قال الشيخ الإمام الأجل الزاهد شمس الأئمة وفخر الإسلام أبو بكر محمد بن أبي سهل السرخسي رحمه الله إملاء اعلم بأن الشرب هو نصيب من الماء للأراضي كانت أو لغيرها قال الله تعالى { لها شرب ولكم شرب يوم معلوم } وقال تعالى { ونبئهم أن الماء قسمة بينهم كل شرب محتضر } جائزة . وقسمة الماء بين الشركاء
بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم والناس يفعلون ذلك فأقرهم عليه ، والناس تعاملوه من لدن رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى يومنا هذا من غير نكير منكر ، وهو قسمة تجري باعتبار الحق دون الملك إذ الماء في النهر غير مملوك لأحد ، والقسمة تجري تارة باعتبار الملك كقسمة الميراث والمشترى وتارة باعتبار الحق كقسمة الغنيمة بين الغانمين ثم بدأ الكتاب بحديث رواه عن رحمه الله أن رسول الله صلى الله عليه وسلم { الحسن البصري } والمراد قال : من حفر بئرا فله ما حوله أربعين ذراعا عطنا لماشيته عند الحفر في الموات من الأرض رحمه الله بإذن الإمام أبي حنيفة وعندهما لا يشترط إذن الإمام على ما نبينه .
وظاهر الحديث يشهد لهما ; لأن النبي صلى الله عليه وسلم ذكر الحفر فقط ومثل هذا في لسان صاحب الشرع لبيان السبب لقوله عليه الصلاة والسلام { } ولكن من ملك ذا رحم محرم منه فهو حر أبو الحسن رحمه الله يقول اتفقنا على أن الاستحقاق لا يثبت نفس الحفر ما لم يكن ذلك في الموات من الأرض ، وهذا اللفظ لا يمكن العمل بظاهره إلا بزيادة لا يدل اللفظ عليها ، فلا يقوى الاستدلال بها ثم فيه دليل على أنمن قبل أن حافر البئر لا يتمكن من الانتفاع ببئره إلا بما حوله فإنه يحتاج أن يقف على شفير البئر يسقي الماء ، وإلى أن يبني على شفير البئر ما يركب عليه البكرة ، وإلى أن يبني حوضا يجمع فيه الماء ، وإلى موضع تقف فيه مواشيه عند الشرب ، وربما يحتاج أيضا إلى موضع تنام فيه مواشيه بعد الشرب فاستحق الحريم لذلك . البئر لها حريم مستحق
وقدر الشرع ذلك بأربعين ذراعا ، وطريق معرفة المقادير النص دون الرأي إلا أن من العلماء رحمهم الله من يقول أربعين ذراعا من الجوانب الأربعة من كل جانب [ ص: 162 ] عشرة أذرع ; لأن ظاهر اللفظ يجمع الجوانب الأربع ، والأصح أن المراد التقدير بأربعين ذراعا من كل جانب ; لأن المقصود دفع الضرر عن صاحب البئر الأول لكي لا يحفر أحد في حريمه بئرا أخرى فيتحول إليها ما ببئره ، وهذا الضرر ربما لا يندفع بعشرة أذرع من كل جانب فإن الأراضي تختلف بالصلابة والرخاوة ، وفي مقدار أربعين ذراعا من كل جانب يتيقن بدفع هذا الضرر ، ويستوي في مقدار الحريم بئر العطن وبئر الناضح عند رحمه الله أبي حنيفة وعندهما أربعون ذراعا ، وحريم بئر الناضح سبعون ذراعا ، واستدلا بحديث حريم بئر العطن الزهري أن النبي عليه الصلاة والسلام { قال : حريم العين خمسمائة ذراع وحريم بئر العطن أربعون ذراعا وحريم بئر الناضح ستون ذراعا } ; ولأن استحقاق الحريم باعتبار الحاجة ، وحاجة صاحب البئر الناضح إلى الحريم أكثر ; لأنه يحتاج إلى موضع يسير فيه الناضح ليستقي فيه الماء من البئر بذلك ، وفي بئر العطن إنما يستقي بيده فلا يحتاج إلى هذا الموضع ، واستحقاق الحريم بقدر الحاجة ( ألا ترى ) أن صاحب العين يستحق من الحريم أكثر مما يستحق صاحب البئر ; لأن ماء العين يفيض على الأرض ويحتاج صاحبه إلى اتخاذ المزارع حول ذلك لينتفع بما يفيض من الماء ، وإلى أن يبني غديرا يجتمع فيه الماء فاستحق لذلك زيادة الحريم واستدل رحمه الله بالحديث الأول فإنه عليه الصلاة والسلام { أبو حنيفة } وليس فيه فصل بين بئر العطن والناضح ومن أصله أن العام المتفق على قبوله ، والعمل به يترجح على الخاص المختلف في قبوله والعمل به ، ولهذا رجح قوله عليه الصلاة والسلام { قال من حفر بئرا فله ما حولها أربعون ذراعا } على قوله عليه الصلاة والسلام { ما أخرجت الأرض ففيه العشر } وعلى قوله عليه الصلاة والسلام { ليس فيما دون خمسة أوسق صدقة } ورجح أصحابنا رحمهم الله قوله عليه الصلاة والسلام { ليس في الخضراوات صدقة } على خبر العرايا ; ولأن استحقاق الحريم حكم ثبت بالنص بخلاف القياس ; لأن الاستحقاق باعتبار عمله . التمر بالتمر مثلا بمثل
، وعمله في موضع البئر خاصة فكان ينبغي أن لا يستحق شيئا من الحريم ، ولكنا تركنا القياس بالنص فبقدر ما اتفقت عليه الآثار ثبت الاستحقاق ، وما زاد على ذلك مما اختلف فيه الأثر لا يثبت استحقاقه بالشك هذا أصل رحمه الله في مسائل الحريم ، ولهذا لم يجعل للنهر حريما ، وكذلك في غير هذا الموضع فإنه قال : لا يستحق الغازي لفرسه إلا سهما واحدا ; لأن استحقاقه ثبت بخلاف القياس بالنص فلا يثبت إلا القدر المتيقن به فأما حريم العين خمسمائة ذراع كما ورد به الحديث ; لأن الآثار اتفقت عليه . أبي حنيفة
[ ص: 163 ] ولكن عند بعضهم الخمسمائة في الجوانب الأربعة من كل جانب مائة وخمسة وعشرون ذراعا والأصح أن له خمسمائة ذراع من كل جانب ، وقد ذكر في الأمالي هذا مفسرا في بئر الناضح قال : يتقدر حريمه بستين ذراعا من كل جانب إلا أن يكون الرشا أطول من ذلك ، فهذا دليل على أن المذهب التقدير من كل جانب بما سمي من الذرعان ، ثم الاستحقاق من كل جانب في الموات من الأرض بما لا حق لأحد فيه . أبو يوسف
أما فيما هو حق الغير فلا حتى لو ; فإنه لا يستحق الحريم من الجانب الذي هو حريم صاحب البئر الأول وإنما يستحقه من الجوانب الأخر فيما لا حق فيه ; لأن في ذلك الجانب الأول قد سبق إليه ، وقد ثبت استحقاقه كما قال عليه الصلاة والسلام { حفر إنسان بئرا ، فجاء آخر وحفر على منتهى حد حريمه بئرا : منا مباح من سبق } فلا يكون لأحد أن يبطل عليه حقه ، ويشاركه فيه .