ثم ، وذلك أفضل ; لما فيه من صلة الرحم ، وإليه أشار النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال : { الهبة والصدقة قد تكون من الأجانب ، وقد تكون من القرابات } . ولهذا بدأ الكتاب بحديث رواه عن أفضل الصدقة على ذي الرحم الكاسح إبراهيم عن رضي الله عنه قال : من وهب لذي رحم محرم هبة ; فقبضها ; فليس له أن يرجع فيها . وذكر بعد هذا عن عمر عطاء عن ، ومجاهد رضي الله عنه قال من وهب هبة لذي رحم محرم ; فقبضها : فليس له أن يرجع فيها ، ومن وهب هبة لغير ذي رحم : فله أن يرجع فيها - ما لم يثب منها - . والمراد بقوله : ذي رحم محرم : قد ذكر ذلك في بعض الروايات ، وهذا لأنه يفترض صلة القرابة المتأبدة بالمحرمية دون القرابة المتحرزة عن المحرمية ، وهو كما يتلى في القرآن في قوله - سبحانه وتعالى - { عمر واتقوا الله الذي تساءلون به والأرحام } أي : اتقوا الأرحام أن تقطعوها ، وقال الله تعالى : { وتقطعوا أرحامكم أولئك الذين لعنهم الله فأصمهم وأعمى أبصارهم } .
والمراد : الرحم المتأبد بالمحرمية . ثم إن الحديث دليل أن الهبة لا تتم إلا بالقبض ; لأنه اعتبر القبض للمنع عن الرجوع ، وهو دليل لنا أن ليس له أن يرجع فيها كالولد إذا وهب لوالده ، وهذا لأن المنع من الرجوع لحصول المقصود - وهو صلة الرحم - أو لما في الرجوع والخصومة فيه من قطيعة الرحم ، والولاد في ذلك أقوى من القرابة المتأبدة بالمحرمية ، وفيه دليل على أن : الوالد إذا وهب لولده هبة - ما لم يعوض منها - لقوله صلى الله عليه وسلم : ما لم يثب ، والمراد بالثواب : العوض من وهب لأجنبي هبة فله أن يرجع فيها فعمر رضي الله عنه إمامنا في المسألتين يحتج بقوله رضي الله عنه على الخصم ، وقد قال - عليه الصلاة والسلام - { فعمر معه ، وإن ملكا ينطق على لسان عمر } . ( وعن ) : أينما دار الحق عائشة رضي الله عنها قالت : نحلني رضي الله عنه جذاذ عشرين وسقا من ماله بالعالية ، فلما حضره الموت حمد الله تعالى وأثنى عليه ثم قال : يا بنية إن أحب الناس إلي غنى أنت ، وأعزهم علي فقرا أنت ، وإني كنت نحلتك جذاذ عشرين وسقا من مالي بالعالية ، وإنك لم تكوني قبضتيه ، ولا حزتيه ، وإنما هو مال الورثة ، وإنما هما أخواك ، وأختاك قالت : فقلت : فإنما هي أبو بكر أم عبد الله - يعني أسماء - قال : إنه ألقي في نفسي أن في بطن بنت خارجة جارية . ثم ذكر عن الشعبي عن عائشة رضي الله عنها أن رضي الله عنه نحلها أرضا له ، وفي هذا دليل أن الهبة لا تتم إلا بالقبض وأنه يستوي في ذلك الأجنبي ، والولد إذا كانا بالغين ، وفيه دليل على أن الهبة لا تتم إلا بالقسمة - فيما يحتمل القسمة - ; لأن أبا بكر رضي الله عنه أبطل لعدم القبض ، [ ص: 50 ] والحيازة جميعا بقوله : وإنك لم تكوني قبضتيه ، ولا حزتيه ، والمراد بالحيازة : القسمة ; لأنه يقال : حاز كذا ، أي : جعله في حيزه بقبضه . وحاز كذا ، أي : جعله في حيزه بالقسمة . ولو حملناه على القبض هنا كان تكرارا ، وحمل اللفظ على ما يستفاد به فائدة جديدة أولى من حمله على التكرار . أبا بكر
وفيه دليل : أن فيما يحتمل القسمة لا تكون باطلة ; لأن هبة المشاع رضي الله عنه باشرها ، ولكن لا يحصل الملك إلا بعد القسمة ، كما لا يحصل الملك إلا بعد القبض ، ولا نقول : الهبة قبل القبض باطلة ، وفيه دليل أن التسليم كالتمليك المبتدإ ; لأن أبا بكر رضي الله عنه امتنع من ذلك لمرضه ; فإن المريض ممنوع من إيثار بعض ورثته بشيء من ماله بطريق التبرع ، ولكن طيب قلبها بما قال انتدابا إلى ما ندب إليه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في قوله : { أبا بكر } بدأ كلامه بالحمد والثناء على الله تعالى ، وكل مسلم مندوب إلى ذلك - خصوصا في وصيته - ثم يستدل بقوله : إن أحب الناس إلي غنى : أنت ، وأعزهم علي فقرا : أنت ، أي : أشدهم من تفضيل الغني الشاكر على الفقير الصابر . ولا شك أن رحم الله امرأ أعان ولده على بره رضي الله عنه كان يحب لها أعلى الدرجات ، ولكن المذهب عندنا : أن الأفضل ما اختاره رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وقد قال : عليه الصلاة والسلام { أبا بكر } . وقال صلى الله عليه وسلم : { اللهم أحيني مسكينا وأمتني مسكينا ، واحشرني في زمرة المساكين } . وكذلك الفقر أزين بالمؤمن من العذار الجيد على خد الفرس رضي الله عنه اختار الفقر لنفسه حين أنفق جميع ماله على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فعرفنا أنه إنما قال ذلك تطييبا لقلبها ، أو أحب الغنى لها ; لعجزها عن الكسب ، أو ظن أنه يشق عليها الصبر على الفقر ; فلهذا قال : أحب الناس إلي غنى : أنت ، وإني كنت نحلتك جذاذ عشرين وسقا من مالي أبو بكر بالعالية - وذلك اسم موضع - وقد كان وهب لها قدر عشرين وسقا من ماله في ذلك الموضع قال : وإنما هو مال الورثة ، وفيه دليل على أن حق الوارث يتعلق بمال المريض مرض الموت ، وهو معنى قوله عليه الصلاة والسلام : وما سوى ذلك فهو مال الوارث ، أو قال ذلك باعتبار أن مآله إلى ذلك ، كقوله تعالى : { إنك ميت وإنهم ميتون } .
وإنما هما أخواك وأختاك ، وإنما ذكر ذلك لتطييب قلبها ، أنه كان لا يسلم لك فلا يبعد عنك فأشكل على عائشة رضي الله عنها قوله : وأختاك ; لأنها ما عرفت لها إلا أختا واحدة ، وهي أم عبد الله . فقال رضي الله عنه : أنه ألقي في نفسي أن في بطن أبو بكر بنت خارجة جارية - يعني امرأته ، وكانت حاملا - وفيه دليل أن الحمل من جملة الورثة ، وأنه لا بأس للإنسان أن يتكلم بمثل هذا بطريق الفراسة ; فإن أم حبيب [ ص: 51 ] رضي الله عنه قال ذلك بفراسته ، ولم يكن ذلك منه رجما بالغيب ، فإن ما في الرحم لا يعلم حقيقته إلا الله - تعالى - كما قال الله - تعالى - { أبا بكر : ويعلم ما في الأرحام } . ولهذا قيل : أفرس الناس رضي الله عنه ; حيث تفرس في حبل امرأته : أنها جارية ، فكان كما تفرس ، وتفرس في أبو بكر رضي الله عنه حين استخلفه بعده . عمر