والمقصود من هذا الكتاب بيان الحلال الذي هو بيع شرعا والحرام الذي هو ربا ولهذا قيل ألا تصنف في الزهد شيئا قال قد صنفت كتاب البيوع ومراده بينت فيه ما يحل ويحرم وليس الزهد إلا الاجتناب عن الحرام والرغبة في الحلال ولهذا بدأ الكتاب بحديث رواه عن لمحمد عن أبي حنيفة عطية العوفي عن رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال { أبي سعيد الخدري : الذهب بالذهب مثلا بمثل يدا بيد ، والفضل ربا . والفضة بالفضة مثلا بمثل يدا بيد ، والفضل ربا . والحنطة بالحنطة مثلا بمثل يدا بيد ، والفضل ربا . والملح بالملح مثلا بمثل يدا بيد ، والفضل ربا . والشعير بالشعير مثلا بمثل يدا بيد ، والفضل ربا . والتمر بالتمر مثلا بمثل يدا بيد ، والفضل ربا . } وهذا حديث مشهور تلقته العلماء رحمهم الله تعالى بالقبول والعمل به . ولشهرته بدأ ببعضه كتاب البيوع ، وببعضه كتاب الإجارات ، وببعضه كتاب الصرف . ومثله حجة في الأحكام تجوز به الزيادة على الكتاب عندنا . ودار هذا الحديث على أربعة من الصحابة رضوان الله عليهم أجمعين : محمد عمر بن الخطاب وعبادة بن الصامت وأبي سعيد الخدري رضي الله عنهم مع اختلاف ألفاظهم ثم الحديث يشتمل على تفسير وحكم ومعنى يتعلق به الحكم في الفرع . ومعاوية بن أبي سفيان ،
أما تفسير قوله صلى الله عليه وسلم : الذهب بالذهب أي : أو بيعوا الذهب بالذهب ; لأن الباء تصحب الإعواض والإبدال فإنه للإلصاق . فهو دليل فعل مضمر كقولنا : بسم الله وقوله : مثل بمثل روي بالرفع والنصب . فمعنى الرواية بالرفع : بيع الذهب بالذهب مثل بمثل . ومعنى الرواية بالنصب : بيعوا الذهب بالذهب مثلا بمثل والمراد به المماثلة في القدر دون الصفة وإن كان مطلق اسم المماثلة يتناولهما ولكنه ذكر هذا الحديث في أول كتاب الصرف وذكر مكان قوله : مثلا بمثل : وزنا بوزن ، فبذلك اللفظ يتبين أن المراد من هذا اللفظ المماثلة في الوزن ، وبهذا اللفظ يتبين أن المراد : قوله وزنا بوزن المماثلة قدرا لا صفة . وكلام رسول الله صلى الله عليه وسلم يفسر بعضه [ ص: 111 ] بعضا وفي حديث بيع الذهب بالذهب رضي الله عنه قال : تبره وعينه سواء فهذا تنصيص على أن المراد المماثلة في الوزن دون الصفة ; لأن التبر لا يساوي العين في الصفة وإنما يساويه من حيث المقدار . وقوله : يدا بيد يجوز أن يكون المراد به : عينا بعين ; لأن التعيين يكون بالإشارة باليد . ويجوز أن يكون المراد قبضا بقبض ; لأن القبض يكون باليد . وزعم بعض أصحابنا رحمهم الله أن المراد به : القبض هنا ; لبيانه في حديث عبادة بن الصامت رضي الله تعالى عنه فإنه قال في الصرف : من يدك إلى يده ، وإن استنظرك إلى خلف السارية فلا تنتظره ، وإن وثب من السطح ، فثب معه ، ولكن الأصح أن المراد التعيين ; لأنه لو كان المراد به القبض لقال : من يد إلى يد ; لأنه يقبض من يد غيره ; فعرفنا أن المراد : التعيين . إلا أن التعيين في النقود لا يتم بالقبض لأنها لا تتعين في العقود بالإشارة فكان اشتراط القبض لتحقيق التعيين المنصوص عليه . وإليه أشار في حديث عمر رضي الله تعالى عنه بقوله ها وها أي : هذا بهذا . عمر
وقوله : والفضل ربا ، يحتمل الفضل في القدر ، ويحتمل الفضل في الحال ، بأن يكون أحدهما نقدا والآخر نسيئة . وكل واحد منهما مراد باللفظ وقوله : ربا أي حرام ، أي : فضل خال عن العوض والمقابلة إما متيقنا به عند فضل القدر أو موهوم الوجود عادة لتفاوت بين النقدين والنسبة في المالية . وكذلك تفسير قوله الفضة بالفضة . فأما قوله : الحنطة بالحنطة مثل بمثل يحتمل المماثلة في الكيل ويحتمل المماثلة في الصفة ، ولكنه في كتاب الصرف ذكر مكان قوله مثلا بمثل كيلا بكيل فتبين به أن المراد المماثلة من حيث القدر وفي حديث قال جيدها ورديها سواء . فهو بيان أن المراد المماثلة في القدر وقوله يدا بيد معناه عندنا : عين بعين . ولهذا لا يشترط عبادة بن الصامت رضي الله تعالى عنه ; لأن التعيين فيها يتم بالإشارة وقوله : والفضل ربا يحتمل الفضل في القدر ويحتمل الفضل في الحال وكل واحد منهما مراد . وقد فسر ذلك في حديث التقابض في بيع الحنطة بالحنطة رضي الله تعالى عنه فقال : من زاد أو ازداد فقد أربى . وكذلك الشعير والتمر والملح . فأما الحكم ففي الحديث حكمان : عبادة بن الصامت وهو متفق عليه ، وحرمة التفاضل ، وهو قول الجمهور من الصحابة رضي الله عنهم إلا حرمة النساء في هذه الأموال عند المبايعة بجنسها روى عن البتي أنه كان يجوز التفاضل في هذه الأموال . ابن عباس
ولا معتبر بهذا القول ; فإن الصحابة رضي الله عنهم لم يسوغوا له هذا الاجتهاد على ما روي أن رضي الله تعالى عنه [ ص: 112 ] مشى إليه فقال : يا أبا سعيد الخدري : إلى متى تؤكل الناس الربا أصحبت رسول الله صلى الله عليه وسلم ما لم يصحب ؟ أسمعت منه ما لم يسمع ؟ فقال : لا ، ولكن حدثني ابن عباس رضي الله تعالى عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال { أسامة بن زيد } فقال : والله لا أواني وإياك ظل بيت ما دمت على هذا القول وقال : لا ربا إلا في النسيئة . رضي الله تعالى عنه : ما خرج جابر بن زيد من الدنيا حتى رجع عن قوله في الصرف والمتعة . فإن لم يثبت رجوعه ، فإجماع التابعين رحمهم الله بعده يرفع قوله . فهذا معنى قولنا : لا يعتد بهذا القول . وتأويل حديث ابن عباس رضي الله تعالى عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم { أسامة بن زيد فقال النبي صلى الله عليه وسلم : لا ربا إلا في النسيئة . مبادلة الحنطة بالشعير والذهب بالفضة } فهذا بناء على ما تقدم من السؤال فكأن الراوي سمع قول رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ولم يسمع ما تقدم من السؤال أو لم يشتغل بنقله . وأما المعنى فنقول اتفق فقهاء الأمصار رحمهم الله على أن سئل عن وإن فيها معنى يتعدى الحكم بذلك المعنى إلى غيرها من الأموال ، إلا حكم الربا غير مقصود على الأشياء الستة ، من المتأخرين داود من المتقدمين . فإن وعثمان البتي يقول : حكم الربا مقصور على هذه الأشياء الستة ; لأنه يجوز قياس غير المنصوص على المنصوص لإثبات الحكم ، وعند فقهاء الأمصار رحمهم الله : القياس حجة لتعدية الحكم الثابت بالنص داود يقول : بأن القياس حجة ولكن من أصله أنه لا يجوز والبتي إلا أن يقوم دليل في كل أصل على جواز القياس عليه ، ولم يقم ذلك الدليل هنا . القياس على الأصول
وعند فقهاء الأمصار رحمهم الله يجوز القياس على الأصول إلا أن يقوم دليل يمنع القياس على كل أصل ، ثم قد قام الدليل هنا على جواز القياس ، فإن مالك بن أنس وإسحاق بن إبراهيم الحنظلي رحمهما الله رويا هذا الحديث وذكر في آخره وكذلك كل ما يكال ويوزن فهو تنصيص على تعدية الحكم إلى سائر الأموال . وفي حديث أن النبي صلى الله عليه وسلم قال { ابن عمر رضي الله عنهما : لا تبيعوا الدرهم بالدرهمين ، ولا الصاع بالصاعين ; فإني أخشى عليكم الربا } . أي الربا ولم يرد به عين الصاع ، وإنما أراد به : ما يدخل تحت الصاع كما يقال خذ هذا الصاع أي : ما فيه ووهبت لفلان صاعا أي : من الطعام . وفي حديث { خيبر رضي الله تعالى عنه أنه أهدى إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم تمرا جنيا فقال صلى الله عليه وسلم : أوكل تمر خيبر هكذا ؟ فقال : لا ، ولكني دفعت صاعين من عجوة بصاع من هذا . فقال صلى الله عليه وسلم : أربيت . هلا بعت تمرك [ ص: 113 ] بسلعة ، ثم اشتريت بسلعتك تمرا ، ثم قال صلى الله عليه وسلم : وكذلك الميزان } . يعني : ما يوزن بالميزان . فتبين بهذه الآثار قيام الدليل على تعدية الحكم من الأشياء الستة لا غيرها ، وهذا بخلاف قوله صلى الله عليه وسلم { عامل } . ثم لم يجوز قياس ما سوى هذه الخمس على الخمس لأن التعليل لتعدية حكم النص إلى غير المنصوص ، لإبطال المنصوص . وقد نص في ذلك الحديث على أن الفواسق خمس ، فلو اشتغلنا بالتعليل كان أكثر من خمس ، فيكون إبطالا للمنصوص . : خمس فواسق يقتلن في الحل والحرم
وهنا ليس في الحديث أن مال الربا : ستة أشياء ، ولكن ذكر حكم الربا في الأشياء الستة . فالاشتغال بالتعليل لا يؤدي إلى إبطال المنصوص عليه . فلهذا جوزنا ذلك . وفائدة تخصيص هذه الأشياء بالذكر أن عامة المعاملات يومئذ كان بها على ما جاء في الحديث : كنا نتبايع في الأسواق بالأوساق ، والمراد به ما يدخل تحت الوسق مما يكثر الحاجة إليه وهي الأشياء المذكورة . ثم اختلفوا بعد ذلك في المعنى الذي يتعدى الحكم به إلى سائر الأموال . قال علماؤنا رحمهم الله تعالى : الجنسية والقدر . عرفت الجنسية بقوله صلى الله عليه وسلم { } ، والقدر بقوله صلى الله عليه وسلم : مثلا بمثل ، ويعني بالقدر الكيل فيما يكال ، والوزن فيما يوزن . وظن بعض أصحابنا رحمهم الله تعالى أن العلة مع الجنس الفضل على القدر ، وذلك محكي عن : الذهب بالذهب والحنطة بالحنطة ولكنه ليس بقوي ; فإنه لا يجوز إسلام قفيز حنطة في قفيز شعير ، ولا تثبت حرمة النساء إلا بوجود أحد الوصفين ، ولو كانت العلة هي الفضل لما حرم النساء هنا لانعدام الفضل فعرفنا أن العلة نفس القدر مع الجنس . وقال الكرخي : العلة الاقتياب والادخار مع الجنس . وقال مالك : تقارن المنفعة مع الجنس . وقال ابن سيرين في القديم : العلة في الأشياء الأربعة الكيل والطعم . وقال في : الجديد العلة هي الطعم وفي الذهب والفضة العلة الثمنية ، وهو أنهما جوهر الأثمان . الشافعي
والجنسية عنده شرط لا تعمل العلة إلا عند وجودها ; ولهذا لا يجعل للجنسية أثرا في تحريم النساء ، فحاصل المسألة أن لا يجوز عندنا إلا بعد وجود المخلص وهو المماثلة في القدر ، وأن يكون عينا بعين وعنده بيع كل مطعوم بجنسه ، وكل ثمن بجنسه حرام إلا عند وجود المخلص وهو : المساواة ، في المعيار الشرعي ، وأن يكون قبضا بقبض في المجلس . والحاصل أن حرمة البيع في هذه الأموال أصل عنده ، والجواز يعارض المساواة في المعيار مع القبض في المجلس وعندنا إباحة البيع في هذه الأموال أصل كما في سائر الأموال ، والفساد يعارض [ ص: 114 ] انعدام المماثلة بوجود الفضل الخالي عن العوض متيقنا به أو موهوما احتياطا ، والمقصود من التعليل عنده منع قياس غير المطعومات وغير الثمن على الثمن بناء على أصله أن التعليل صحيح لإثبات حكم الأصل والمنع من إلحاق غيره به ، وعندنا التعليل لتعدية حكم النص إلى غير المنصوص ، فالحكم في المنصوص ثابت بالنص لا بالعلة ; لأن الثابت بالنص مقطوع به ، والمنع بظاهر النص ثابت . فالاشتغال بالتعليل يكون لغوا عندنا . : بيع كل مكيل أو موزون بجنسه
وبيان هذا الأصل : إذا عنده لا يجوز ; لأن الحرمة هي الأصل في بيعها والحل يثبت بعارض بوجود المساواة في المعيار الشرعي ولم يوجد فلا يجوز ، وعندنا يجوز ; لانعدام الفضل على القدر - وهو المعيار الشرعي - والحرام هو الفضل على القدر ولم يوجد : فيجوز ; لأن الجواز أصل في البيع ، والحرمة تثبت بعارض انعدام المماثلة في القدر - وهو المعيار الشرعي - وهذا لا معيار له ; فيجوز العقد ولو باع تفاحة بتفاحتين عندنا : لا يجوز ; لوجود الجنسية والقدر . وعنده : يجوز ; لعدم الطعم . ولو باع قفيز جبس بقفيزي جص ، عنده : لا يجوز ; لكونه مطعوما ، وقد عدمت المساواة في المعيار الشرعي ، وعندنا : يجوز لعدم الكيل مع الجنس ولو باع حفنة بحفنتين ، عندنا : لا يجوز لوجود الجنس مع القدر ، وعنده : لا يجوز أيضا لوجود الطعم مع الجنس . ولو باع منا سكر بمنوي سكر ، ، عندنا : لا يجوز لوجود الجنسية والقدر ، وعنده يجوز لعدم الطعم . وحجة باع منا قطن بمنوي قطن لإثبات أصله ما روي : أن النبي صلى الله عليه وسلم { الشافعي } . نهى عن بيع الطعام بالطعام إلا سواء بسواء
وفي رواية قال { } ففي هذا بداية ببيان النهي والمنع لو اقتصر على قوله : لا تبيعوا لم يجز بيع أحدهما بالآخر بحال . فبه تبين أن حرمة البيع أصل ، وأن الجواز يعارض المساواة . بين ذلك بقوله : إلا سواء بسواء ، والمراد المساواة في القدر . ثم اسم الطعام يتناول القليل والكثير ، وما يكال من الأطعمة وما لا يكال فثبت حرمة البيع في جميع ذلك ، وتبين بهذا أن التعليل بالقدر يوجب تخصيص الأصل المعلل ، وذلك باطل . وكذلك في الحديث المشهور قال : { : لا تبيعوا البر بالبر إلا سواء بسواء } . فهذا اللفظ يتناول القليل والكثير . وقوله صلى الله عليه وسلم : { الحنطة بالحنطة } نصب على الحال أي : إنما يكون بيعا في حالة ما يكون مثلا بمثل ، والمراد المماثلة في القدر فتبين به أيضا أن الحرمة أصل فيها ، وأن الحل يعارض المماثلة في القدر وليس المراد بالربا الزيادة ; فقد قال مثلا بمثل ، : إن آية الربا آخر ما نزل ، وقبض رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل أن يبين لنا شأنها ، وإن من الربا أبوابا لا يكدن يخفين على أحد ، منها : السلم في السن . فتبين بهذا أنه علم أن الاسم غير [ ص: 115 ] عما عليه مقتضى اللغة ، وأنه ليس المراد من الربا الزيادة ; فإنه ليس في السلم في السن زيادة خالية عن العوض . وقد جعله من الربا الذي لا يكاد يخفى على أحد ولئن كان المراد الزيادة ، فإنما أراد فضلا قائما في الذات لأن المطعوم إذا قوبل بجنسه لا يتساويان في الطعم إلا نادرا ولا ينبني الحكم عن النادر فذلك الفضل القائم في الذات حرام وربا إلا أنه سقط اعتباره شرعا بالمساواة في القدر تيسيرا على الناس ، فتبين بهذا أن الحرمة أصل أيضا . عمر
وفي ذكر الطعام ما يدل على أن العلة هي الطعم ; لأن الطعام اسم مشتق منه معنى ، والحكم إذا علق باسم مشتق من معنى ، فالمعنى الذي اشتق منه الاسم هو العلة للحكم ، كما في قوله تعالى { : الزانية والزاني } وفي قوله تعالى { : السارق والسارقة } ومن حيث الاستدلال وهو أن الشرع شرط لجواز البيع في هذه الأموال شرطين : المساواة واليد باليد ; فعرفنا أن الموجب لهذين الشرطين معنى في المحل ينبئ عن زيادة شرطين - الولي والشهود - كان ذلك دليلا على أن الموجب للشرطين معنى في المحل ينبئ عن زيادة خطر ، وهو أن المستحق به ما في حكم النفوس . ثم هنا المعنى ينبئ عن الخطر في الذهب والفضة الثمنية ; لأنهما خلقا لذلك ، وبالثمنية حياة الأموال . والمعنى أن الذي ينبئ عن زيادة الخطر في الأشياء الأربعة الطعم ; لأن بالطعم حياة النفوس ، فعرفنا أن العلة الموجبة لهذين الشرطين الطعم والثمنية ; ولهذا جعلنا الجنسية شرطا لا علة لأن الحكم يدور مع الشرط وجودا وعدما كما يدور مع العلة ، والفرق بينهما بالتأثير ، فإذا لم يكن في الجنسية ما ينبئ عن زيادة الخطر ولا يثبت الحكم إلا عند وجوده جعلناه شرطا لا علة . وبهذا تبين فساد التعليل بالقدر ، فإنه لا ينبئ عن زيادة خطر في المحل ; لأن الجص شيء هين ، يكال فلا يتعلق به حياة نفس ولا مال ، إنما هو معد لتزين البناء . ولأن الشرع ذكر عند بيان حكم الربا جميع الأثمان ، وهي : الذهب والفضة ، وذكر من المطعومات أنفس كل نوع . فالحنطة أنفس مطعوم بني آدم ، والشعير أنفس علف الدواب ، والتمر أنفس الفواكه ، والملح أنفس التوابل ، فلما أراد المبالغة في بيان حكم الربا ولم يمكنه ذكر جميع المطعومات ، نص من كل نوع على أعلاه ; ليبين بذلك أن العلة هي الطعم .
فأما إذا جعل العلة القدر يتمحض ذكر هذه الأشياء تكرارا لأن صفة القدر لا تختلف في الأشياء الأربعة ، وحمل كلام صاحب الشرع على ما يفيد أولى . ولهذا قال : العلة : الاقتيات ، لأنه خص بالذكر كل مقتات مدخر وقال مالك : العلة : تقارب المنفعة لوجود ذلك في الأشياء المذكورة ، فإن الحنطة مع الشعير تتقارب في المنفعة [ ص: 116 ] فإذا ثبت أن العلة هي الطعم والثمنية ; امتنع قياس غير المطعوم على المطعومات ، وغير الأثمان على الأثمان ; لانعدام العلة فيها ، ولما جعل الشرع القدر معتبرا في الخلاص عن الربا ; لا يجوز اعتبار ذلك بعينه في الوقوع في الربا ; لاستحالة أن يتضمن الشيء حكمين متضادين ، بل القدر في المقدرات بمنزلة العدد في المعدودات ، والزروع في المزروعات . فكما لا يصلح جعل علة ذلك للربا فكذلك القدر . وحجتنا في المسألة ما روينا أن النبي صلى الله عليه وسلم قال بعد ذكر الأشياء الستة بصفة الكيل والوزن . فذلك دليل على أن العلة فيها الكيل والوزن . وإن لم تثبت هذه الزيادة فقوله : الحنطة بالحنطة ، معناه : بيع الحنطة بالحنطة . والبيع لا يجري باسم الحنطة ; فالاسم يتناول الحبة الواحدة ولا يبيعها أحد ، وإنما يعرف ماليتها ولو باعها لم يجز ; لأنها ليست بمال متقوم فعلم ضرورة أن المراد : الحنطة التي هي مال متقوم ، ولا يعلم ماليتها إلا بالكيل فصارت صفة الكيل ثابتة بمقتضى النص وكذلك قوله : الذهب بالذهب . فالاسم قائم بالذرة ولا يبيعها أحد ، وإنما تعرف ماليتها بالوزن كالشعيرة ونحو ذلك فصارت صفة الوزن ثابتة بمقتضى النص . فكأنه قال : الذهب الموزون بالذهب ، والحنطة المكيلة بالحنطة ، والصفة من اسم العلم يجري مجرى العلة للحكم كقوله صلى الله عليه وسلم { ابن سيرين } . : في خمس من الإبل السائمة شاة
وما ثبت بمقتضى النص فهو كالمنصوص . ألا ترى أنه لو قال : غصبت من فلان شيئا يلزمه أن يبين مالا متقوما ; لثبوت صفة المالية بمقتضى الغصب وكذلك قوله صلى الله عليه وسلم { } . ذكر الطعام عند ذكر البيع فلا يتناول إلا الحنطة ودقيقها ; كمن وكل وكيلا بأن يشتري له طعاما ، فاشترى فاكهة يصير مشتريا لنفسه وهذا لأن سوق الطعام الذي يباع فيه الحنطة ودقيقها وبائع الطعام من يبيع الحنطة ودقيقها . وهذا من أبواب الكتاب ليس من فقه الشريعة في شيء . : لا تبيعوا الطعام بالطعام