. كتاب التحري
( قال ) رضي الله عنه اعلم بأن التحري لغة هو الطلب والابتغاء كقول القائل لغيره أتحرى مسرتك أي أطلب مرضاتك قال تعالى { فأولئك تحروا رشدا } وهو والتوخي سواء إلا أن لفظ التوخي يستعمل في المعاملات والتحري في العبادات { } وقال صلى الله عليه وسلم في العبادات { قال صلى الله عليه وسلم للرجلين الذين اختصما في المواريث إليه : اذهبا وتوخيا واستهما وليحلل كل منكما صاحبه } وفي الشريعة : عبارة عن طلب الشيء بغالب الرأي عند تعذر الوقوف على حقيقته ، وقد منع بعض الناس العمل بالتحري لأنه نوع ظن والظن لا يغني من الحق شيئا ولا ينتفي الشك به من كل وجه ومع الشك لا يجوز العمل ولكنا نقول : التحري غير الشك والظن فالشك أن يستوي طرف العلم بالشيء والجهل به والظن أن يترجح أحدهما بغير دليل والتحري أن يترجح أحدهما بغالب الرأي وهو دليل يتوصل به إلى طرف العلم وإن كان لا يتوصل به إلى ما يوجب حقيقة العلم ولأجله سمي تحريا ، فالحر اسم لجبل على طرف المفاوز والدليل على ما قلنا الكتاب [ ص: 186 ] والسنة أما الكتاب فقوله تعالى { : إذا شك أحدكم في صلاته فليتحر الصواب فامتحنوهن الله أعلم بإيمانهن فإن علمتموهن مؤمنات } وذلك بالتحري وغالب الرأي فقد أطلق عليه العلم ، والسنة قوله صلى الله عليه وسلم { } وقال صلى الله عليه وسلم { المؤمن ينظر بنور الله } { فراسة المؤمن لا تخطئ لوابصة ضع يدك على صدرك فالإثم ما حاك في قلبك وإن أفتاك الناس } وشيء من المعقول يدل عليه فإن الاجتهاد في الأحكام الشرعية جائز للعمل به وذلك عمل بغالب الرأي ثم جعل مدركا من مدارك أحكام الشرع وإن كان لا يثبت به ابتداء ، فكذلك التحري مدرك من مدارك التوصل إلى أداء العبادات ، وإن كانت العبادة لا تثبت به ابتداء ، والدليل عليه أمر الحروب ، فإنه يجوز العمل فيها بغالب الرأي مع ما فيها من تعريض النفس المحترمة للهلاك . وقال صلى الله عليه وسلم
( فإن قيل ) : ذلك من حقوق العباد وتتحقق الضرورة لهم في ذلك كما في قيم المتلفات ونحوها ونحن إنما أنكرنا هذا في العبادات التي هي حق الله تعالى ( قلنا ) : في هذا أيضا معنى حق العبد وهو التوصل إلي إسقاط ما لزمه أداؤه ، وكذلك في أمر القبلة فإن التحري لمعرفة حدود الأقاليم وذلك من حق العبد ، وفي الزكاة التحري لمعرفة صفة العبد في الفقر والغنى فيجوز أن يكون غالب الرأي طريقا للوصول إليه إذا عرفنا هذا فنقول : بدأ الكتاب بمسائل الزكاة وكان الأولى أن يبدأ بمسائل الصلاة لأنها مبتدأة في القرآن ، وكأنه إنما فعل ذلك لأن معنى حق العبد في الصدقة أكثر فإنه يحصل بها سد خلة المحتاج أو لأنه وجد في باب الصدقة نصا وهو حديث يزيد السلمي على ما بينه فبدأ بما وجد فيه النص ثم عطف عليه ما كان مجتهدا فيه ، ومسألة الزكاة على أربعة أوجه : أحدها أن فهذا يجزيه ما لم يتبين أنه غني لأن مطلق فعل المسلم محمول على ما يصح شرعا وعلى ما يصح فيه تحصيل مقصوده وعلى ما هو المستحق عليه حتى يتبين خلافه ، فإن الفقر في القابض أصل فإن الإنسان يولد ولا شيء له ، والتمسك بالأصل حتى يظهر خلافه جائز شرعا ، فالمعطي في الإعطاء يعتمد دليلا شرعيا فيقع المؤدى موقعه ما لم يعلم أنه غني فإذا ، علم ذلك فعليه الإعادة لأن الجواز كان باعتبار الظاهر ولا معتبر بالظاهر إذا تبين الأمر بخلافه فإن يعطي زكاة ماله رجلا من غير شك ولا تحر ولا سؤال فإنه لا يجزيه ما لم يعلم أنه فقير ، لأن بعد الشك لزمه التحري . شك في أمره بأن كان عليه هيئة الأغنياء أو كان في أكبر رأيه أنه غني ومع ذلك دفع إليه
فإذا ترك التحري بعدما لزمه لم يقع المؤدى موقع الجواز إلا أن يعلم أنه فقير فحينئذ يجوز لأن التحري كان لمقصود [ ص: 187 ] وقد حصل ذلك المقصود بدونه فسقط وجوب التحري كالسعي إلى الجمعة واجب لمقصود وهو أداء الجمعة فإذا توصل إلى ذلك بأن حمل إلى الجامع مكرها سقط عنه فرض السعي ، والثالث أن مع ذلك فهذا لا يشكل أنه لا يجزيه ما لم يعلم بفقره فإذا علم فهو جائز وهو الصحيح ، وقد زعم بعض مشايخنا رحمهم الله تعالى أن عند يتحرى بعد الشك ويقع في أكبر رأيه أنه غني فدفع إليه أبي حنيفة رحمهما الله تعالى أنه لا يجزيه على قياس ما نبينه في الصلاة والأصح هو الفرق فإن ومحمد لا تكون طاعة فإذا كان عنده أن فعله معصية لا يمكن إسقاط الواجب عنه ، فأما التصدق على الغني صحيح ليس فيه معنى المعصية فيمكن إسقاط الواجب بفعله هذا إذا تبين وصول الحق إلى مستحقيه بظهور فقر القابض ، والفصل الرابع أن الصلاة لغير القبلة مع العلم فإذا ظهر أنه فقير أو لم يظهر من حاله شيء جاز بالاتفاق وإن ظهر أنه كان غنيا فكذلك في قول يتحرى ويقع في أكبر رأيه أنه فقير فدفع إليه أبي حنيفة وهو قول ومحمد رحمه الله تعالى الأول وفي قوله الآخر تلزمه الإعادة وهو قول أبي يوسف رحمه الله تعالى وكذلك لو كان جالسا في صف الفقراء يصنع صنيعهم أو كان عليه زي الفقراء أو سأله فأعطاه فهذه الأسباب بمنزلة التحري . الشافعي
وجه قول رحمه الله تعالى أنه تبين له الخطأ في اجتهاده بيقين فسقط اعتبار اجتهاده كمن أبي يوسف نجسا أو توضأ بماء وصلى ثم تبين له أنه كان أو صلى في ثوب ثم علم أنه كان نجسا ، وبيانه أن صفة الفقر والغنى يوقف عليهما حقيقة فإن الشرع علق بهما أحكاما من النفقة وضمان العتق وغير ذلك وإنما تتعلق الأحكام الشرعية بما يوقف عليه ، وإذا ثبت الوصف فتأثيره أن المقصود ليس هو عين الاجتهاد بل المقصود اتصال الحق إلى المستحق فإذا تبين أنه لم يوصله إلى مستحقه صار اجتهاده وجودا أو عدما بمنزلة ، لأن غالب الرأي معتبر شرعا في حقه ولكن لا يسقط به الحق المستحق عليه لغيره ، والزكاة صلة مستحقة للمحاويج على الأغنياء فلا يسقط ذلك بعذر في جانبه إذا لم يوصل الحق إلى مستحقه ، وبه فارق الصلاة على أصل القاضي قضى في حادثة بالاجتهاد ثم ظهر نص بخلافه رحمه الله تعالى لأن فريضة التوجه إلى القبلة لحق الشرع وهو معذور عند الاشتباه فيمكن إقامة الاجتهاد مقام ما هو المستحق عليه في حق الشرع ، وحجة أبي يوسف أبي حنيفة رحمهما الله تعالى أنه مؤد لما كلف فيسقط به الواجب كما لو لم يظهر شيء من حال المصروف إليه ، وبيانه أنه مأمور بالأداء إلى من هو فقير عنده لا إلى من هو فقير حقيقة لأنه [ ص: 188 ] لا طريق إلى معرفة ذلك حقيقة فالإنسان قد لا يعرف من نفسه حقيقة الفقر والغنى فكيف يعرفه من غيره ، والتكليف يثبت بحسب الوسع ، والذي في وسعه الاستدلال على فقره بدليل ظاهر من سؤال أو هيئة عليه أو جلوس في صف الفقراء وعند انعدام ذلك كله المصير إلى غالب الرأي ، وقد أتى بذلك وإنما يكتفي بهذا القدر لمعنى الضرورة ولا يرتفع ذلك بظهور حاله بعد الأداء لأنه ليس له أن يسترد المقبوض من القابض ولا أن يضمنه بالاتفاق ، فلو لم يجز عنه ضاع ماله فلبقاء الضرورة قلنا : يجعل المؤدى مجزيا عنه ولأنه لا يعلم حقيقة غناه وإنما يعرف ذلك بالاجتهاد وما أمضي بالاجتهاد لا ينقض باجتهاد مثله وتعلق الأحكام الشرعية بالغنى لا يدل على أنه يعرف صفة الغني حقيقة لأن الأحكام تنبني على ما يظهر لنا كما ينبني الحكم على صدق الشهود . ومحمد
وإن كان لا يعلم حقيقة ، وبه فارق النص لأنه يوقف عليه حقيقة فكان المجتهد مطالبا بالوصول إليه وإن كان قد تعذر إذا كان يلحقه الحرج في طلبه فإذا ظهر بطل حكم الاجتهاد وكذلك نجاسة الماء ونجاسة الثوب يعرف حقيقة فيبطل بظهور النجاسة حكم الاجتهاد في الطهارة ، ولا نقول في الزكاة حق الفقراء بل هي محض حق الله تعالى والفقير مصرف لا مستحق كالكعبة لأداء الصلاة جهة تستقبل عند أدائها والصلاة تقع لله تعالى ، ثم هناك يسقط عنه الواجب إذا أتى بما في وسعه ولا معتبر بالتبين بعد ذلك بخلافه فكذلك هنا ، ولو فهو على هذا الاختلاف أيضا ، وذكر تبين أن المدفوع إليه كان أبا الدافع أو ابنه ابن شجاع عن رحمه الله تعالى أنه لا يجزئه هنا كما هو قول أبي حنيفة رحمه الله تعالى أما طريق أبي يوسف رحمه الله تعالى أنه من لا يكون مصرفا للصدقة مع العلم بحاله لا يكون مصرفا عند الجهل بحاله إذا تبين الأمر بخلافه ، وجه رواية أبي يوسف ابن شجاع أن النسب مما يعرف حقيقة ولهذا لو لا يلزم الحد والحد يدرأ بالشبهة فكان ظهور النسب بمنزلة ظهور النص بخلاف الاجتهاد ، وجه ظاهر الرواية ما احتج به في الكتاب فإنه روى عن قال لغيره : لست لأبيك عن إسرائيل أبي الجويرية { معن بن يزيد السلمي قال : خاصمت أبي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقضى لي عليه وذلك أن أبي أعطى صدقته لرجل في المسجد وأمره بأن يتصدق بها فأتيته فأعطانيها ثم أتيت أبي فعلم بها فقال : والله يا بني ما إياك أردت بها فاختصمنا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : يا يزيد لك ما نويت ويا معن لك ما أخذت } ولا معنى لحمله على التطوع لأن ترك الاستفسار من رسول الله صلى الله عليه وسلم [ ص: 189 ] دليل على أن في الكل واحد مع أن مطلق الصدقة ينصرف إلى الواجب وفي بعض الروايات قال { عن : صدقة ماله } .
وهو تنصيص على الواجب ، وكان المعنى فيه أن الواجب فعل هو قربة في محل يجري فيه الشح والضن وهو المال باعتبار مصرف ليس بينهما ولاد ثم عند الاشتباه والحاجة أقام الشرع أكثر هذه الأوصاف مقام الكل في حكم الجواز والحاجة ماسة لتعذر استرداد المقبوض من القابض وبهذا يستدل في المسألة الأولى أيضا ، فإن فيها معنى القربة كالتصدق على الولد ولهذا لا رجوع فيه فيقام أكثر الأوصاف مقام الكل في حق الجواز ثم طريق معرفة البنوة الاجتهاد ألا ترى أنه لما نزل قوله تعالى { الصدقة على الغني الذين آتيناهم الكتاب يعرفونه كما يعرفون أبناءهم } قال رضي الله عنه : والله إني بنبوته أعرف منى بولدي فإني أعرفه نبيا حقا ولا أدري ماذا أحدث النساء بعدي ، وإذا كان طريق المعرفة الاجتهاد كان هذا والأول سواء من حيث إنه لا ينتقض الاجتهاد باجتهاد مثله فإن عبد الله بن سلام فكذلك الجواب في ظاهر الرواية لأن المنع من جواز صرف الواجب إليه باعتبار النسب مع أن التصدق عليه قربة فهو وفصل الأب سواء ، وفي جامع البرامكة روى تبين أنه هاشمي عن أبو يوسف رحمهما الله تعالى أنه يلزمه الإعادة لأن كونه من أبي حنيفة بني هاشم مما يوقف عليه في الجملة ويصير كالمعلوم حقيقة فكان هذا بمنزلة ظهور النص بخلاف الاجتهاد ودليله أنه لو فإنه يحد أو يعزر على حسب ما اختلفوا فيه ، ولو قال لهاشمي : لست بهاشمي فهو على الخلاف أيضا وفي الأمالي روى تبين أن المدفوع إليه ذمي عن أبو يوسف رحمهما الله تعالى أنه لا يجزئه لأن الكفر مما يوقف عليه ولهذا أبي حنيفة بطل قضاء القاضي وفي ظاهر الرواية قال : ما يكون في الاعتقاد فطريق معرفته الاجتهاد والتصدق على لو ظهر أن الشهود كفار أهل الذمة قربة فهو وما سبق سواء ، وفي الكتاب قال . : أعطى ذميا أخبره أنه مسلم أو كان عليه سيما المسلمين
وفي هذا دليل أنه يجوز تحكيم السيما في هذا الباب قال تعالى : { يعرف المجرمون بسيماهم } وقال تعالى { تعرفهم بسيماهم } وفيه دليل أن لا يصير مسلما لأنه قال : أخبره أنه مسلم ثم علم أنه ذمي ، وهذا لأن قوله أنا مسلم أي منقاد للحق مستسلم وكل أحد يدعي ذلك فيما يعتقده ، وقد قال بعض المتأخرين الذمي إذا قال : أنا مسلم يحكم بإسلامه لأنهم يتشاءمون بهذا اللفظ ويتبرءون منه بخلاف : المجوسي إذا قال أنا مسلم أهل الكتاب ، وإن فهو جائز على ما [ ص: 190 ] ذكر في كتاب الزكاة ، وفي جامع البرامكة روى تبين أن المدفوع إليه مستأمن حربي عن أبو يوسف رحمهما الله تعالى الفرق بين الذمي والحربي المستأمن فقال : قد نهينا عن البر مع من يقاتلنا في ديننا فلا يكون فعله في ذلك قربة وبدون فعل القربة لا يتأدى الواجب ، ولم ننه عن المبرة مع من لا يقاتلنا قال تعالى { أبي حنيفة لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين } فيكون فعله في حق الذمي قربة يتأدى به الواجب عند الاشتباه ، ولو لا يجزئه لقصور فعله فإن الواجب عليه بالنص الإيتاء وذلك لا يكون إلا بإخراجه عن ملكه وجعله لله تعالى خالصا وكسب العبد مملوك له ، وله في كسب المكاتب حق الملك فبقاء حقه يمنع جعله لله تعالى خالصا ، وهذا بخلاف ما لو تبين أن المدفوع إليه عبده أو مكاتبه فإنه يجزئه وفي حق المكاتب مع العلم أيضا ولا ينظر إلى حال المولى لأن إخراجه من ملكه على وجه التقرب هناك فصار لله تعالى خالصا ، فأما في عبد نفسه ومكاتبه لم يتم إخراجه عن ملكه وبقاء حقه يمنعه أن يصير لله تعالى خالصا فلهذا لا يسقط به الواجب تبين أن المدفوع إليه عبد لغني أو مكاتب له