وقال ، الليث بن سعد والأوزاعي ، : يصلب حيا ثم يطعن بالحربة حتى يموت . وأبو يوسف
وقال بعض أصحابنا الظاهرين : يصلب حيا ويترك حتى يموت ، وييبس كله ويجف ، فإذا يبس وجف أنزل ، فغسل ، وكفن ، وصلي عليه ، ودفن ؟ قال رحمه الله : فلما اختلفوا وجب أن ننظر فيما احتجت به كل طائفة لقولها لنعلم الحق من ذلك فنتبعه - بعون الله تعالى ومنه - فنظرنا في ذلك ، فوجدنا من قال : يقتل ثم يصلب مقتولا ، يحتجون بما ذكرناه قبل في " كتاب الدماء " من ديواننا كيف يكون القود من قول رسول الله صلى الله عليه وسلم { أبو محمد } . ومن قوله عليه السلام { إن الله كتب الإحسان على كل شيء فإذا قتلتم فأحسنوا القتلة } . [ ص: 294 ] ومن نهيه عليه السلام أن يتخذ شيئا فيه الروح غرضا ولعنه عليه السلام من فعل ذلك . أعف الناس قتلة أهل الإيمان
وقد ذكرنا هذه الأحاديث هنالك بأسانيدها فأغنى عن إعادتها .
وقالوا : طعنه على الخشبة ليس قتلة حسنة ، ولا عفيفة ، وهو اتخاذ الروح غرضا ، فهذا لا يحل ؟ ونظرنا فيما احتج به من رأى قتله مصلوبا فوجدناهم يقولون : إن الله تعالى إنما أمرنا بالقتل عقوبة ، وخزيا للمحارب في الدنيا ، فإذ ذلك كذلك ، فالعقوبة والخزي لا يقعان على ميت ، وإنما خزي الميت في الآخرة لا في الدنيا ، فلما كان ذلك كذلك بطل أن يصلب بعد قتله ردعا لغيره ؟ فعارضهم الأولون - بأن قالوا : يصلب بعد قتله ردعا لغيره .
فعارضهم هؤلاء بأن قالوا : ليس ردعا ، وإنما هو عقوبة للفاعل ، وخزي بنص القرآن - وفي صلبه ، ثم قتله ، أعظم الردع أيضا ؟ قال رحمه الله : هذا كل ما احتجت به الطائفتان معا ، والتي احتجت به كلتا الطائفتين حق ، إلا أنه أنتجوا منه ما لا توجبه القضايا الصحاح التي ذكروا ، فمالوا عن شوارع الحق إلى زوائغ التلبيس والخطأ ؟ قال أبو محمد رحمه الله : وذلك على ما نبين إن شاء الله تعالى : فنقول : إن قول رسول الله صلى الله عليه وسلم { أبو محمد } و { إن أعف الناس قتلة أهل الإيمان } و { إذا قتلتم فأحسنوا القتلة } . والنهي عن ذلك ، فهو كله حق ، كما قاله رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو كله مانع من أن يقتل بعد الصلب برمح أو برمي سهام ، أو بغير ذلك كما ذكرنا . لعن الله من اتخذ شيئا فيه الروح غرضا
وإنما في هذه الأحاديث وجوب الفرض في إحسان قتله إن اختار الإمام قتله فقط ، وليس في شيء من هذه الأخبار وجوب صلبه بعد القتل ، ولا إباحة صلبه بعد القتل ألبتة ، لا بنص ، ولا بإشارة .
فأما إحسان القتل فحق ، وأما صلبه بعد القتل ، فدعوى فاسدة ، ليست في شيء من الآثار التي ذكروا ، ولا غيرها - فبطل بيقين - لا شك فيه - احتجاجهم بهذه الأخبار [ ص: 295 ] في النكتة التي عليها تكلموا - وهي الصلب بعد القتل أو قبله - وسقط قولهم ، إذ تعرى من البرهان ؟ قال رحمه الله : ثم نظرنا فيما احتجت به الطائفة الثانية الموجبة قتله بعد الصلب ، فوجدناهم يقولون : إن الصلب عقوبة وخزي في الدنيا ، كما قال الله تعالى ، وإن الميت لا يخزى في الدنيا بعد موته ، ولا يعاقب بعد موته : قولا صحيحا لا شك فيه - ووجدناهم يقولون : إن الردع يكون بصلبه حيا قولا أيضا خارجا عن أصولهم ، إلا أنه ليس في شيء من ذلك كله إيجاب قتله بعد الصلب ، كما قالوا ، ولا إباحة ذلك أيضا - وإنما في كل ما قالوه : إيجاب الصلب فقط ، فأقحموا فيه القتل بعد الصلب جريا على عادتهم ، في التلبيس والزيادة بالدعاوى الكاذبة ، على النصوص ما ليس فيها - فبطل قولهم أيضا لما ذكرنا ؟ قال أبو محمد رحمه الله : فلما بطل القولان معا وجب الرد إلى القرآن ، والسنة ، كما افترض الله تعالى علينا بقوله عز وجل { أبو محمد فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول } ففعلنا فوجدنا الله تعالى قد قال { إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله } الآية كلها .
فصح يقينا أن الله تعالى لم يوجب قط عليهم حكمين من هذه الأحكام ، ولا أباح أن يجمع عليهم خزيان من هذه الأخزاء في الدنيا ، وإنما أوجب على المحارب أحدها لا كلها ، ولا اثنين منها ، ولا ثلاثة
فصح بهذا يقينا لا شك فيه : أنه إن قتل فقد حرم صلبه ، وقطعه ، ونفيه .
وأنه إن قطع ، فقد حرم قتله ، وصلبه ، ونفيه .
وأنه إن نفي ، فقد حرم قتله ، وصلبه وقطعه وأنه إن صلب ، فقد حرم قتله ، وقطعه ، ونفيه - لا يجوز ألبتة غير هذا ، فحرم بنص القرآن صلبه إن قتل .
وحرم أيضا بنص القرآن قتله إن صلب وحرم هذا الوجه أيضا بسنن رسول الله صلى الله عليه وسلم التي ذكرنا من { } و { إن أعف الناس قتلة [ ص: 296 ] أهل الإيمان } و { إذا قتلتم فأحسنوا القتلة } والنهي عن ذلك . فلما حرم قتله مصلوبا بيقين ; لما ذكرنا من وجوب اللعنة على من اتخذ شيئا فيه الروح غرضا - وحرم صلبه بعد القتل لما ذكرنا أنه لا يجوز عليه جمع الأمرين معا وجب ضرورة أن الصلب الذي أمر الله تعالى به في المحارب إنما هو صلب لا قتل معه ؟ ولو لم يكن هكذا لبطل الذي أمر الله تعالى به ، ولكان كلاما عاريا من الفائدة أصلا ، وحاش لله تعالى من أن يكون كلامه تعالى هكذا ؟ ولكان أيضا تكليفا لما لا يطاق - وهذا باطل . فصح يقينا أن الواجب أن يخير الإمام صلبه إن صلبه حيا ، ثم يدعه حتى ييبس ويجف كله ; لأن الصلب في كلام لعن الله من اتخذ شيئا فيه الروح غرضا العرب يقع على معنيين : أحدهما : من الأيدي ، والربط على الخشبة ، قال الله تعالى حاكيا عن فرعون { ولأصلبنكم في جذوع النخل }
والوجه الآخر : التيبيس ، قال الشاعر ، يصف فلاة مضلة :
بها جيف الحسرى فأما عظامها فبيض وأما جلدها فصليب
يريد أن جلدها يابس . وقال الآخر :جذيمة ناهض في رأس نيق ترى لعظام ما جمعت صليبا
فإن قال قائل : أليس الرجم اتخاذ ما فيه الروح غرضا ؟ وكذلك قولكم في القود بمثل ما قتل ؟ [ ص: 297 ] فجوابنا ، وبالله تعالى التوفيق : نعم ، وهما مأمور بهما ، قد حكم عليه السلام بكليهما فوجب أن يكونا مستثنيين مما نهى عنه من اتخاذ الروح غرضا ، فأما الرجم فبالنص والإجماع ، وأما القود فبالنص الجلي في رضخ رأس اليهودي وفي العرنيين كما قلتم أنتم ونحن في أن القصاص من قطع الأيدي ، والأرجل ، وسمل الأعين ، وجدع الأنف ، والآذان ، وقطع الشفاه ، والألسنة ، وقلع الأضراس ، حق واجب إنفاذه ، مستثنيين من المثلة المحرمة ، ولا فرق
فإن قال قائل : فإنكم قد سمعتم قول رسول الله صلى الله عليه وسلم { } و { أعف الناس قتلة أهل الإيمان } وأنتم تقتلونه أوحش قتلة وأقبحها : جوعا ، وعطشا ، وحرا ، وبردا ؟ فنقول : وما قتلناه أصلا ، بل صلبناه كما أمر الله تعالى : وما مات إلا حتف أنفه ، وما يسمى هذا في اللغة مقتولا إذا قتلتم فأحسنوا القتلة
فإن قالوا : فإنكم تقولون فيمن إنه يسجن ويمنع الأكل والشرب حتى يموت ، فهذا قتل بقتل ؟ فنقول : إن هذا ليس قتلا ، ولا قودا بقتل ، بل هو ظلم وقود من الظلم فقط . سجن إنسانا ومنعه الأكل والشرب حتى مات
وبرهان ذلك : أن : أنه لا كفارة على قافل الباب أصلا ، ولا دية على عاقلته ; لأنه ليس قاتلا ؟ فإن قيل : إنكم تمنعونه الصلاة والطهارة ؟ قلنا : نعم ; لأن الله تعالى إذ أمر بصلبه قد علم أنه ستمر عليه أوقات الصلوات ، فلم يأمرنا بإزالة التصليب عنه من أجل ذلك { رجلا لو اتفق له أن يقفل بابا بغير عدوان ، فإذا في داخل الدار إنسان لم يشعر به ، فمات هنالك جوعا وعطشا وما كان ربك نسيا } فلا يسع مسلما ، ولا يحل له أن يعترض على أمر الله تعالى { لا معقب لحكمه } و { لا يسأل عما يفعل وهم يسألون } .