ليس بالجانب المادي المحسوس وحده، وإنما تنضم إليه تلك المعاني القيمية، والمفاهيم الجمالية والكمالية، حتى يتم التجاوب والتناغم مع الفطرة والذوق السليم.
ولا مرية في أن المصالح الشخصية في أحكام الشرع مراعاة تمام الرعاية، ولكن شريطة أن لا تتعارض والمصالح العامة ، والخير العام، تجنبا للأنانية المقيتة. وهذه الأمة قد أخرجت للناس، وينبغي أن يكون خيرها ممدودا إلى الناس، غير مقتصر على نفسها، وعلى من هـو معها في الخط نفسه، والاهتمام بالدنيا وزينتها لا يعد جريمة إذا تم تسخيرها في معاني الخير، ونظر إليها بوصفها مزرعة للآخرة، بل التشريع يدعوهم إلى هـذا الاهتمام وهذا التسخير، ويحاول تعديل الوقفة المائلة إلى الآخرة، والمعرضة عن حياة الدنيا بالكلية، والمتعدية للوسطية ولحد الاعتدال
nindex.php?page=tafseer&surano=28&ayano=77 ( ولا تنس نصيبك من الدنيا ) (القصص:77) ،
nindex.php?page=tafseer&surano=7&ayano=31 ( يا بني آدم خذوا زينتكم عند كل مسجد ) (الأعراف:31) ،
nindex.php?page=tafseer&surano=7&ayano=32 ( قل من حرم زينة الله التي أخرج لعباده والطيبات من الرزق ) (الأعراف:32) ،
nindex.php?page=tafseer&surano=16&ayano=8 ( والخيل والبغال والحمير لتركبوها وزينة ويخلق ما لا تعلمون ) (النحل:8) .
[ ص: 141 ] والمساواة أمر يتشوف إليه الشارع، لكن ينبغي أن لا يكون ذلك على حساب العدالة، فإن تحقيق العدالة مقدم على مبدأ المساواة، وأن التشريع مع المساواة دوما، ولكن إذا أضحت المساواة مجهضة للعدل، قاضية عليه، فإن العدل هـو ما يستقر عنده الحكم ويستتب.
والمال يعد عصب الحياة، وجعل حفظه واجبا شرعيا لا يقبل التساهل، لكونه يشكل كلية من الكليات التشريعية الضرورية التي بها قوام الحياة واستمرارها، وأن من ينتهك حرمته بالاعتداء عليه؛ يستحق العقوبة عاجلا أم آجلا، ولكن هـذا لا يعني بالضرورة أن يتخذ معيارا ذهبيا وحكما عدلا، يحتكم إليه في الحكم على الأشياء، بالأفضلية أو بالدونية.
فمن المنظور الإسلامي؛ ليس من أوتي مالا وثروة، هـو الأفضل والأكرم من الذي قدر عليه رزقه، فالغناء ليس مقياسا لتكريم الغني وتفضيله، كما أن الفقر ليس هـو الآخر المقياس لإهانة الفقير واستصغاره
nindex.php?page=tafseer&surano=89&ayano=15 ( فأما الإنسان إذا ما ابتلاه ربه فأكرمه ونعمه فيقول ربي أكرمن nindex.php?page=tafseer&surano=89&ayano=16وأما إذا ما ابتلاه فقدر عليه رزقه فيقول ربي أهانن nindex.php?page=tafseer&surano=89&ayano=17كلا بل لا تكرمون اليتيم nindex.php?page=tafseer&surano=89&ayano=18ولا تحاضون على طعام المسكين ) (الفجر:15-18) .
ولو كان الغني هـو الأفضل من غيره؛ لما ترك الله سبحانه وتعالى نبيه محمدا صلى الله عليه وسلم يعيش شهرين من غير أن يرى في بيت من بيوته الدخان.
[ ص: 142 ] ( عن عروة عن أم المؤمنين عائشة ، رضي الله عنها أنها قالت لعروة: ابن أختي وإن كنا لننظر إلى الهلال ثم الهلال، ثم الهلال ثلاثة أهلة في شهرين، وما أوقدت في أبيات رسول الله نار، فقلت: يا خالة ما كان يعيشكم؟ قالت: الأسودان: التمر والماء، إلا أنه قد كان لرسول الله صلى الله عليه وسلم جيران من الأنصار كانت لهم منائح يمنحون رسول الله من ألبانهم فيسقينا ) [10] .
علما أنه صلى الله عليه وسلم كان حبيب الله وصفيه، وأنه أفضل خلقه ورسله. ومن هـذا يتبين جليا أن الله تعالى لو أسبغ على أحد من عباده ما كان يملكه قارون؛ فهذا لا يعني لأنه كان الأفضل من غيره، كما لا يعني أيضا خلاف ذلك. وفي الحديث:
( ولو كانت الدنيا تزن عند الله جناح بعوضة ما سقى كافرا منها قطرة أبدا ) [11] ، فإذا كان هـذا هـو ميزان الخالق وعادته التشريعية في الحكم على الأشياء؛ فلا بد من استحضاره إبان تفسير نصوصه وتحليلها واستنباط الحكم منها.
وهكذا فإن الإسلام له معاييره ومقايسه في الحكم على الأشياء، وله نظامه في تقويم المفردات المتعلقة بالإنسان والحياة والكون والآخرة، وأحكامه الكلية في هـذه القضايا مستقلة غير مستقاة من وجهات نظر الإنسان، ولم يفرض تعاليمه على بني آدم قهرا، وتحت ضغط الإكراه. واحترام حق المسلم يتأتى في حريته لما يعتقده كبقية البشر؛ وفي منع
[ ص: 143 ] تدخل من ليس من أهله في تقويم أحكامه، من خلال فرض وإسقاط معاييره ومقايسه عليها.
وبعد هـذا البيان أقول:
نعم، حصة الرجل في الميراث ضعف حصة المرأة، ولكن هـذا لا يعني أبدا أفضلية الرجال على النساء، لأن صاحب النص هـو الذي لم يجعل تلك الزيادة في المال معيارا للأفضلية، بل الأفضلية عنده بالتقوى، وعليه يتوجب استحضار هـذا المقياس الشرعي، وهذه العادة التشريعية.
فلو أعطى شخص رجلا دينارا واحدا، وأعطى آخر دينارين، فهذا التصرف قد يحمل على أن الرجل الثاني هـو الأفضل من الرجل الأول عند المعطي، وذلك لأن هـذا الإنسان من صفاته أن يؤثر أحدا بشيء على غيره لقربه منه، أو لكونه معه في الفكرة، أو لغير ذلك، ولكن نقل هـذه المسألة إلى دائرة التشريع الإسلامي، وفرض هـذا المعيار في التقويم وتحليل حكم الله الغني عن العالمين القريب من الجميع الذي
nindex.php?page=tafseer&surano=112&ayano=3 ( لم يلد ولم يولد nindex.php?page=tafseer&surano=112&ayano=4ولم يكن له كفوا أحد ) (الإخلاص:3-4) ؛
مسألة فيها نظر، لما فيها من الظلم والإجحاف، والمرود عن منطق التشريع، والتجني على صفات الشارع.
كما أن قراءة النصوص التشريعية قراءة انتقائية بما يخدم أهداف المنتقي، هـي الأخرى البعيدة عن البحث الموضوعي العلمي الحيادي،
[ ص: 144 ] فلا يمكن انتقاء النصوص وتجزأتها وبترها بعضها عن بعض أثناء قراءتها، وليس هـذا شأنا خاصا بالتشريع الإسلامي ونصوصه، وإنما في التعامل مع النصوص كلها.
هذا فضلا عن أن قوله تعالى:
nindex.php?page=tafseer&surano=49&ayano=13 ( إن أكرمكم عند الله أتقاكم ) (الحجرات:13) ؛
يدفع هـذا الإيراد ويدفنه، على أن الله قد سمى نفسه بالعدل، فهذا يوجب علينا أن ننزل النص ونفسره بما يوافق عدله المطلق؛ زمانا وأشخاصا ومكانا وأحوالا، فتوزيع الحقوق ينبغي أن يكون على قدر الواجبات، وهذا هـو مبدأ التوزيع المعمول به في مجاري عادات الناس لما يحققه من الإنصاف والعدل.
وأنني هـنا لا أقصد الرد على أولئك بأكثر من ذلك، وإنما أقصد فقط أن أنوه بوجوب استحضار البعد المصدري للنص أثناء التفسير والتحليل واستنباط الأحكام منه، وقد تولى العلماء الرد على مقولات كهذه قديما وحديثا.
لذلك فإن كل معنى مستنبط سلبي يخل بالحقائق الأساسية التي قررها الإسلام للمرأة؛ فهو مردود على صاحبه، فحمل شهادة المرأة في آية الدين على معنى امتهان المرأة؛ حمل يأباه ما عليه الشارع من خصال وصفات، فإن القضية ليست إلا مسألة استيثاق وحقوق، ولا ينبغي تعديها إلى غير ذلك، والحال أن هـناك مواضع تفضل
[ ص: 145 ] فيها شهادة المرأة على الرجل، وأن شهادتها فيها ليست منصفة، كما في مسائل الرضاع وغيرها في باب الأحوال الشخصية.
وقول الرسول صلى الله عليه وسلم فيهن: بأنهن ناقصات عقل ودين؛ هـو الآخر ينبغي تفسيره تفسيرا يتوافق وما عليه الرسول الكريم من خلق رفيع، فلم يكن يوما لعانا ولا سبابا ولا شاتما أحدا
( ولم يكن فاحشا ولا متفحشا ) [12] ،
( ولا صخابا في الأسواق، ولا يجزي بالسيئة السيئة، ولكن يعفو ويصفح ) [13] ، وهو كما قال:
( إني لم أبعث لعانا، وإنما بعثت رحمة ) [14] ، ولا ننسى قول الله تعالى فيه:
nindex.php?page=tafseer&surano=68&ayano=4 ( وإنك لعلى خلق عظيم ) (القلم:4) .
فهذه شهادة الله تعالى له، فإنه قد حاز أعلى درجات الأخلاق، فكيف بعد ذلك يصح الذهاب إلى معاني الإهانة والتحقير، وما إلى ذلك، فهل يتوقع من رسول الله صلى الله عليه وسلم صاحب الخلق العظيم؛ أن يغض من شأن النساء، ويحط من كرامتهن؟! فتعامله مع زوجاته يعكس رؤيته للتعامل مع النساء عموما، فرحمته شملت زوجاته، فقد كان صلى الله عليه وسلم خير الناس، وخيرهم
[ ص: 146 ] لأهله، بطيب كلامه، وحسن معاشرته لهن بالإكرام والاحترام، وكان يرأف بهن، ويتودد إليهن، ويمازحهن، ويلاطفهن ويداعبهن. وكان أيضا يعين أهله، ويساعدهم في أمورهم، ويكون في حاجتهم،
( عن الأسود قال سألت عائشة : ما كان النبي يصنع في أهله؟ قالت: «كان في مهنة أهله، فإذا حضرت الصلاة قام إلى الصلاة ) [15] ،
( وكانت أم المؤمنين عائشة تغتسل معه صلى الله عليه وسلم في إناء واحد، وتقول له: دع لي، دع لي ) [16] .
وأقواله صلى الله عليه وسلم :
( خيركم خيركم لأهله، وأنا خيركم لأهلي ) [17] ، و
( الدنيا متاع، وخير متاع الدنيا المرأة الصالحة ) [18] ، و
( كلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته، والأمير راع، والرجل راع على أهل بيته، والمرأة راعية على بيت زوجها وولده، فكلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته ) [19] وغيرها؛ تعبر عن مجمل نظره السليم والراقي في النساء
[ ص: 147 ] اللاتي سعدن ببعثته، وسارعن إلى الاستجابة له، من غير أن يتخلفن عن الرجال، وعلمن أنهن قد أصبحن شقائق الرجال.
وقد فهم أهل العلم ذلك جيدا، ولذلك ذكروا الحديث تحت باب الوصية بالنساء. هـذا ولو نظرنا إلى أسباب ورود هـذا الحديث لأدركنا أنه كان ثمة إشكال في صفات بعض نساء الأنصار، حيث تمكنت سطوة وشدة بعضهن من جعل زوجها لها منقادا، والرسول صلى الله عليه وسلم أراد أن يوجههن إلى الصواب فعمم، ومعلوم أن التعميم في مثل تلك الأحوال هـو أشد وقعا، وأكثر أثرا من التنصيص على أحد بعينه، وتخصيصه بالذكر
[20] ، هـذا وكما قال شراح الحديث؛ كان النبي صلى الله عليه وسلم في مقام التعجب، ولم يكن في مقام بيان الأحكام.
وفضلا عن ذلك؛ فإن الأصوليين قد قرروا أن الأحكام الشرعية لا تناط بالذوات والأعيان، وإنما تناط بالتصرفات والوقائع، زد على ما سبق أن النقص المذكور في الحديث ينبغي أن لا يفسر بالتفسير الوارد في علم النفس، وهو الذي يبدأ بالسفه، وينتهي بالجنون، بحيث لا يبقى المصاب به أهلا للتصرفات. فهذا التفسير يجعل الفرد دون المتوسط في قدراته العقلية، وهذا ما لم يقصده النبي صلى الله عليه وسلم أبدا، لأن الشارع لم يسقط
[ ص: 148 ] عنهن التكليف في كل الأحوال، ولو كان ذلك نقصا بالمعنى الذي قصده أولئك؛ فعلينا عندئذ أن نضع المريض والمسافر؛ والكثيرين من غيرهم في لائحة ناقصي الدين، لأن الشارع قد خفف عنهم بعض أحكام العبادات، واللازم باطل، فكذلك الملزوم.
وزيادة على ذلك؛ كيف يجوز لنا أن نترك تربية براعم أملنا أطفالنا تحت رحمة فاقدات العقل، أو ضعفاء العقل بالمعنى الوارد في علم النفس؟! وهل كان النبي صلى الله عليه وسلم حينما يمدح زوجاته، ويأخذ برأيهن عند استشارته لهن، في جل المسائل، ومنها مسائل الحرب الخطيرة؛ هـل كان ذلك لنقصان عقولهن بالمعنى السابق، أو لرجاحتها؟! والكلام في هـذه المسألة لا ينتهي، وخير الكلام ما قل ودل، واللبيب تكفيه الإشارة
[21] .
وما قلناه هـنا نقوله في بقية تفسيراتهم المادية الوضعية، ونحيلهم إلى ما سجله الفقهاء المسلمون، والمعاصرون من أهل النظر الإسلامي المعتبر.
[ ص: 149 ]
المبحث الرابع
أثر غياب البعد المصدريّ إبّان قراءة
النَّصِّ الشَّرعيِّ
تقدم فيما سبق التَّأكيد على اعتماد البعد المصدريِّ للنَّصِّ الشَّرعيِّ إذا أريد استنباط الحكم منه، وما ذُكر ينبغي أن يكون عليه المنهج الإسلاميُّ في قراءة النُّصوص التَّشريعيَّة إذا ثبت صدور تلك النُّصوص من الشَّارع، كما كان عليه سلف الأمَّة الصَّالحين، وأنَّه لمن الخطأ البيِّن الَّذي يؤسف له؛ تأثُّر بعض المعاصرين من أبناء جلدتنا بمناهج نقد النُّصوص والمتون الغربيَّة، وبمدرسة الانتقاد التَّأريخيِّ في إثبات النُّصوص وتفسيرها، فإنَّهم استوردوا تلك المناهج من البيئة الغربيَّة بكلِّ ما تحمل من إيجابيَّات وسلبيَّات، وغرسوا فسيلتها في بيئةٍ غير بيئتها، وأسقطوها على النُّصوص التَّشريعيَّة الإسلاميَّة كرهًا، من غير مراعاة الفروق الجوهريَّة الهائلة بينها وبين نصوص التَّوراة والإنجيل، وبينها وبين النُّصوص الأدبيَّة، وذلك حينما عمدوا إلى التَّعامل مع النَّصِّ التَّشريعيِّ كبقية النُّصوص الصَّادرة عن البشر المعرضين للخطأ والصَّواب.
ومن الواضح أنَّ استخدام تلك المناهج الغربيَّة والغريبة، وتبنِّي منطلقاتها، وأسسها كما هـي، جملةً وتفصيلًا في التَّعامل مع نصوص
[ ص: 131 ] الشَّرع من دون غربلةٍ وتنقيحٍ وتهذيبٍ؛ قد يأتي بتفسيراتٍ ورؤى تحمل التُّهم الزَّائفة تجاه الشَّريعة وأحكامها، بدلًا من التَّأييد والاستسلام لها، وتبعث على التَّشكيك والارتياب فيها بدلًا من بعث الاطمئنان إليها. وفي النِّهاية سيفقد النَّصُّ القِيم القيِّمة السَّامقة فيه، هـذا فضلًا عن أنَّ الإرابة والتَّشكيك في بعض أحكام الشَّريعة؛ ستفتح الباب على مصراعيه لبقية الأحكام، حتَّى يتَّسع الخرقُ على الرَّاقع.
هذا ولئن كانت تلك المناهج الغربيَّة صالحةً للتعامل مع نصوص التَّوراة والإنجيل المحرَّفة؛ فإنَّها لا تصلح أبدًا لنقد نصوص الشَّريعة الغراء وتفسيرها، والسَّبب في ذلك بسيط وواضح؛ وهو أنَّ تلك المناهج تولَّدت ضمن نسقها التَّأريخيِّ والبيئيِّ الخاصِّ بها، فكانت مناهج مشحونة بانعكاسات الأوضاع الاجتماعيَّة والاقتصاديَّة والثَّقافيَّة والسِّياسيَّة والكنسيَّة الَّتي دفعتها إلى الميلاد، فإنَّ زرعها في بيئة غير بيئتها؛ زرعٌ في وادٍ غيرِ ذي زرعٍ.
وهذه المناهج يمكن جمعها فيما يأتي:
أوَّلًا: منهج البحث والنَّقد النَّابع عن الفلسفة الوضعيَّة
وهذا المنهج أبعد عن مجال المعرفة كلَّ ما لا يخضع للاختبار الحسيِّ المباشر، واتخذ الواقع الماديَّ الشَّاهد النَّاطق والوحيد في تقرير، أو رفض أيَّة معلومةٍ من المعلومات، وأقصى الدِّين تمامًا عن المجال المعرفي، لعدم
[ ص: 132 ] خضوعه للملاحظة والاختبار، وناهيك عن التَّسليم لسلطانه وأحكامه في الواقع المعيش.
ثانيًا: المنهج النَّابع عن فلسفة الأنوار الأوروبيَّة
وأصحاب هـذا المنهج عدوا العقل المقياس المعتمد في التَّقويم والحكم على الأشياء كلِّها، بالقبول أو بالرَّفض، وتعاملوا مع التُّراث تعاملًا سلبيًّا، بتنحيه كليًّا عن مفردات الحياة، واعتقدوا أنَّه هـو السَّبب الَّذي وقف عائقًا أمام التَّقدم والتَّجديد والإصلاح، حيث فقد فاعليَّته، ومن هـنا تعيَّن هـجره، وعزله عن السُّلطة.
ثالثًا: المنهج النَّابع عن النَّزعات الإنسانيَّة المتطرِّفة
آمن أصحاب هـذا المنهج بالدِّين الَّذي هـو من صنع البشر، وليست هـناك حقيقة مطلقة، فكلُّ شيءٍ نسبيٌّ. وتزامنت ولادة هـذا المنهج مع المد الاستعماريِّ، وأصبح يسخِّر مقولاته لصالح المستعمر في طمس وإقلاع الشَّخصيَّة الحضاريَّة، والهويَّة الدِّينيَّة للشعوب المستعمرة.
رابعًا: المنهج النَّابع عن الفلسفة الماديَّة
وهذا المنهج فرض سلطانه على الخاضعين له، وعَدَّ الدِّين، كلَّ الأديان، أفيونًا للشعوب، وأداةً لخداع الشَّعب.
[ ص: 133 ] خامسًا: المنهج النَّابع عن نظريَّة دارون في التَّطور العضويِّ
تمَّ بهذا المنهج نقلُ ما توصَّل إليه أصحابه في مجال العلوم الطَّبيعيَّة إلى مجال العلوم الإنسانيَّة، وما الأديان عندهم من غير استثناء إلاّ مظاهر للسحر والشَّعوذة.
سادسًا: المنهج النَّابع عن العلمانيَّة الشَّاملة
هذا المنهج عمد إلى تجريد الوجودين الإنسانيِّ والطَّبيعيِّ من معاني القداسة، وأدَّى إعمال هـذا المنهج إلى فتح أبواب النَّقد والاعتراض على كلِّ النُّصوص التَّوراتيَّة والإنجيليَّة وحتَّى القرآنيَّة على حد سواء، فالكلُّ سِيَّان.
سابعًا: منهج النَّقد التَّأريخيِّ
اعتُمد على هـذا المنهج في نقد النُّصوص الكتابيَّة من التَّوراة والإنجيل، وأثبت بشريَّة تلك النُّصوص، ثمّ قام بعضٌ بنقل هـذه المعايير النَّقديَّة هـنا إلى دائرة التَّشريع الإسلاميّ بهدف إثبات بشريَّة القرآن
[1] .
وقد تغنَّى بهذا المنهج، وأكثر الدَّندنة حوله؛ بعضُ أبناء المسلمين المفتونين، فتقمَّصوا مقولات الغرب ومناهجهم، وأخذوا بعنقها، ووظَّفوها في مختلف قضايا الفكر الإسلاميِّ، جريًا وراء فتنة روح العصر وتيَّارات التَّجديد والتَّنوير والتَّغيير، واتَّخذوا من الغرب، ومنظومته الفكريَّة والاقتصاديَّة، والاجتماعيَّة والسِّياسيَّة والقانونية؛ المرجعيّةَ العليّا والمطلقة، فركبوا بحر المجازفة والمخاطرة مع العلم بالعاقبة.
[ ص: 134 ] أضِف إلى ذلك أنَّ الدّافع وراء البحث عن منهجٍ جديدٍ بديلٍ؛ لم يكن منبثقًا من الحاجة الدّاخليَّة، والبواعث المعرفيَّة الذَّاتيَّة، وإنَّما الدّافع وراءه الانبهار بالغرب، أو الاستسلام لضغوطاته، فجاءت محاكاتهم إيَّاه في كبار المسائل وصغارها، كنتيجة طبيعيَّة، وهذا بعينه هـو التَّقليد الأعمى المذموم
[2] .
ومن هـنا نقرع أجراس التَّحذير لننبِّه كلَّ دارسٍ نصًّا شرعيًّا؛ على أنَّ مِن واجبه النَّظر إلى النَّصِّ من منطلقاتٍ إسلاميَّةٍ، وعبر المنهج الإسلاميِّ في تفسير النُّصوص وتحليلها، وأنْ يحكم على تلك النُّصوص بعد أن يكون ريَّان بمعرفة صفات الشَّارع وتصرُّفاته في الخلق والتَّشريع والتَّكليف.
ولذلك اشتُرِط في كلِّ من يروم الإدلاء بدلوه في فقه الشَّريعة؛ أن يكون سليم العقيدة، صحيح السُّلوك، مهذَّب السِّيرة والسَّريرة، مخلصًا خائفًا من الرَّقيب العليّ، وأن يكون فقيه النَّفس، ملاّكًا لأدوات هـذه الصِّنعة
[3] .
وهناك في التَّشريع الإسلاميِّ جملةٌ من النُّصوص زلَّت أقدام بعض النَّاس في تفسيرها وتعليلها، أو كادت تزلّ، فترى ثلّةً من الآيات تُلوى
[ ص: 135 ] وتُختزل وتُعتصر، كي يُستخرج منها بعضُ ما يلتقي مع الوافدات الفكريَّة الجديدة، أو يُستخرج منها ما يبرِّرها ويؤصِّل لها شرعًا، فلم يكن صنعهم إلاّ مجرَّد انتصارٍ لقوالب فكريَّة جاهزة متداولة، بل تراهم يرفعون النِّداء لاختراق التَّفسيرات والاجتهادات الموروثة دون استثناء، والأمر الأدهى من هـذا والأَمَرّ؛ إلقاؤهم بالملامة على الرَّعيل الأوَّل في عدم استشرافهم لنظريةٍ علميَّةٍ، أو منهجٍ علميٍّ في دراسة النَّصِّ وبحثه.
ووصفوا تلك المناهج والنَّظريات المستوردة بأنواع شتَّى من النُّعوت، ووصفوها بأنَّها علميَّةٌ وموضوعيَّةٌ؛ للإيحاء سلفًا إلى القارئ، بأنَّ هـذه الدِّراسة قد بلغت من العمق والشُّمول، والحياد والنَّزاهة، شأوًا لا يُدانى، وتجاوزت حدود الدِّراسات المعروفة الموروثة، والَّتي أطلقوا عليها الدِّراسات التَّقليديَّة للتنفير وبعث الاشمئزاز منها، وللإيحاء أيضًا بأنَّ كلَّ دراسةٍ جاءت بنتائج على خلاف ذلك؛ فإنَّها دراسةٌ لا تتَّسم بالعلميَّة والموضوعيَّة.
لقد غاب في تلك التَّفسيرات والتَّأويلات النَّظر إلى البعد المصدريِّ للنَّصِّ قبل النُّزول إلى قراءة النَّصِّ، ولو كانت حركتهم متأتية داخل إطار عام محاط بذلك البعد المصدريِّ؛ لما ارتكبوا تلك المخالفات والمحذورات، والتَّخمينات والتَّعليلات، والمجاملات والتَّسهيلات.
[ ص: 136 ] ومن تلك النُّصوص الَّتي حُمِّلت على غير محاملها، وفسِّرت تفسيرًا سيِّئًا؛ النُّصوص الَّتي تتعلَّق بالمرأة، فقد وجدوا في تلك النُّصوص المرتع الخصب لإيراداتهم وتأويلاتهم، فقالوا: إنَّ تلك النُّصوص تمتهن المرأة، وتنال من منزلتها، وتحابي جنسًا على حساب جنسٍ آخر، تحابي الرِّجال وتنتصر لهم، وتقطع أوصال قيم المساواة والعدل والإنسانية، وتسخر منها، وتقرّ التَّمييز الجنسيِّ والطَّبقيِّ، وأنَّ عصر امتهان المرأة وحصرها بين جدران البيوت، وتحت رحمة الرِّجال الأشداء؛ قد ولَّى أدباره إلى الأبد.
وعليه يتوجب التَّحرر من قيود تلك النُّصوص، أو إعادة قراءتها بما يتلاءم والتَّطورات الهائلة في حياة المرأة المعاصرة، وفي عصر المساواة بين البشر، وعصر حقوق الإنسان، وغير ذلك من أوهام وشبهات ومهاترات كلاميَّة تطرق أسماعنا كلَّ يوم من هـنا وهناك.
وتوهَّموا أنَّ آيات المواريث الَّتي تفرِّق بين نصيب الرَّجل والمرأة في بعض الحالات وتعطي الرَّجل سهمين، والمرأة سهمًا واحدًا في قوله تعالى:
nindex.php?page=tafseer&surano=4&ayano=11 ( يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنْثَيَيْنِ ) (النِّساء:11) ؛ ما هـي إلاّ صورة من صور تفضيل جنس الرِّجال على جنس المرأة، كما توهموا أنَّ آيةً أخرى تمنح الرِّجال حقًّا في ضرب زوجاتهم،
وهي قوله تعالى:
nindex.php?page=tafseer&surano=4&ayano=34 ( وَاللاتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ وَاضْرِبُوهُنَّ فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلا تَبْغُوا عَلَيْهِنَّ سَبِيلا إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيًّا كَبِيرًا ) (النِّساء:34) .
[ ص: 137 ] وآية الدَّين:
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=282 ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ وَلْيَكْتُبْ بَيْنَكُمْ كَاتِبٌ بِالْعَدْلِ وَلا يَأْبَ كَاتِبٌ أَنْ يَكْتُبَ كَمَا عَلَّمَهُ اللَّهُ فَلْيَكْتُبْ وَلْيُمْلِلِ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ وَلْيَتَّقِ اللَّهُ رَبَّهُ وَلا يَبْخَسْ مِنْهُ شَيْئًا فَإِنْ كَانَ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ سَفِيهًا أَوْ ضَعِيفًا أَوْ لا يَسْتَطِيعُ أَنْ يُمِلَّ هـُوَ فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ بِالْعَدْلِ وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنْ الشُّهَدَاءِ أَنْ تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الأُخْرَى ) (البقرة:282) ؛
تمتهن المرأة، وتطعن في شخصيّتها، حينما لم تسوِّ بين شهادتها وشهادة الرَّجل، وجعلت شهادة اثنتين منهنَّ بمثابة شهادة رجلٍ واحد.
هذا فضلًا عن وجود أحاديث تُصرِّح بأنهنَّ ناقصات العقل والدِّين:
( عن أبي سعيدٍ الخدريِّ أنَّه قال : خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم في أضحى أو فطرٍ إلى المصلَّى، فمرَّ على النِّساء، فقال صلى الله عليه وسلم : «يا معشر النِّساء ما رأيت من ناقصات عقل ودين أذهبَ لِلُبِ الرَّجل الحازِمِ من إحداكن ) [4] ، وأنهنَّ كالضِّلع الأعوج،
( عن أبي هـريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «إنّ المرأة كالضِّلعِ إذا ذهبتَ تُقيمُها كَسَرتَها، وإن تَرَكتَها استمتعتَ بها، وفيها عَوَجٌ ) [5] ، وتمنع المرأة من حقِّ حرية اختيار زوجها، وتوليّ عقد زواجها
[ ص: 138 ] بنفسها:
( أَيُّمَا امْرَأَةٍ نُكِحَتْ بِغَيْرِ إِذْنِ وَلِيِّهَا فَنِكَاحُهَا بَاطِلٌ ) [6] ، ومن حقِّ السَّفر دون محرم لها:
( لا يَحِلُّ لامْرَأَةٍ تُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ تُسَافِرُ مَسِيرَةَ ثَلاثِ لَيَالٍ إِلا وَمَعَهَا ذُو مَحْرَمٍ ) [7] ، وتحرمها من حقِّ ممارسة السُّلطة:
( لَنْ يُفْلِحَ قَوْمٌ وَلَّوْا أَمْرَهُمُ امْرَأَةً ) [8] ، وغير ذلك.
وفي الواقع، أنَّ هـذه الشُّبهات وأمثالها؛ لم تكن غائبةً في العصور المتقدِّمة، بل إنَّ بعضها، أو جلَّها؛ كانت تُعرض في صورة أخرى، وفي ثوبٍ آخر، فالَّذي حدث في عصرنا الحاضر؛ إنَّما هـو إعادة ترتيب تلك الشُّبهات، وإعادة صياغتها، وإلباسها لباسًا جديدًا، وربطها بمعانٍ جديدة، وتلوينها وتلميعها أمام أعينٍ لا تُؤمن إلاّ بما تراه من الظَّواهر، وأمام عقول تعمل بمحرِّك مستعار، ولا تفكِّر مليًّا، وتُطرح على قلوب لله وشرعه، أو تُطرح على مجموعةٍ يعرفون الحقَّ كما يعرفون أبناءهم، ولكنَّهم يتعمَّدون في تجاهل تلك الحقائق، وليس التَّجاهل فقط، بل بدأوا بالهجوم المعاكس، متَّخذين في ذلك منهجًا يرتكز على ثلاث ركائز أساسيَّة، فأيُّ تفسيرٍ زاحم ركيزةً
[ ص: 139 ] منها وعارضها؛ فهو المردود المرفوض، وهذه الرَّكائز هـي: الماديَّة، والنَّفعيَّة، والأنانيَّة
[9] .
منهج ماديٌّ نفعيٌّ، لأنّه لا يُؤمن إلاّ بالمادة المحسوسة، وتحظى المسألة بالقبول الحسن؛ إذا كانت لها قيمةٌ ماديَّةٌ، واشتملت على منفعةٍ في نظرهم، سواء كانت هـذه المنفعةُ منفعةً حقيقيَّةً أم وهميَّةً، خاصَّةً أم عامَّةً، معتبرةً بميزان الدِّين، أم ملغيَّة.
وقيمة الإنسان مرتبطةٌ - بمعيار هـذا المنهج - بما يملكه من الأرصدة الماليَّة في المصارف، فهو الَّذي يتألَّق به نجمُه، ويُذاع به صِيتُه، ويستحقّ به الصَّدارة والأولويَّة في كلِّ شيء، حتَّى في التَّربع على كرسيِّ الحكم ورئاسة الدَّولة، هـذا الموقع الخطير والحسَّاس، وبقطع النَّظر عن مؤهِّلاته في كثير من الأحيان، وبصرف النَّظر عن كونه فاسقًا، أو فاجرًا، أو صالحًا، فإنَّ الفسق والفجور والصَّلاح، وما إلى ذلك؛ أمورٌ اعتباريَّةٌ نسبيّةٌ، لا تُجدي ولا تُحرِّك عقرب الميزان.
منهجٌ أنانيٌّ لا يعرف ولا يعي إلاّ ذاته ومصالحه الشَّخصيَّة، ومصالح من تكأكأ حوله، ولا يرى للآخرين حقًّا، فما وقع في دائرته، وساير أهدافه، وغازل مطامعه؛ فهو الَّذي يتعالى ذِكرُه، ويتصاعد فكرُه.
[ ص: 140 ] بينما المنهج الإسلاميّ في تقويم الأشياء، والحكم عليها؛ منهجٌ مغايرٌ لذلك المنهج الوضعيِّ الماديِّ، فالقيمة الحقيقيَّة لأمرٍ من الأمور؛ إنَّما تعود إلى ما يشتمل عليه من خيرٍ وصلاحٍ، وبما يحمله من معاني البرِّ والإحسان والتَّقوى، فإنَّ الاعتبار ليس بالجانب الماديِّ المحسوس وحده، وإنَّما تنضمُّ إليه تلك المعاني القيميَّة، والمفاهيم الجماليَّة والكماليَّة، حتَّى يتمَّ التَّجاوب والتَّناغم مع الفطرة والذَّوق السَّليم.
ولا مرية في أنَّ المصالح الشَّخصيَّة في أحكام الشَّرع مراعاة تمام الرِّعاية، ولكن شريطة أن لا تتعارض والمصالح العامَّة ، والخير العام، تجنُّبًا للأنانيَّة المقيتة. وهذه الأمَّة قد أُخرجت للنَّاس، وينبغي أن يكون خيرها ممدودًا إلى النَّاس، غير مقتصرٍ على نفسها، وعلى من هـو معها في الخطِّ نفسه، والاهتمام بالدُّنيا وزينتها لا يُعدُّ جريمةً إذا تمَّ تسخيرُها في معاني الخير، ونُظر إليها بوصفها مزرعةً للآخرة، بل التَّشريع يدعوهم إلى هـذا الاهتمام وهذا التَّسخير، ويحاول تعديل الوقفة المائلة إلى الآخرة، والمعرِضة عن حياة الدُّنيا بالكليَّة، والمتعدية للوسطيَّة ولحد الاعتدال
nindex.php?page=tafseer&surano=28&ayano=77 ( وَلا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا ) (القصص:77) ،
nindex.php?page=tafseer&surano=7&ayano=31 ( يَا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ ) (الأعراف:31) ،
nindex.php?page=tafseer&surano=7&ayano=32 ( قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مَنْ الرِّزْقِ ) (الأعراف:32) ،
nindex.php?page=tafseer&surano=16&ayano=8 ( وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً وَيَخْلُقُ مَا لا تَعْلَمُونَ ) (النَّحل:8) .
[ ص: 141 ] والمساواة أمرٌ يتشوَّفُ إليه الشَّارع، لكن ينبغي أن لا يكون ذلك على حساب العدالة، فإنَّ تحقيق العدالة مقدَّم على مبدأ المساواة، وأنَّ التَّشريع مع المساواة دومًا، ولكن إذا أضحت المساواة مجهِضةً للعدل، قاضية عليه، فإنَّ العدل هـو ما يستقرُّ عنده الحكم ويستتب.
والمال يُعدُّ عصب الحياة، وجُعل حفظُه واجبًا شرعيًّا لا يقبل التَّساهل، لكونه يشكِّل كليّةً من الكليَّات التَّشريعيَّة الضَّروريَّة الَّتي بها قوام الحياة واستمرارها، وأنَّ من ينتهك حرمته بالاعتداء عليه؛ يستحق العقوبة عاجلًا أم آجلًا، ولكن هـذا لا يعني بالضَّرورة أن يُتَّخذ معيارًا ذهبيًّا وحكمًا عدلًا، يُحتكم إليه في الحكم على الأشياء، بالأفضليَّة أو بالدُّونيَّة.
فمن المنظور الإسلاميّ؛ ليس مَن أوتي مالًا وثروةً، هـو الأفضل والأكرم مِن الّّذي قدر عليه رزقه، فالغناء ليس مقياسًا لتكريم الغنيّ وتفضيله، كما أنَّ الفقر ليس هـو الآخر المقياس لإهانة الفقير واستصغاره
nindex.php?page=tafseer&surano=89&ayano=15 ( فَأَمَّا الإِنْسَانُ إِذَا مَا ابْتَلاهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِ nindex.php?page=tafseer&surano=89&ayano=16وَأَمَّا إِذَا مَا ابْتَلاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَهَانَنِ nindex.php?page=tafseer&surano=89&ayano=17كَلا بَلْ لا تُكْرِمُونَ الْيَتِيمَ nindex.php?page=tafseer&surano=89&ayano=18وَلا تَحَاضُّونَ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ ) (الفجر:15-18) .
ولو كان الغنيّ هـو الأفضل من غيره؛ لما ترك اللهُ سبحانه وتعالى نبيَّه محمَّدًا صلى الله عليه وسلم يعيش شهرين من غير أن يُرى في بيتٍ من بيوته الدُّخان.
[ ص: 142 ] ( عن عروة عن أمِّ المؤمنين عائشة ، رضي الله عنها أَنَّهَا قالت لعروة: ابنَ أختي وإن كُنَّا لَنَنظُرُ إلى الهلالِ ثُمَّ الهلال، ثُمَّ الهلال ثلاثة أهلّةٍ في شهرين، وما أوقِدَتْ في أبيات رسول الله نارٌ، فقلت: يا خالةُ ما كان يُعيشُكُم؟ قالت: الأسودان: التَّمر والماء، إلاّ أنَّه قد كان لرسول الله صلى الله عليه وسلم جيران من الأنصار كانت لهم منائحَ يَمنحون رسول الله من ألبانهم فيَسقينا ) [10] .
علمًا أنَّه صلى الله عليه وسلم كان حبيب الله وصفيه، وأنَّه أفضل خلقه ورُسُلِهِ. ومن هـذا يتبيَّن جليًّا أنَّ الله تعالى لو أسبغ على أحدٍ من عباده ما كان يملكه قارون؛ فهذا لا يعني لأنَّه كان الأفضل من غيره، كما لا يعني أيضًا خلاف ذلك. وفي الحديث:
( وَلَوْ كَانَتِ الدُّنْيَا تَزِنُ عِنْدَ اللَّهِ جَنَاحَ بَعُوضَةٍ مَا سَقَى كَافِرًا مِنْهَا قَطْرَةً أَبَدًا ) [11] ، فإذا كان هـذا هـو ميزان الخالق وعادته التَّشريعيَّة في الحكم على الأشياء؛ فلا بدَّ من استحضاره إبّان تفسير نصوصه وتحليلها واستنباط الحكم منها.
وهكذا فإنَّّ الإسلام له معاييره ومقايسه في الحكم على الأشياء، وله نظامه في تقويم المفردات المتعلقة بالإنسان والحياة والكون والآخرة، وأحكامه الكليَّة في هـذه القضايا مستقلة غير مستقاة من وجهات نظر الإنسان، ولم يفرض تعاليمه على بني آدم قهرًا، وتحت ضغط الإكراه. واحترامُ حقِّ المسلم يتأتّى في حريته لما يعتقده كبقية البشر؛ وفي منع
[ ص: 143 ] تدخُّل مَن ليس من أهله في تقويم أحكامه، مِن خلال فرض وإسقاط معاييره ومقايسه عليها.
وبعد هـذا البيان أقول:
نعم، حصَّة الرَّجل في الميراث ضعف حصَّة المرأة، ولكن هـذا لا يعني أبدًا أفضلية الرِّجال على النِّساء، لأنَّ صاحب النَّصِّ هـو الَّذي لم يجعل تلك الزِّيادة في المال معيارًا للأفضلية، بل الأفضلية عنده بالتَّقوى، وعليه يتوجب استحضار هـذا المقياس الشَّرعيّ، وهذه العادة التَّشريعيَّة.
فلو أعطى شخصٌ رجلًا دينارًا واحدًا، وأعطى آخر دينارين، فهذا التَّصرف قد يُحمل على أنََّ الرَّجل الثَّاني هـو الأفضل من الرَّجل الأول عند المعطي، وذلك لأنَّ هـذا الإنسان من صفاته أن يؤثر أحدًا بشيء على غيره لقربه منه، أو لكونه معه في الفكرة، أو لغير ذلك، ولكن نقل هـذه المسألة إلى دائرة التَّشريع الإسلاميّ، وفرض هـذا المعيار في التَّقويم وتحليل حكم الله الغني عن العالمين القريبِ من الجميع الَّذي
nindex.php?page=tafseer&surano=112&ayano=3 ( لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ nindex.php?page=tafseer&surano=112&ayano=4وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ ) (الإخلاص:3-4) ؛
مسألة فيها نظرٌ، لما فيها من الظَّلم والإجحاف، والمرود عن منطق التَّشريع، والتّجني على صفات الشَّارع.
كما أنَّ قراءة النُّصوص التَّشريعيَّة قراءةً انتقائيَّةً بما يخدم أهداف المنتقي، هـي الأخرى البعيدة عن البحث الموضوعيِّ العلميِّ الحياديِّ،
[ ص: 144 ] فلا يمكن انتقاء النُّصوص وتجزأتها وبترها بعضها عن بعضٍ أثناء قراءتها، وليس هـذا شأنًا خاصًّا بالتَّشريع الإسلاميِّ ونصوصه، وإنَّما في التَّعامل مع النُّصوص كلِّها.
هذا فضلًا عن أنَّ قوله تعالى:
nindex.php?page=tafseer&surano=49&ayano=13 ( إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ ) (الحُجُرات:13) ؛
يدفع هـذا الإيراد ويدفنه، على أنَّ الله قد سمّى نفسه بالعدل، فهذا يوجب علينا أن نُنزِّل النَّصَّ ونفسِّرَه بما يوافق عدله المطلق؛ زمانًا وأشخاصًا ومكانًا وأحوالًا، فتوزيع الحقوق ينبغي أن يكون على قدر الواجبات، وهذا هـو مبدأ التَّوزيع المعمول به في مجاري عادات النَّاس لما يحققه من الإنصاف والعدل.
وأنَّني هـنا لا أقصد الرّّدَ على أولئك بأكثر من ذلك، وإنمَّا أقصد فقط أن أنوّه بوجوب استحضار البعد المصدريِّ للنصّ أثناء التَّفسير والتَّحليل واستنباط الأحكام منه، وقد تولَّى العلماء الرَّد على مقولاتٍ كهذه قديمًا وحديثًا.
لذلك فإن كلّ معنىً مستنبطٍ سلبيٍّ يُخِلُّ بالحقائق الأساسية التي قررها الإسلام للمرأة؛ فهو مردود على صاحبه، فحمل شهادة المرأة في آية الدَّين على معنى امتهان المرأة؛ حمل يأباه ما عليه الشَّارع من خصالٍ وصفاتٍ، فإنَّ القضيَّة ليست إلاّ مسألة استيثاق وحقوق، ولا ينبغي تعديِّها إلى غير ذلك، والحال أنَّ هـناك مواضع تُفضَّل
[ ص: 145 ] فيها شهادةُ المرأة على الرَّجل، وأنَّ شهادتها فيها ليست منصَّفةً، كما في مسائل الرِّضاع وغيرها في باب الأحوال الشَّخصيَّة.
وقول الرَّسول صلى الله عليه وسلم فيهنَّ: بأنَّهنَّ ناقصات عقلٍ ودينٍ؛ هـو الآخر ينبغي تفسيرُه تفسيرًا يتوافق وما عليه الرَّسول الكريم من خُلُق رفيع، فلم يكن يومًا لعّانًا ولا سبابًا ولا شاتمًا أحدًا
( ولم يكن فاحشًا ولا متفحِّشًا ) [12] ،
( ولا صخَّابًا في الأسواق، ولا يَجزي بالسَّيئةِ السَّيئةَ، ولكن يَعفو ويَصفح ) [13] ، وهو كما قال:
( إنِّي لم أُبعث لعَّانًا، وإنَّما بُعِثْتُ رحمةً ) [14] ، ولا ننسى قول الله تعالى فيه:
nindex.php?page=tafseer&surano=68&ayano=4 ( وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ ) (القلم:4) .
فهذه شهادة الله تعالى له، فإنَّه قد حاز أعلى درجات الأخلاق، فكيف بعد ذلك يصحُّ الذِّهاب إلى معاني الإهانة والتَّحقير، وما إلى ذلك، فهل يتوقَّع من رسول الله صلى الله عليه وسلم صاحب الخلق العظيم؛ أن يغضَّ من شأن النِّساء، ويحطَّ من كرامتهن؟! فتعامله مع زوجاته يعكس رؤيته للتعامل مع النِّساء عمومًا، فرحمته شملت زوجاته، فقد كان صلى الله عليه وسلم خير النَّاس، وخيرهم
[ ص: 146 ] لأهله، بطيب كلامه، وحُسن معاشرته لهنَّ بالإكرام والاحترام، وكان يرأف بهنَّ، ويتودّد إليهنَّ، ويمازحهنَّ، ويلاطفهنَّ ويداعبهنَّ. وكان أيضًا يُعين أهله، ويساعدهم في أمورهم، ويكون في حاجتهم،
( عن الأسود قال سألت عائشة : ما كان النَّبيُّ يصنع في أهله؟ قالت: «كان في مهنة أهله، فإذا حضرتِ الصَّلاةُ قام إلى الصَّلاة ) [15] ،
( وكانت أم المؤمنين عائشة تغتسل معه صلى الله عليه وسلم في إناءٍ واحد، وتقول له: دع لي، دع لي ) [16] .
وأقواله صلى الله عليه وسلم :
( خيرُكم خيرُكم لأهله، وأنا خيرُكم لأهلي ) [17] ، و
( الدُّنيا متاعٌ، وخيرُ متاعِ الدُّنيا المرأةُ الصَّالحة ) [18] ، و
( كُلُّكُمْ رَاعٍ وَكُلُّكُمْ مَسْؤُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ، وَالأَمِيرُ رَاعٍ، وَالرَّجُلُ رَاعٍ عَلَى أَهْلِ بَيْتِهِ، وَالْمَرْأَةُ رَاعِيَةٌ عَلَى بَيْتِ زَوْجِهَا وَوَلَدِهِ، فَكُلُّكُمْ رَاعٍ وَكُلُّكُمْ مَسْؤُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ ) [19] وغيرها؛ تُعبِّر عن مجمل نظره السَّليم والرّاقي في النِّساء
[ ص: 147 ] اللاّتي سعدن ببعثته، وسارعن إلى الاستجابة له، من غير أن يتخلفن عن الرِّجال، وعلمن أنَّهنَّ قد أصبحن شقائق الرِّجال.
وقد فهم أهل العلم ذلك جيِّدًا، ولذلك ذكروا الحديث تحت باب الوصيَّة بالنِّساء. هـذا ولو نظرنا إلى أسباب ورود هـذا الحديث لأدركنا أنه كان ثمة إشكالٌ في صفات بعض نساء الأنصار، حيث تمكَّنت سطوة وشدّة بعضهن من جعل زوجها لها منقادًا، والرَّسول صلى الله عليه وسلم أراد أن يوجِّههنَّ إلى الصَّواب فعمَّم، ومعلوم أنَّ التَّعميم في مثل تلك الأحوال هـو أشدُّ وقعًا، وأكثر أثرًا من التَّنصيص على أحدٍ بعينه، وتخصيصه بالذِّكر
[20] ، هـذا وكما قال شُرَّاح الحديث؛ كان النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم في مقام التَّعجب، ولم يكن في مقام بيان الأحكام.
وفضلًا عن ذلك؛ فإنَّ الأصوليِّين قد قرَّروا أنَّ الأحكام الشَّرعيَّة لا تُناط بالذَّوات والأعيان، وإنَّما تُناط بالتَّصرفات والوقائع، زِد على ما سبق أنَّ النَّقص المذكور في الحديث ينبغي أن لا يُفسَّر بالتَّفسير الوارد في علم النَّفس، وهو الَّذي يبدأ بالسَّفه، وينتهي بالجنون، بحيث لا يبقى المصاب به أهلًا للتصرفات. فهذا التَّفسير يجعل الفرد دون المتوسط في قدراته العقليَّة، وهذا ما لم يقصده النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم أبدًا، لأنَّ الشَّارع لم يُسقط
[ ص: 148 ] عنهنَّ التَّكليف في كلِّ الأحوال، ولو كان ذلك نقصًا بالمعنى الَّذي قصده أولئك؛ فعلينا عندئذٍ أن نضع المريض والمسافر؛ والكثيرين من غيرهم في لائحة ناقصي الدِّين، لأنَّ الشّارع قد خفّف عنهم بعض أحكام العبادات، واللازم باطل، فكذلك الملزوم.
وزيادة على ذلك؛ كيف يجوز لنا أن نترك تربية براعم أملنا أطفالنا تحت رحمة فاقدات العقل، أو ضعفاء العقل بالمعنى الوارد في علم النَّفس؟! وهل كان النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم حينما يمدح زوجاتِه، ويأخذ برأيهنَّ عند استشارته لهنَّ، في جلِّ المسائل، ومنها مسائل الحرب الخطيرة؛ هـل كان ذلك لنقصان عقولهنَّ بالمعنى السَّابق، أو لرجاحتها؟! والكلام في هـذه المسألة لا ينتهي، وخير الكلام ما قلّ ودلّ، واللبيب تكفيه الإشارة
[21] .
وما قلناه هـنا نقوله في بقية تفسيراتهم الماديَّة الوضعيَّة، ونُحيلهم إلى ما سجَّله الفقهاء المسلمون، والمعاصرون من أهل النَّظر الإسلاميِّ المعتبر.
[ ص: 149 ]