ولو فلا سبيل له على الزرع حتى يوفي صاحب الأرض جميع نفقته أولا ; لقول القاضي : لا نأمره بالإنفاق حتى يقيم البينة على ما يقول ; لأنه يدعي ثبوت ولاية النظر للقاضي في الأمر بالإنفاق على هذا الزرع ، ولا يعرف القاضي بينته فيكلفه إقامة البينة عليه ويقبل هذه البينة منه ; ليكشف الحال بغير خصم أو يكون القاضي فيه خصمه ، كما يكون في الإنفاق على الوديعة واللقطة ، فإذا أقام البينة كان أمر القاضي إياه بالإنفاق كأمر المودع ، ولو كان حاضرا فيكون له أن يرجع عليه بجميع ما أنفق بخلاف ما سبق فرجوعه هناك بقدر حصته من الزرع ; لأن العمل والإنفاق هناك غير مستحق على العامل ، وأمر القاضي إنما ينفذ على الغائب باعتبار النظر له ، وذلك في مقدار حصته من الزرع لا في إيجاب الزيادة دينا في ذمته ، وهنا العمل مستحق على المزارع ، لو كان حاضرا أجبره القاضي عليه فيعتبر أمره في إثبات حق الرجوع عليه بجميع النفقة ، ولا سبيل له على الزرع حتى يوفيه نفقته ; لأن نصيبه من الزرع إنما هو بالإنفاق ، فيكون محبوسا بما أنفق ، كالآبق يحبس بالجعل ; ولأنه استفاد نصيبه من جهة رب الأرض بهذه النفقة ، فيكون بمنزلة المبيع محبوسا عنه بالثمن ، فإن اختلفا في النفقة فالقول قول المزارع مع يمينه ، كما لو كان هو الذي أمره بالإنفاق ، وهذا ; لأن رب الأرض يدعي عليه زيادة فيما استوجبه دينا في ذمته ، وهو منكر لذلك ، وإنما يحلف على العلم ; لأنه استحلاف على فعل باشره غيره ، وهو الإنفاق الذي كان من صاحب الأرض ، ولو لم يهرب ، ولكن انقضت مدة المزارعة قبل أن يستحصد الزرع ، والمزارع غائب ، فإن القاضي يقول لصاحب الأرض أنفق عليه إن شئت ، فإذا استحصد لم يصل العامل إلى الزرع حتى يعطيك نفقتك فإن أبى أن يعطيك نفقتك أبيع حصته عليه من الزرع ، وأعطيك [ ص: 49 ] من ثمنه حصته من النفقة ، فإن لم تف حصته بذلك فلا شيء لك عليه ، وهذا ; لأن بعد انقضاء مدة المزارعة المزارع لا يجبر على العمل لو كان حاضرا فأمر القاضي عليه لا ينفذ إلا بطريق النظر له ، وذلك في أن يقصر الرجوع على مقدار حصته من الزرع ، وفي الزيادة على ذلك يلحقه خسران ، وهو لم يرض به ، وبين ذلك لصاحب الأرض ; ليكون إقدامه على الإنفاق على بصيرة ، ولكن لا يكون القاضي غارا يحسب حصته من الزرع بحصته من النفقة ; لأنه حيي بتلك النفقة ، فإن أبى أن يعطي النفقة باع القاضي حصته ، قيل : هذا بناء على قولهما ، فأما عند دفع إليه أرضا وبذرا على أن يزرعها سنته هذه على أن الخارج بينهما نصفان فزرعها ولم يستحصد حتى هرب العامل فأنفق صاحب الأرض بأمر القاضي على الزرع حتى استحصد ثم قدم المزارع : فلا يبيع القاضي حصته من ذلك ; لأنه لا يرى الحجر على الحر ، وبيع ماله عليه في دينه ، وقيل : بل هو قولهم جميعا ; لأن الدين الذي لزمه تعلق بنصيبه من الزرع على معنى أن سلامته له متعلقة بوصول النفقة إلى صاحب الأرض ، فيباع فيه ، كما يباع المرهون والتركة في الدين ، ولا يتصدق واحد منهما بشيء في هذه المسائل من الزرع الذي صار له ; لأنه لا يتمكن خبث ، ولا فساد في السبب الذي به سلم لكل واحد منهما نصيبه من الزرع ، ولو أبي حنيفة فلهم ذلك ; لأنهم قائمون مقام المورث في ملك نصيبه من الزرع ، فيقومون مقامه في العمل إذا اختاروا ذلك ، وهذا ; لأن مقصود رب الأرض إقامة العمل لا عين العامل ، ألا ترى أنه كان للعامل أن يستعين بهم أو بغيرهم في حياته ، ليقيموا العمل ، فكذلك بعد وفاته إذا اختاروا العمل ، ولا أجر لهم في العمل ; لأنهم يعملون فيما لهم فيه شركة على سبيل الخلافة عن مورثهم ، ولا أجر عليهم في الأرض إن عملوها بقضاء قاض أو بغير قضاء قاض ; لأنهم قائمون مقام مورثهم ، وعقد المزارعة لم يبطل بموت مورثهم إذا اختاروا العمل ، وإن قالوا : لا نعملها لم يجبروا على العمل ; لأنهم إنما يخلفون الميت في أملاكه وحقوقه ، وليس عليهم إيفاء شيء مما كان مستحقا على مورثهم من ملكهم . كان البذر من العامل ، فزرع الأرض ثم مات المزارع قبل أن يستحصد فقال ورثته : نحن نعلمها على حالها
( ألا ترى ) أنهم لا يجبرون على قضاء ديونه من ملكهم ، فكذلك لا يجبرون على إقامة العمل الذي كان مستحقا عليه بمنافعهم ، وقيل لصاحب الأرض : اقلع الزرع فيكون بينك وبينهم نصفين ، أو أعطهم قيمة حصتهم من الزرع ، وأنفق على حصتهم ، فتكون نفقتك في حصتهم مما تخرج الأرض ; لأن المزارعة قد انقطعت بموت العامل إذا أبى الوارث إقامة العمل ; لفوات المعقود عليه لا إلى خلف ، وبقي الزرع مشتركا بينهما ، فهو بمنزلة ما لو انقضت مدة العمل ، والزرع بقل ، فأراد أن يقلع نصيبه ، وقد بينا هناك أن صاحب الأرض يتخير بين هذه الأشياء الثلاثة ، فهو قياسه إلا أن هناك إذا أراد صاحب الأرض [ ص: 50 ] الإنفاق فإنه يرجع بنصف النفقة في نصيب العامل ، وهنا يرجع بجميع النفقة في نصيب الورثة ; لأن هناك استحقاق العمل على العامل بمقابلة حصته من الزرع في المدة لا بعدها ، وقد انتهت المدة ، فكانت النفقة عليهما نصفين ، وهنا المدة لم تنته ، وقد كان العمل مستحقا على المزارع بمقابلة ما يسلم له من نصف الزرع ، وما كان مستحقا عليه يجب إيفاؤه من تركته ، ولا يسلم التركة للورثة إلا بعد إيفاء ما كان مستحقا عليه ; فلهذا رجع بجميع ما أنفق في حصة الورثة من الزرع ، فيستوفيه ثم يعطيهم الفضل على ذلك ، وكذلك لو كان الذي مات رب الأرض وبقي العامل ، وكذلك لو كان البذر من قبل رب الأرض ثم مات أحدهما ، فالأمر فيه على ما بينا إن شاء المزارع إن كان حيا أو ورثته إن كان ميتا أن يمضوا على المزارعة ، فذلك لهم ، وإن أبوا خير رب الأرض وورثته بين القلع ، وإعطاء قيمة حصة العامل وبين الإنفاق على نحو ما ذكرنا ، ولو كان البذر من العامل فلما صار الزرع بقلا انقضى وقت المزارعة ، فأيهما أنفق ، والآخر غائب فهو متطوع في النفقة ; لأن الغائب لو كان حاضرا لم يكن مجبرا على الإنفاق ، فيكون صاحبه في الإنفاق على نصيبه متطوعا ، ولا أجر لصاحب الأرض على العامل ; لأن أجر مثل نصف الأرض إنما يلزم بالتزامه ، وهو اختياره إمساك الأرض إلى وقت الاستحصاد بعد مطالبة صاحب الأرض بالتفريغ ، ولم يوجد ذلك ، وإن رفع العامل الأمر إلى القاضي ، وصاحب الأرض غائب ، فإنه يكلفه البينة على ما ادعى ; لأنه ادعى ثبوت ولاية القاضي في الأمر بالإنفاق ، فلا يقبل ذلك منه إلا ببينة ، فإن أتى بالبينة على الزرع أنه بينه وبين فلان الغائب أمره القاضي بالنفقة ، وإن تأخرت إقامة البينة ، وخيف على الزرع الفساد ، فإن القاضي يقول له ; أمرتك بالإنفاق إن كنت صادقا ، والنظر لهذا يحصل ; لأنه إن كان صادقا في مقالته فالأمر من القاضي في موضعه ، وإن كان كاذبا لم يثبت حكم الأمر ; لأنه علقه بالشرط ، فإن أنفق حتى يستحصد ثم حضر رب الأرض كان المزارع أحق بحصة رب الأرض حتى يستوفي نفقته ، فإن بقي شيء كان لرب الأرض ، وإن كانت نفقته أكثر لم يرجع على رب الأرض ; لأن أمر القاضي إنما نفذ في حق الغائب على وجه النظر منه له ، وكذلك يقول له القاضي : أنفق على أن تكون نفقتك في حصته من الزرع لدفع الغرر ، ويجعل القاضي عليه مثل أجر نصف الأرض ; لأن القاضي قام مقام الغائب في ما يرجع إلى النظر له ، ولو كان حاضرا يلزمه أجر مثل نصف الأرض بتربية نصيبه من الزرع في الأرض إلى وقت الإدراك ، فكذلك القاضي يلزمه ذلك بخلاف ما لو أنفق بغير أمر القاضي [ ص: 51 ] فإن هناك ليس عن الغائب نائب ليلزمه أجر مثل نصف الأرض .
( ألا ترى ) أنه لا يثبت له حق الرجوع على الغائب بحصته فيما أنفق بغير أجر القاضي ، وثبت له حق الرجوع بحصته مما أنفق بأمر القاضي ، فكذلك في أجر مثل نصف الأرض يقع الفرق بين الفصلين ; لهذا المعنى ، ولو حضروا جميعا فقال المزارع : يقلع الزرع ، وقال رب الأرض : ينفق عليه وآخذ منك أجر مثل نصف الأرض لم يكن له ذلك ; لأنه لا بد أن يلزم المزارع دينا في ذمته وربما يتضرر به المزارع بأن لا يفي نصيبه من الزرع بذلك ، فيكون له أن يأبى ذلك ، ثم يقول القاضي لصاحب الزرع : إن شئت فاقلع الزرع مع المزارع ، وإن شئت فأعطه نصف قيمة الزرع ، وإن شئت فأنفق على الزرع كله ، وتكون حصته إلى حصة العامل من النفقة في حصته من الخارج ، ولا يجبر المزارع على نفقة ولا أجر ; لأن فيه إتلاف ملكه ، وأحد لا يجبر على ذلك ، وإن كان ينتفع به غيره ، وإن قال المزارع : ينفق على الزرع ، وأبى ذلك صاحب الأرض وقال : يقلع الزرع أمر القاضي أن ينفق على الزرع فتكون نفقته على حصة صاحب الأرض في حصته من الزرع ، وعليه أجر مثل نصف الأرض ; لأنه في اختيار الإنفاق ناظر لنفسه ، ولصاحب الأرض ، فإنه يحيي به نصيبه من الزرع ، ويسلم له أجر مثل نصف الأرض ، وصاحب الأرض في الإباء متعنت قاصد إلى الإضرار به ، فلا يلتفت القاضي إلى تعنته بخلاف الأول ، فإن المزارع هناك يلزمه الأجر بما اختاره صاحب الأرض من الإنفاق ، ولو ساعده على ذلك فهو بالإباء يدفع الغرم عن نفسه ، وهنا صاحب الأرض لا يلزمه شيء وكل شيء من هذا الباب أمر القاضي أحدهما بالنفقة كلها ، وصاحبه غائب لم يأمره بذلك حتى تقوم البينة على الشركة ، فإن خيف الهلاك عليه إلى أن تقوم البينة ، قال له القاضي : أمرتك بالنفقة إن كان الأمر كما وصفت ، وقد بينا وجه هذا ، ولو كان البذر من صاحب الأرض فلما صار الزرع بقلا قال العامل : لا أنفق عليه ، ولا أسقيه فإن القاضي يجبره على أن ينفق عليه ، ويسقيه ; لأنه التزم ذلك بمباشرة العقد طائعا فيجبر على إيفاء ما التزمه ، فلو أجبره ، ولم يكن عنده ما أنفق أمر صاحب الأرض والبذر أن ينفق عليه ويسقيه على أن يرجع بذلك كله على صاحبه ، وإن كان أكثر من نصيبه ; لأن ذلك شيء يجبره عليه ، وكل نفقة يجبر عليها صاحبها ، فلم ينفق ، فأمر القاضي صاحبه بالنفقة ، فأنفق رجع بكلها على شريكه هلكت الغلة أو بقيت ، وكل نفقة لا يجبر عليها صاحبها فأنفق شريكه بأمر القاضي فإنها تكون في حصة الآخر ، فإن لم تف بها لم يكن للمنفق غير ذلك ، ولو أصاب الغلة آفة وتعذر عليه [ ص: 52 ] إيفاؤه للإفلاس فيستحق النظرة إلى الميسرة ، ولا يبطل أصل الاستحقاق ، فيكون الآخر كالفائت عنه شرعا فيما كان مستحقا عليه ، فيرجع بجميعه دينا في ذمته ، كما لو كان أمره بذلك ، وفيما لم يكن هو مجبرا عليه لم يؤخذ منه الالتزام بمباشرة سببه ، وإنما يلزم القاضي ذلك على سبيل النظر منه له ، ومعنى النظر إنما يتحقق إذا كان الإلزام بقدر نصيبه من الغلة على وجه يبقى ببقائه ، ولا يطالب بشيء بعد هلاكه ; فلهذا لا يعتبر أمر القاضي إلا في هذا المقدار .
( ألا ترى ) أن أجبره القاضي على ذلك ، فإن لم يقدر على ذلك ، وأمر شريكه فاسترضع له رجع عليه بحصته من الأجر بالغا ما بلغ إذا كان رضاع مثله ، وإن كان أكثر من قيمة الصبي سواء بقي الصبي أو هلك ; لأنه لما كان مجبرا على الإنفاق كان أمر القاضي شريكه بالإنفاق ، كأمره ; لأن القاضي نائب عنه في إيفاء ما كان مستحقا عليه ودفع الظلم ، فيرجع عليه بنصيبه بالغا ما بلغ وبمثله في الدابة المشتركة لما لم يكن مجبرا على الإنفاق في القضاء ، فإذا أنفق الشريك لم يكن له أن يرجع عليه فيما زاد على قيمة نصيبه ، ولا بعد هلاك الدابة ; فبهذا يتضح الفرق بينهما ، ولو أوصى لرجل بنخل ولآخر بغلته فالنفقة على صاحب الغلة تسلم له بمقابلة ما ينفق ، والغرم مقابل بالغنم ، فإن أحاله ، فلم يخرج شيئا في سنته لم يجبر واحد منهما على النفقة ، أما صاحب النخل فلأنه لا يسلم له شيء من الغلة ، ولأنه لا يجبر على الإنفاق على ملكه في غير بني عبدا صغيرا لو كان بين رجلين فقال أحدهما : ليس عندي ما أنفق عليه ، ولا ما أسترضع به آدم ، وصاحب الغلة إنما كان ينفق لتسلم له الغلة ، وفي هذه السنة لا يسلم له شيء من الغلة فلا يجبر على النفقة ، فإن أنفق عليه صاحب النخل حتى حمل لم يكن لصاحب الغلة شيء حتى يستوفي صاحب النخل النفقة من الغلة ، وإن لم يخرج من الغلة فيما يستقبل مثل ما أنفق لم يكن له على صاحب الغلة غرم نفقته ، وإنما نفقته فيما أخرجت النخل ; لأن الغلة إنما حصلت بالنفقة ، فلا تسلم له الغلة حتى يعطيه ما أنفق ، ولكن صاحب الغلة لم يكن مجبرا على الإنفاق ، فلا يرجع بالفضل عليه ، فكذلك الزرع الذي وصفنا قبل هذا ، ولو أنفق عليه المزارع بأمر صاحبه رجع عليه بذلك بالغا ما بلغ ; لأنه استقرض منه ما أمره بأن ينفق عليه ، وقد أقرضه ، فيكون ذلك دينا عليه في ذمته ، ولا سبيل له على حصته من الزرع وهذا ; لأن أمره على نفسه نافذ مطلقا فلا يتقيد بما فيه نظر له ، وأمر القاضي عليه يتقيد بما فيه نظر له فيما لم يكن هو مجبرا عليه .