كتاب الشهادات
( قال الشيخ الإمام الأجل الزاهد شمس الأئمة وفخر الإسلام أبو بكر محمد بن أبي سهل السرخسي رحمه الله إملاء : اعلم بأن اشتقاق الشهادة من المشاهدة وهي المعاينة فمن حيث إن [ ص: 112 ] السبب المطلق للأداء المعاينة سمي الأداء شهادة وإليه أشار النبي صلى الله عليه وسلم في قوله للشاهد { إذا رأيت مثل هذه الشمس فاشهد وإلا فدع } وقيل هي مشتقة من معنى الحضور يقول الرجل شهدت مجلس فلان أي حضرت قال الله تعالى { وهم على ما يفعلون بالمؤمنين شهود } ومن حيث إنه يحضر مجلس القاضي للأداء يسمى شاهدا وتسمى أداء شهادة ، ثم القياس يأبى كون الشهادة حجة في الأحكام ) ; لأنه خبر محتمل للصدق والكذب والمحتمل لا يكون حجة ملزمة ، ولأن خبر الواحد لا يوجب العلم والقضاء ملزم فيستدعي سببا موجبا للعلم وهو المعاينة فالقضاء أولى . ولكنا تركنا ذلك بالنصوص التي فيها أمر للأحكام بالعمل بالشهادة من ذلك قول الله تعالى { واستشهدوا شهيدين من رجالكم } . وقال الله تعالى { اثنان ذوا عدل منكم } { } ، وفيه معنيان أحدهما حاجة الناس إلى ذلك ; لأن المنازعات والخصومات تكثر بين الناس وتتعذر إقامة الحجة الموجبة للعلم في كل خصومة والتكليف بحسب الوسع والثاني معنى إلزام الشهود حيث جعل الشرع شهادتهم حجة لإيجاب القضاء مع احتمال الكذب إذا ظهر رجحان جانب الصدق وإليه أشار النبي صلى الله عليه وسلم في قوله { . وقال صلى الله عليه وسلم البينة على المدعي أكرموا الشهود فإن الله تعالى يحيي الحقوق بهم } ولما خص الله تعالى هذه الأمة بالكرامات وصفهم بكونهم شهداء على الناس في القيامة قال الله تعالى { ، وكذلك جعلناكم أمة وسطا لتكونوا شهداء على الناس } ، وقد يجب كالقياس في الأحكام بغالب الرأي في موضع الاجتهاد . ثم القياس بعد هذا أن يكتفى بشهادة الواحد ; لأن رجحان جانب الصدق يظهر في خبر الواحد بصفة العدالة ; ولهذا كان خبر الواحد العدل موجبا للعمل وكما لا يثبت علم اليقين بخبر الواحد لا يثبت بخبر العدد ما لم يبلغوا حد التواتر فلا معنى لاشتراط العدد ، ولكن تركنا ذلك بالنصوص ففيها بيان العمل بما لا يوجب علم اليقين المطلقة كما لو تلونا من الآيات قال الله تعالى { العدد في الشهادات وأشهدوا ذوي عدل منكم } . وقال الله تعالى { فاستشهدوا عليهن أربعة منكم } . وقال صلى الله عليه وسلم { } فإن ( قيل ) هذه النصوص بيان جواز العمل بشهادة العدد ، وليس فيها بيان نفي ذلك بدون العدد ( قلنا ) لا كذلك فالمقادير في الشرع إما لمنع الزيادة والنقصان دون الزيادة كأقل مدة الحيض والسفر ، أو لمنع الزيادة دون النقصان كأكثر مدة الحيض وهنا التقدير ليس لمنع الزيادة فلو لم يفد منع النقصان لم يبق لهذا التقدير فائدة وحاشا أن يكون التقدير المنصوص خاليا عن الفائدة ، ثم فيه معنى طمأنينة القلب ، وذلك عند إخبار العدد أظهر [ ص: 113 ] منه في خبر الواحد . وفي الشهادة محض الإلزام وخبر الواحد لا يكفي لذلك بخلاف الديانات فإن في الديانات التزام السامع باعتقاده والمخبر يلزم نفسه ، ثم يتعدى إلى غيره فلم يكن ذلك إلزاما محضا ; فلهذا لا يشترط فيه العدد بخلاف الشهادة ، وفيه معنى التوكيد فالتزوير والتلبيس في الخصومات يكثر فيشترط العدد في الشهادات صيانة للحقوق المعصومة ، ثم يشترط فيها ما يشترط في الخبر من العقل والضبط والعدالة ; لأن البيان لا يحصل إلا باعتبار عقل المتكلم والشهادة بينة . ومعرفة عقل المرء باختياره فيما يأتي . ويذر وحسن نظره في عاقبة أمره والمطلق من الشيء ينصرف إلى الكامل منه إلا أنه لا حد يرجع إليه في كمال معرفة العقل سوى ما جعله الشرع حدا وهو البلوغ والعقل تيسيرا للأمر على الناس ; ولهذا لم يكن الصبي والمعتوه أهلا للشهادة ومعنى الضبط حسن السماع والفهم والحفظ إلى وقت الأداء وتعتبر صفة الكمال فيه أيضا لما في النقصان من شبهة العدم ; ولهذا لم يجعل من اشتدت غفلته ، أو مجازفته فيما يقول ويسمع من أهل الشهادة إذا كان ذلك ظاهرا عند الناس وأما معرفة العدالة فلرجحان جانب الصدق . فالحجة الخبر الذي هو صدق ولا طريق لمعرفة الصدق في خبر من هو غير معصوم عن الكذب إلا العدالة . والعدالة هي الاستقامة ، وليس لكمالها نهاية فإنما يعتبر منه القدر الممكن وهو انزجاره عما يعتقده حراما في دينه ، ولكن هذا شرط العمل بالشهادة لا شرط الأهلية للشهادة وباعتبار هذا المعنى للمدعي ليس لك إلا شاهد شاهداك أو يمينه ; لأنه محكوم بكذبه شرعا فلا يظهر رجحان جانب الصدق في خبره بعد الحكم بكذبه شرعا ولم يشترط لا يجعل المحدود في القذف أهلا لأداء الشهادة ; لأن رجحان جانب الصدق يظهر في خبره مع كفره إذا كان منزجرا عما يعتقده حراما في دينه غير أن خبره لا يقبل في أمر الدين ; لأنه متهم في ذلك فإنه يعتقد السعي في هدمه ; ولهذا لا يجعل من أهل الشهادة في حق المسلمين ; لأنه يعتقد عداوة المسلمين وينعدم فيما بينهم فيكون بعضهم أهلا للشهادة في حق البعض وسوى هذا . الإسلام في الأهلية للشهادة