ثم أحدها المزارعة على قول من يجيزها على أربعة أوجه ، فهذا جائز ; لأن صاحب البذر مستأجر للأرض بجزء معلوم من الخارج ، ولو استأجرها بأجرة معلومة من الدراهم والدنانير صح ، فكذا إذا أستأجرها بجزء مسمى من الخارج شائع . والوجه الثاني : أن تكون الأرض من أحدهما والبذر والعمل والبقر وآلات العمل كله من الآخر فهذا جائز أيضا ; لأن صاحب الأرض استأجر العامل [ ص: 20 ] ليعمل بآلاته له ، وذلك صحيح كما لو استأجر خياطا ليخيط بإبرة صاحب الثوب ، أو طيانا ليجعل الطين بآلة صاحب العمل . والوجه الثالث : أن تكون الأرض والبذر والبقر والآلات من أحدهما والعمل من الآخر وهذا جائز أيضا ; لأن صاحب الأرض استأجره ليعمل بآلات نفسه وهذا جائز ، كما إذا استأجر خياطا ليخيط بإبرة نفسه ، أو قصارا ليقصر الثوب بآلات نفسه ، أو صباغا ليصبغ الثوب بصبغ له ، فكذلك هنا وهذا ; لأن منفعة البقر والآلات من جنس منفعة العامل ; لأن إقامة العمل يحصل بالكل ، فيجعل ذلك نابعا لعمل العامل في جواز استحقاقه بعقد المزارعة والرابع : أن تكون الأرض والبذر من أحدهما ، والبقر والآلات من العامل وهذا فاسد في ظاهر الرواية ; لأن صاحب البذر مستأجر للأرض والبقر ، واستئجار البقر بجزء من الخارج مقصودا لا يجوز وهذا لأن منفعة البقر ليست من جنس منفعة الأرض فإن منفعة الأرض قوة في طبعها يحصل به الخارج ، ومنفعة البقر يقام به العمل ، فلانعدام المجانسة لا يمكن جعل البقر تبعا لمنفعة الأرض ، ولا يجوز استحقاق منفعة البقر مقصودا بالمزارعة كما لو كان البقر مشروطا على أحدهما فقط . والأصل فيه حديث : أن يكون البذر من قبل العامل والبقر من قبل رب الأرض في اشتراك أربعة نفر كما بينا ، وروى أصحاب الإملاء عن مجاهد - رحمه الله تعالى - أن هذا النوع جائز أيضا للعرف ; ولأنه لما جاز أن يكون البقر مع البذر مشروطا على رب الأرض في المزارعة فكذلك يجوز أن يكون البقر بدون الأرض مشروطا عليه ، كما في جانب العامل لما جاز أن يكون البذر مع البقر مشروطا على العامل جاز أن يكون البقر مشروطا عليه بدون البذر ، ثم في الوجوه الثلاثة إن حصل الخارج كان بينهما على الشرط ، وإن لم يحصل الخارج فلا شيء لواحد منهما على صاحبه ; لأن العقد بينهما شركة في الخارج ، ولئن كان إجارة فالأجرة يتعين محلها بتعيينها وهو الخارج ومع انعدام المحل لا يثبت الاستحقاق ، وهكذا في الوجه الرابع على رواية أبي يوسف . فأما في ظاهر الرواية فالخارج كله لصاحب البذر ; لأنه نماء بذره فإنه يستحقه الغير عليه بالشرط بحكم عقد صحيح ولم يوجد وعليه لصاحب الأرض أجرة مثل الأرض والبقر ; لأنه مستوفيا منفعة أرضه وبقره بحكم عقد فاسد ، ومن أصحابنا - رحمهم الله - من يقول تأويل قوله عليه أجر المثل لأرضه وبقره أنه يغرم له أجر مثل الأرض مكروبة ، فأما البقر فلا يجوز أن يستحقه بعقد المزارعة بحال فلا ينعقد العقد عليه صحيحا ولا فاسدا ، ووجوب أجر المثل لا يكون بدون انعقاد العقد فالمانع لا يتقوم إلا بالعقد ، والأصح أن عقد المزارعة من جنس الإجارة ، ومنافع البقر يجوز استحقاقها بعقد الإجارة فينعقد عليها [ ص: 21 ] عقد المزارعة بصفة الفساد ، ويجب أجر مثلها كما يجب أجر مثل الأرض ، وزعم بعض أصحابنا أن فساد العقد هنا على أصل أبي يوسف ; لأنه فسد العقد في حصة البقر ، ومن أصله أن العقد إذا فسد بعضه فسد كله ، فأما عندهما فينبغي أن يجوز العقد في حصة الأرض وإن كان يفسد في حصة البقر ، والأصح أنه قولهم جميعا ; لأن حصة البقر لم يثبت فيه الاستحقاق أصلا ، وحصة الأرض من المشروط مجهول فيفسد العقد فيه للجهالة ، وقد بينا نظيره في الصلح إذا صولح أحد الورثة من العين والدين على شيء في التركة ، وسواء أخرجت الأرض شيئا أو لم تخرج فأجر المثل واجب لصاحب الأرض والبقر ; لأن محل وجوب الأجر هنا الذمة دون الخارج ، وإنما يجب استيفاء المنفعة ، وقد تحقق ذلك سواء أحصل الخارج أم لم يحصل ، وقيل : ينبغي في قياس قول أبي حنيفة - رحمه الله - أن لا يزاد بأجر مثل أرضه وبقره على نصف الخارج الذي شرط له ، وفي قول أبي يوسف يجب أجر المثل بالغا ما بلغ على قياس الشركة في الاحتطاب ، وقد بيناه في كتاب الشركة فإن محمد جازت المزارعة وللعامل ثلث الخارج والباقي كله لرب الأرض ; لأن اشتراط العبد على رب الأرض والبذر كاشتراط البقر عليه في هذا الفصل ، وأنه صحيح فكذلك اشتراط العبد عليه ، ثم المشروط للعبد إن لم يكن عليه دين فهو مشروط لصاحب الأرض ، وإن كان عليه دين ففي قولهما كذلك ، وفي قياس قول كان البذر من عند صاحب الأرض واشترط أن يعمل عنده مع العامل ، والخارج بينهم أثلاث : المولى من كسب عبده المديون كالأجنبي ، فكأنه دفع الأرض والبذر مزارعة إلى عاملين ، على أن لكل واحد منهما ثلث الخارج ، حتى إن في هذا الفصل لو لم يشترط العمل على العبد ففي قولهما : المشروط للعبد يكون لرب الأرض فيجوز العقد ، وفي قياس قول أبي حنيفة المشروط للعبد كالمسكوت عنه ; لأنه لا يستحق شيئا من غير بذر ولا عمل ، والمسكوت عنه يكون لصاحب البذر ، وإن كان البذر من العامل والمسألة بحالها فالعقد فاسد ; لأن اشتراط العمل على رب الأرض كاشتراط البقر عليه ، وذلك مفسد للعقد ، وإن كان شرط ثلث الخارج لعبد العامل ، فإن كان البذر من قبل العامل ولا دين على العبد فالعقد صحيح ولرب الأرض ثلث الخارج ، والباقي للعامل ; لأن اشتراط العبد عليه كاشتراط البقر ، والمشروط لعبده إن لم يكن عليه دين كالمشروط له ، وإن شرط لعبده ثلث الخارج ولم يشرط على عبده عملا فإن كان على العبد دين ففي قول أبي حنيفة أبي يوسف هذا جائز والمشروط للعبد يكون للعامل ; لأنه يملك كسب عبده المديون ، وعند ومحمد كذلك الجواب ; لأن [ ص: 22 ] المشروط للعبد كالمسكوت عنه إذا لم يشرط عليه العمل فهو للعامل ; لأنه صاحب البذر بخلاف ما إذا شرط عليه العمل ، والعبد مديون ; لأن العبد منه كأجنبي فكأنه شرط عمل أجنبي آخر مع صاحب البذر ، على أن يكون له ثلث الخارج وذلك مفسد للعقد في حصة العامل الآخر على ما بينه في آخر الكتاب ، وإن كان البذر من عند صاحب الأرض واشترط أن يعمل هو مع العامل لم يجز ; لأن هذا الشرط يعدم التخلية بين العامل وبين الأرض والبذر ، وقد بينا نظيره في المضاربة أنه إذا شرط عمل رب المال مع المضارب يفسد العقد لانعدام التخلية أبي حنيفة والحاكم - رحمه الله - في المختصر ذكر في جملة ما يكون فاسدا من المزارعة على قولهما يجمع بين الرجل وبين الأرض ، ومراده أن يكون البقر والبذر مشروطا على أحدهما ، والعمل والأرض مشروطا على الآخر وهذا فاسد ، إلا في رواية عن يجوز هذا بالقياس على المضاربة ; لأن البذر في المزارعة بمنزلة رأس المال في المضاربة ، ويجوز في المضاربة دفع رأس المال إلى العامل ، فكذلك أبي يوسف . فأما في ظاهر الرواية فصاحب البذر مستأجر للأرض ولا بد من التخلية بين المستأجر وبين ما استأجر في عقد الإجارة وتنعدم التخلية هنا ; لأن الأرض تكون في يد العامل فلهذا فسد العقد ، ثم في كل موضع صار الريع لصاحب البذر من قبل فساد المزارعة ، والأرض له لم يتصدق بشيء ; لأنه لا يتمكن في الخارج خبث فإن الخارج نماء البذر بقوة الأرض ، والأرض ملكه والبذر ملكه وإذا لم تكن الأرض له تصدق بالفضل ; لأنه تمكن خبث في الخارج فإن الخارج إنما يحصل بقوة الأرض ، وبهذا جعل بعض مشايخنا الخارج لصاحب الأرض عند فساد العقد ، ومنفعة الأرض إنما سلمت له بالعقد الفاسد لا بملكه رقبة الأرض فيتصدق لذلك بالفضل ، ونعني بالفضل أنه يرفع من الخارج مقدار بذره وما غرم فيه من المؤن والأجر ، ويتصدق بالفضل وإن كان هو العامل لا يرفع منه أجر مثله ; لأن منافعه لا تتقوم بدون العقد ، ولا عقد على منافعه إذا كان البذر من قبله ، فلهذا لا يرفع أجر مثل نفسه من الخارج ، ولكن يتصدق بالفضل ، وما يشترط للبقر من الخارج فهو كالمشروط لصاحب البقر ; لأن البقر ليس من أهل الاستحقاق لنفسه فالمشروط له كالمشروط لصاحبه ، وما يشترط للمساكين للخارج فهو لصاحب البذر ; لأن المساكين ليس من جهتهم أرض ولا عمل ولا بذر ، واستحقاق الخارج في المزارعة لا يكون إلا بأحد هذه الأشياء فكان المشروط لهم كالمسكوت عنه ، فيكون لصاحب البذر ; لأن استحقاقه بملك [ ص: 23 ] البذر لا يشترط ، والأجرة تستحق عليه بالشرط فلا يستحق إلا مقدار ما شرط له ، وإذا لم يسم لصاحب البذر وسمي ما للآخر جاز ; لأن من لا بذر من قبله إنما يستحق بالشرط فأما صاحب البذر فيستحق بملكه البذر ، فلا ينعدم استحقاقه بترك البيان في نصيبه ، وإن سمى نصيب صاحب البذر ولم يسم ما للآخر ففي القياس هذا لا يجوز ; لأنهم ذكروا ما لا حاجة بهم إلى ذكره وتركوا ما يحتاج إليه لصحة العقد ومن لا بذر من قبله يستحق بالشرط فبدون الشرط لا يستحق شيئا ، ولكنه استحسن فقال الخارج مشترك بينهما ، والتنصيص على نصيب أحدهما يكون بيان أن الباقي للآخر قال الله سبحانه وتعالى { يجوز في المزارعة دفع البذر مزارعة إلى صاحب الأرض والعمل وورثه أبواه فلأمه الثلث } معناه وللأب ما بقي فكأنه قال صاحب البذر : على أن لي ثلثي الخارج ولك الثلث