( إذا ) عرفنا هذا فنقول : بدأ الكتاب ببيان شركة العنان ، وأنهما كيف يكتبان كتاب هذه بينهما ، والشركة عقد يمتد فيستحب الكتاب في مثله ; ليكون حكما بينهما فيما يجري من المنازعة . قال الله تعالى : { الشركة يا أيها الذين آمنوا إذا تداينتم بدين إلى أجل مسمى فاكتبوه } . ثم المقصود بالكتاب : التوثق والاحتياط ; فينبغي أن يكتب على أوثق الوجوه ، ويتحرز فيه من طعن كل طاعن . ثم بدأ فقال : ( هذا ما اشترك عليه فلان وفلان ) ، وبعض أصحاب الشروط عابوا عليه في هذا اللفظ ; فقال : هذا إشارة إلى الصك ، فالأحوط أن يكتب : هذا كتاب فيه ذكر ما اشترك فلان وفلان . ولكن رحمه الله اتبع الكتاب والسنة فيما اختار . قال الله تعالى { محمدا : هذا ما توعدون } ، وهو إشارة إلى ما هو المقصود من الوعد للأبرار ، والوعيد للفجار . { محمد رسول الله من الغد بن خالد بن هوذة اليهودي } . ولما اشترى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عبدا ، أمر أن [ ص: 156 ] يكتب : هذا ما اشترى
( ولما ) { أمر صلى الله عليه وسلم بكتاب الصلح يوم الحديبية كتب رضي الله تعالى عنه بأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم : هذا ما اصطلح علي محمد بن عبد الله وسهل بن عمرو على أهل مكة ، ثم قال : اشتركا على تقوى الله وأداء الأمانة } ; فإن هذا العقد عقد أمانة ، والمقصود تحصيل الربح ، وذلك بالتقوى وأداء الأمانة يحصل . ( ثم يبين مقدار رأس مال كل واحد منهما ) ; لأن عند القسمة لا بد من تحصيل رأس مال كل واحد منهما ; ليظهر الربح ، فلا بد من إعلام ذلك في كتاب الشركة ليرجعا إليه عند المنازعة . ثم قال : ( وذلك كله في أيديهما ) . وهذه إشارة إلى أن رأس المال ليس بغائب ، ولا دين ، بل هو عين في أيديهما . ومن الناس من شرط الخلط ، ومنهم من شرط أن يكون المال في أيديهما جميعا . فللتوثق يذكر ذلك ويذكر أنهما يشتريان به ، ويبيعان جميعا في شيء ، ويعمل كل واحد منهما فيه برأيه ، ويبيع بالنقد والنسيئة . " وعندنا " : هذا يملكه كل واحد منهما بمطلق عقد الشركة ، إلا أن من العلماء من يقول : لا يملك كل واحد منهما ذلك ، ما لم يصرحا به في عقد الشركة ، فللتحرز عن قول هذا القائل يكتب هذا . ( ثم يذكر فما كان فيه من ربح فهو بينهما على قدر رءوس أموالهما ، وما كان من وضيعة أو تبعة فكذلك ) . ولا خلاف أن اشتراط الوضيعة بخلاف مقدار رأس المال باطل ، واشتراط الربح صحيح " عندنا " خلافا رضي الله تعالى عنه على ما نبينه . للشافعي
وأما مكاتبة رضي الله تعالى عنه قال : الربح على ما اشترطا ، والوضيعة على المال . وإنما يذكر هذا ليكون أبعد عن الاختلاف ، ولكن إنما يكتب هذا إذا كان الشرط بينهما هكذا . ثم قال : ( اشتركا على ذلك في شهر كذا من سنة كذا ) . وإنما بتبيين التاريخ تنقطع المنازعة ; حتى لا يدعي أحدهما لنفسه حقا فيما اشتراه قبل هذا التاريخ . ( وكتب ) التاريخ في زمن علي بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه ، فإنه شاور الصحابة - رضوان الله عليهم - في التاريخ : من أي وقت يعتبرونه ؟ فمنهم من قال : من مولد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ومنهم من قال : من وقت مبعثه ، ومنهم من قال : من وقت موته ، ثم اتفقوا على التاريخ من وقت الهجرة ، وهو المعروف الذي يتعامل عليه الناس إلى يومنا هذا . قال : ولا يجوز أن عمر ، لا في المال العين ، أو العمل بأيديهما ، أو في الذي ليس فيه شراء شيء بتأخير . فأما في المال العين : إذا تساويا في رأس المال واشترطا أن يكون الربح بينهما ثلاثا ، أو تفاوتا في رأس المال ، فكان يفضل أحدهما صاحبه في الربح : يجوز " عندنا " ، وعلى قول لأحدهما ألف وللآخر ألفان ، واشترطا أن يكون الربح بينهما نصفين [ ص: 157 ] زفر - رحمهما الله تعالى - لا يجوز ، أما عند والشافعي رحمه الله تعالى فلأن شركة الملك على مذهبه أصل ، وفي شركة الملك لا يجوز أن يستحق أحدهما شيئا من ربح ملك صاحبه ، فكذلك في شركة العقد ، واعتبر الربح بالوضيعة ، فهي بينهما على قدر رءوس أموالهما ، واشتراطهما خلاف ذلك باطل ، فكذلك الربح . ولكنا نقول : استحقاق الربح بالشرط . الشافعي
فإنما يستحق كل واحد منهما بقدر ما شرط له ; لقوله - صلى الله عليه وسلم - { } . ثم جواز هذا العقد لحاجة الناس إليه ، والحاجة ماسة إلى هذا الشرط ، فقد يكون أحدهما أحذق من الآخر في وجوه التجارة ; فلا يرضى بأن يساويه صاحبه في استحقاق الربح مع حذاقته ، وخرق صاحبه . ثم الربح يستحق بالعمل بدون المال - وهو في المضاربة - فبالعمل مع المال أولى . ( ثم ) الوضيعة هلاك جزء من المال ، وكل واحد منهما أمين فيما في يده من مال صاحبه ، واشتراط الضمان على الأمين باطل ، ألا ترى أن في المضاربة لا يجوز اشتراط شيء من الوضيعة على المضارب ، ولهذا يقول المسلمون عند شروطهم رحمه الله : إن التساوي في الربح مع التفاضل في رأس المال لا يجوز هنا ; لأنه لو جاز إنما يجوز بالقياس على المضاربة ، على معنى أن صاحب الألفين يشترط جزءا من الربح للآخر بعمله فيه ، ومثل هذا في المضاربة لا يجوز ; لأن المال في أيديهما هنا ، والعمل مشروط عليهما ، وفي المضاربة لو شرط العمل على رب المال ، أو كون المال في يده : لا يجوز ، ولكنا نقول موجب المضاربة التخلية بين المضارب وبين رأس المال ; فيكون أمينا عاملا فيه ، وذلك ينعدم بهذا الشرط . فأما موجب الشركة ليس هو التخلية بين أحدهما والمال ، فهذا الشرط لا يؤدي إلى إبطال موجب الشركة . ( ثم ) حكم المضاربة هنا ثبت تبعا للشركة ، وقد يثبت الشيء حكما على وجه لا يجوز إثباته قصدا كالكفالة الثابتة في ضمن المفاوضة . وكذلك في العمل بأيديهما يجوز شرط التفاضل في الربح " عندنا " للحاجة إلى ذلك ; فقد يكون أحدهما أحذق في العمل من الآخر . فأما قوله : أو في الذي ليس فيه شراء شيء بتأخير ، فهو إشارة إلى شركة الوجوه ، فإن التفاضل في الربح هناك لا يجوز عند اشتراط التساوي في ملك المشتري ; لأن ذلك ربح ما لم يضمن ، وقد بينا ذلك . زفر