الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
قال ( وإن وقع في البئر بول ما يؤكل لحمه أفسده في قول أبي حنيفة [ ص: 54 ] وأبي يوسف - رحمهما الله تعالى - ، ولا يفسده في قول محمد ، ويتوضأ منه ما لم يغلب عليه ) .

وأصل المسألة أن بول ما يؤكل لحمه نجس عندهما طاهر عند محمد رحمه الله تعالى ، واحتج بحديث أنس رضي الله تعالى عنه { أن قوما من عرنة جاءوا إلى المدينة فأسلموا فاجتووا المدينة فاصفرت ألوانهم ، وانتفخت بطونهم فأمرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يخرجوا إلى إبل الصدقة فيشربوا من أبوالها ، وألبانها } الحديث ، فلو لم يكن طاهرا لما أمرهم بشربه ، والعادة الظاهرة من أهل الحرمين بيع أبوال الإبل في القوارير من غير نكير دليل ظاهر على طهارتها ، ولهما قول النبي صلى الله عليه وسلم { استنزهوا من البول فإن عامة عذاب القبر منه } ، ولما ابتلي سعد بن معاذ رضي الله تعالى عنه بضغطة القبر { سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن سببه فقال إنه كان لا يستنزه من البول } ، ولم يرد به بول نفسه فإن من لا يستنزه منه لا تجوز صلاته ، وإنما أراد أبوال الإبل عند معالجتها ، والمعنى أنه مستحيل من أحد الغذاءين إلى نتن ، وفساد فكان نجسا كالبعر . فأما حديث أنس رضي الله تعالى عنه فقد ذكر قتادة عن أنس رضي الله تعالى عنه { أنه رخص لهم في شرب ألبان الإبل } ، ولم يذكر الأبوال ، وإنما ذكره في حديث حميد عن أنس رضي الله تعالى عنهما ، والحديث حكاية حال فإذا دار بين أن يكون حجة ، أو لا يكون حجة سقط الاحتجاج به ، ثم نقول خصهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بذلك ; لأنه عرف من طريق الوحي أن شفاءهم فيه ، ولا يوجد مثله في زماننا ، وهو كما { خص الزبير رضي الله تعالى عنه بلبس الحرير لحكة كانت به } ، وهي مجاز عن القمل فإنه كان كثير القمل ، أو ; لأنهم كانوا كفارا في علم الله تعالى ، ورسوله علم من طريق الوحي أنهم يموتون على الردة ، ولا يبعد أن يكون شفاء الكافر في النجس .

إذا عرفنا هذا فنقول : إذا وقع في الماء فعند محمد رحمه الله هو طاهر فلا يفسد الماء حتى يجوز شربه ، ولكن إذا غلب على الماء لم يتوضأ به كسائر الطاهرات إذا غلبت على الماء ، وعند أبي حنيفة وأبي يوسف رحمهما الله هو نجس فكان مفسدا للماء ، والبئر ، والإناء فيه سواء ، وعلى قول أبي حنيفة رحمه الله تعالى لا يجوز شربه للتداوي ، وغيره لقوله صلى الله عليه وسلم { إن الله تعالى لم يجعل شفاءكم فيما حرم عليكم } ، وعند محمد يجوز شربه للتداوي ، وغيره ; لأنه طاهر عنده ، وعند أبي يوسف يجوز شربه للتداوي لا غير عملا بحديث العرنيين ، ولا يجوز لغيره ، ولو أصاب الثوب لم ينجسه عند محمد رحمه الله تعالى حتى تجوز الصلاة فيه ، وإن امتلأ الثوب منه ، وعلى [ ص: 55 ] قول أبي حنيفة وأبي يوسف - رحمهما الله تعالى - ينجس الثوب إلا أنه يجوز الصلاة فيه ما لم يكن كثيرا فاحشا ; لأنه مختلف في نجاسته ، وفيه بلوى لمن يعالجها فخفت نجاسته لهذين المعنيين فكان التقدير بالكثير الفاحش ، وقال أبو حنيفة رحمه الله تعالى الكثير الفاحش في الثوب الربع فصاعدا قيل أراد به ربع الموضع الذي أصابه من ذيل ، أو غيره ، وقيل أراد به ربع جميع الثوب ، وهو الصحيح ، وهذا ; لأن الربع ينزل منزلة الكمال بدليل أن المسح بربع الرأس كالمسح بجميعه ، وعن أبي يوسف في روايته الكثير الفاحش شبر في شبر ، وفي رواية ذراع في ذراع ، وعن محمد رحمه الله تعالى فيما يقدر الكثير الفاحش على قوله كالأرواث ، وغيره أنه قدر موضع القدمين ، وهذا قريب من شبر في شبر .

التالي السابق


الخدمات العلمية