ثالثا: مراعاة خصوصية العلوم الشرعية:
تشترك العلوم الشرعية مع بعضها ومع غيرها من العلوم وتتقاطع معها في جوانب عدة، إلا أنها تتميز بقدر من الخصوصية له أثره في مناهجها وتعليمها، ومن أبرز جوانب الخصوصية في العلوم الشرعية ما يلي:
الخاصية الأولى: أنها علوم نقلية، مصدرها الوحي المتمثل في نصوص القرآن والسنة؛ فالنص الشرعي برهان في حد ذاته لا يحتاج إلى برهنة علمية، ودور العقل البشري إنما هو في إثبات صحة نص الحديث، ودلالة كل من النص القرآني والنبوي، وذلك له أدواته العلمية المنهجية، وهذا يتطلب التسليم للنص الشرعي، سواء أكان في مجال الإخبار أم التشريع.
وهذه الخاصية والسمة لها أثرها فيدور الطالب في عملية التعلم، وحدود إعمال العقل البشري، كما أنها تؤثر أيضا في تصميم المناهج والموقف التعليمي وعمليات التدريس.
الخاصية الثانية: التعبد بتعلم العلوم الشرعية وتعليمها؛ فهي مقصودة لذاتها، أما غيرها من العلوم فهي مقصودة لغيرها، ونصوص القرآن والسنة الواردة في فضل العـلم ومنـزلة أهـله إنـما هي في العـلوم الشرعية كما قال سبحانه: ( وعد الله لا يخلف الله وعده ولكن أكثر الناس لا يعلمون * يعلمون ظاهرا من الحياة الدنيا وهم عن الآخرة هم غافلون ) (الروم: 6-7)، وقرن صلى الله عليه وسلم بين العلم والعبادة، والعالم والعابد، وعد العلماء ورثة الأنبياء، وهذا إنما هو في حق العلم المورث عن الأنبياء، ولا يعني ذلك [ ص: 136 ] التقليل من أهمية العلوم المادية؛ فصاحبها يؤجر حين يوظفها في مصالح المسلمين بنية صالحة شأنها في ذلك شأن سائر ما يقدم للمسلمين من بذل وإحسان؛ فالأجر هنا مصدره بذل النفع للمسلمين كغيره من أعمال الإحسان لا طلب العلم ذاته.
الخاصية الثالثة: ارتباط العلم بالسلوك والجانب الوجداني؛ فالعلم الشرعي إنما يراد للهداية والعمل وإصلاح النفس كما قال تعالى: ( قل آمنوا به أو لا تؤمنوا إن الذين أوتوا العلم من قبله إذا يتلى عليهم يخرون للأذقان سجدا * ويقولون سبحان ربنا إن كان وعد ربنا لمفعولا * ويخرون للأذقان يبكون ويزيدهم خشوعا ) (الإسراء: 107-109)، وكما قال سبحانه: ( إنما يخشى الله من عباده العلماء ) (فاطر:28).
وعد النبي صلى الله عليه وسلم العلم الذي لا ينفع شرا يستعاذ بالله منه فقال: ( اللهم إني أعـوذ بك من قلب لا يخشـع، ومن دعاء لا يسمـع، ومن نفس لا تشبع، ومن علم لا ينفع، أعوذ بك من هؤلاء الأربع ) (أخرجه الترمذي، 3482؛ والنسائي، 5442).
ولئن وجد للعلوم الأخرى أثر فيما يسمى بالاتجاه فهو مختلف عن العلم الشرعي، فضلا عن اختصاص العلم الشرعي بالتزكية، وإصلاح النفس، والهداية، بل هو طريق بيان سبيل الجنة والنار.
إن الحديث عن هذه الخصائص والتميز للعلم الشرعي لا يعني رفض الإفادة من نتاج الأمم الأخرى، ولا يعني الإصرار على تميز تدريس العلم [ ص: 137 ] الشرعي عن غيره بكافة التفاصيل، وإهدار التجارب البشرية والنتاج العلمي، لكن هذه الخصائص وغيرها فوارق جوهرية من المهم استحضارها في مناهج البحث المتصلة بتطوير التعليم الشرعي، ولا يسوغ أن نستورد القوالب الغربية والشرقية كما هي ونلبسها على العلوم الشرعية.
وهذا يفرض على المشتغلين بتطوير التعليم الشرعي بذل جهد في تمحيص التجارب الأخرى وتقويم مدى ملاءمتها لتدريس العلوم الشرعية وتطوير تلك التجارب بما يجعلها أكثر ملاءمة لخصوصيات العلوم الشرعية.
وينتقد صادقي هذا المنحى البحثي فيما يتصل بتدريس العلوم الشرعية فيقول: "لقد عرفت المنظومة التربوية العربية اختيارات بيداغواجية مأخوذة بحذافيرها عن الأنماط التربوية المتداولة في الدول الأوروبية (سواء المدارس الفرانكفونية أو الأنغلوسكسونية) مثل مدخل التدريس بالأهداف، ومدخل التـدريس بالكفايات، ومدخـل الإدماج، وقـد عرفت هذه الاختيارات -والحقيقة أنها اختيارات عند واضعيها فحسب- طريقها إلى الجامعات العربية بما في ذلك شعب الدراسات الإسلامية وكليات الشريعة، ولنا أن نتساءل: هل تنتهض هذه الأنماط البيداغواجية بمقاصد الدراسة الشرعية عموما والفقهية بصفة خاصة؟ هل تراعي خصوصيات المواد الشرعية ومنطقها الداخلي؟ إن الذي يؤكد شرعية مثل هـذه الأسئلة، أن تلك الاختيارات نشأت في أوساط غير مسـلمة ولا معنى لديها لعلوم شرعية، ولا لمركزية النص الموحى به، فهذه الاعتبارات لم تحضر في أذهان التربويين والمنظرين، [ ص: 138 ] حين قعدوا مفردات الأنماط التربوية، ولم يعيروها أدنى اهتمام" (منهاج تدريس الفقه، ص 17).
ويتجاوز الأمر عند بعض الباحثين تطبيق التجـارب الغربية كما هي - دون مراعاة خصوصيات التعليم الشرعي - إلى استخدام تلك التجارب في تقويم التعليم الشرعي التراثي.
وينتقد صادقي هذا المنحى ويسميه بالإسقاط؛ فيقول: "خامسا: الإسقاط، وهو تنزيل القضايا المعاصرة بما في ذلك الاصطلاحات والمفاهيم والقيم على الأحداث السالفة، ومحاكمة الماضي استنادا إلى الحاضر، مع إغفال مقتضيات الأحوال واختلاف الظروف والمعايير بين السابق واللاحق.
قد يحدث الإسقاط في وصف أحداث التاريخ كما قد يحدث في دراستها وتقويمها؛ فمن الأول، مثلا أن يسمى القضايا الماضية بتسميات معاصرة ويسقط عليها أوصافا أو أحكاما لم تكن في ذلك الزمان، فيتدرج من تعدية الاسم إلى تعدية الوصف والحكم، كأن يسمي مجالس العلم بقرطبة قديما (جامعة قرطبة) ويحاول أن ينزل عليها نعوتا وأحكاما لم تتبلور إلا في الجامعة المعاصرة. ومن الثاني، أن ينكر على الأولين عدم استخدامهم بعض الوسائل المعاصرة في التدريس، أو عدم تحديدهم سنوات التمدرس ومواد الدراسة، فيقع بذلك في غلط جسيم وخلط سقيم، أقل ما فيه إغفال حقيقة التراكم المعرفي والذهول عن حقيقة النسبية في المعايير والأحكام، فليس بالضـرورة أن ما تواضعنـا عليه في هذا الزمان ورأيناه صالحا لنا كان [ ص: 139 ] سيصلح للسابقين، فلكل زمان رجاله وأحكامه وقيمه ( تلك أمة قد خلت لها ما كسبت)" (منهاج تدريس الفقه، ص 34-35).
ثم يقول: "وأما المعيار الثالث الذي أستبعده لأنه ينتج تقويما موهوما، ويفضي إلى الإسقاط التاريخي، فهو الحكم على التراث من خلال مفاهيم التربية المعاصرة، بحيث نجعل مستحدثات علوم التربية والأساليب المعاصرة موازين توزن بها المناهج والطرائق التراثية. فلا شك في أن في المعيار الثالث إهدار لقيمة التراث حين نقحمه في محاكمة يكون فيها الحاضر خصما وحكما؛ يكون خصما باعتبار أنا جعلنا التجربة التربوية التراثية في مقابل المفاهيم التربوية المعاصرة، وجعلناهما في صعيد واحد، متناسين اختلاف المعطيات الحضارية والثقافية والسياق العام لكل تجربة؛ ويكون حكما باعتبار أننا جعلنا علوم التربية المعاصرة ميزانا توزن به قيمة التراث التربوي الفقهي، ونظرنا إلى الماضي من زاوية نظر معاصرة، والأمر أوضح من أن نبين اختلال هذا الميزان، وفساد مثل هذا التقويم، وعدم إفادته للمطلوب" (منهاج تدريس الفقه، ص44).