وفي أن يصير خائفا على نفسه من جهة المكره في إيقاع ما هدده به عاجلا ; لأنه لا يصير ملجأ محمولا طبعا إلا بذلك ، وفيما أكره به بأن يكون متلفا ، أو مزمنا ، أو متلفا عضوا ، أو موجبا عما ينعدم الرضا باعتباره ، وفيما أكره عليه أن يكون المكره ممتنعا منه قبل الإكراه إما لحقه ، أو لحق آدمي آخر ، أو لحق الشرع ، وبحسب اختلاف هذه الأحوال [ ص: 40 ] يختلف الحكم في الكتاب لتفصيل هذه الجملة ، وقد ابتلي المكره المعتبر رحمه الله بسبب تصنيف هذا الكتاب على ما حكي عن محمد رحمه الله قال لما صنف ابن سماعة رحمه الله هذا الكتاب سعى به بعض حساده إلى الخليفة . محمد
فقال : إنه صنف كتابا سماك فيه لصا غاليا فاغتاظ لذلك ، وأمر بإحضاره ، وأتاه الشخص ، وأنا معه ، فأدخله على الوزير أولا في حجرته ، فجعل الوزير يعاتبه على ذلك فأنكره أصلا ، فلما علمت السبب أسرعت الرجوع إلى داره ، وتسورت حائط بعض الجيران ; لأنهم كانوا سمروا على بابه ، فدخلت داره ، وفتشت الكتب حتى وجدت كتاب الإكراه ، فألقيته في جب في الدار ; لأن الشرط أحاطوا بالدار قبل خروجي منها ، فلم يمكني أن أخرج ، واختفيت في موضع حتى دخلوا ، وحملوا جميع كتبه إلى دار الخليفة بأمر الوزير ، وفتشوها ، فلم يجدوا شيئا مما ذكره الساعي لهم ، فندم الخليفة على ما صنع به ، واعتذر إليه ، ورده بجميل ، فلما كان بعد أيام أراد محمد رحمه الله أن يعيد تصنيف الكتاب ، فلم يجبه خاطره إلى مراده ، فجعل يتأسف على ما فاته من هذا الكتاب ، ثم أمر بعض وكلائه أن يأتي بعامل ينقي البئر ; لأن ماءها قد تغير ، فلما نزل العامل في البئر ، وجد الكتاب في آجرة ، أو حجر بناء من طي البئر لم يبتل ، فسر محمد رحمه الله بذلك ، وكان يخفي الكتاب زمانا ، ثم أظهره ، فعد هذا من مناقب محمد ، وما يستدل به على صحة تفريعه لمسائل هذا الكتاب ، ثم بدأ الكتاب بحديث رواه عن محمد رحمه الله قال في إبراهيم إنه جائز واقع ، ولو شاء الله لابتلاه بأشد من هذا ، وهو يقع كيفما كان ، وبه أخذ علماؤنا رحمهم الله ، وقالوا الرجل يجبره السلطان على الطلاق ، والعتاق ، فيطلق ، أو يعتق ، وهو كاره ، واقع سواء كان المكره سلطانا ، أو غيره أكرهه بوعيد متلف ، أو غير متلف ، والخلاف في هذا الفصل كان مشهورا بين السلف من علماء التابعين رحمهم الله ، ولهذا استكثر من أقاويل السلف على موافقة قول : طلاق المكره . إبراهيم
وفي قوله : ولو شاء الله لابتلاه بأشد من هذا إشارة إلى ما ذكرنا من بقاء الأهلية ، والخطاب مع الإكراه ، وإنه غير راض في ذلك ، ولكن عدم الرضا بحكم الطلاق لا يمنع الوقوع ، ولهذا وقع مع اشتراط الخيار عند الإيقاع ، ومع الهزل من الموقع ، وإن كان معلوما ، وكأنه أخذ هذا اللفظ مما ذكره رضي الله عنه في امرأة المفقود : إنها ابتليت فلتصبر ، ولو شاء الله لابتلاها بأشد من هذا ، وعن علي رحمه الله أنه أجاز طلاق المكره ، وعن عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه أنه ذكر له أن رجلا ضرب غلامه حتى طلق امرأته ، فقال : بئس ما صنع ، وإنما فهموا منه بهذا الفتوى بوقوع الطلاق حتى [ ص: 41 ] قال سعيد بن المسيب يحيى بن سعيد راوي الحديث : أي هو جائز عليه في معنى قوله بئس ما صنع أي حين فرق بينه ، وبين امرأته بغير رضاه ، وإنما يكون ذلك إذا وقعت الفرقة ، ومن قال : لا يقع طلاق المكره يقول : مراد سعيد رضي الله عنه بئس ما صنع في اكتسابه بالإكراه ، وتضييعه ، وقت نفسه ، وقد رد عليه الشرع قصده ، وجعل طلاق المكره لغوا ، ولكن الأول أظهر .
وأصل هذا فيما إذا ، فقال : بئس ما صنعت ، وهذا اللفظ في رواية باع رجلا عينا من مال غيره بغير أمره ، ثم أخبر المالك به هشام عن لا يكون إجازة للبيع بخلاف قوله : نعم ما صنعت ، أو أحسنت ، أو أصبت ، فإن في اللفظ الأول إظهار الكراهة لصنعه ، وفي اللفظ الثاني إظهار الرضا به ، وروى محمد رحمه الله على عكس هذا : أن قوله نعم ما صنعت يكون على سبيل الاستهزاء به في العادة ، فيكون ردا لا إجازة ، وقوله بئس ما صنعت يكون إجازة ; لأنه إظهار للتأسف على ما فاته ، وذلك إنما يتحقق إذا نفذ البيع ، وزال ملكه ، فجعلناه إجازة لذلك ، وعن ابن سماعة صفوان بن عمرو الطائي أن { رجلا كان مع امرأته نائما ، فأخذت سكينا ، وجلست على صدره ، فوضعت السكين على حلقه ، وقالت : لتطلقني ثلاثا ألبتة أو لأذبحنك ، فناشدها الله ، فأبت عليه ، فطلقها ثلاثا ، فذكر ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم فقال عليه الصلاة والسلام : لا قيلولة في الطلاق } ، وفيه دليل وقوع طلاق المكره ; لأن لقوله عليه الصلاة والسلام { لا قيلولة في الطلاق } تأويلين : أحدهما أنها بمعنى الإقالة ، والفسخ أي لا يحتمل الطلاق ، والفسخ بعد وقوعه ، وإنما لا يلزمه عند الإكراه ما يحتمل الإقالة ، أو يعتمد تمام الرضا ، والثاني - أن المراد إنما ابتليت بهذا لأجل يوم القيلولة ، وذلك لا يمنع وقوع الطلاق .
وبطريق آخر يروى هذا الحديث { أن رجلا خرج مع امرأته إلى الجبل ليمتار العسل ، فلما تدلى من الجبل بحبل ، وضعت السكين على الحبل ، فقالت لتطلقني ثلاثا ، أو لأقطعنه ، فطلقها ثلاثا ، ثم جاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ليستفتي ، فقال : عليه الصلاة والسلام لا قيلولة في الطلاق ، وأمضى طلاقه } ، وذكر نظير هذا عن رضي الله عنه أن امرأة كانت مبغضة لزوجها ، فراودته على الطلاق ، فأبى ، فلما رأته نائما قامت إلى سيفه فأخذته ، ثم وضعته على بطنه ، ثم حركته برجلها ، فلما استيقظ قالت له ، والله لأنفذنك به ، أو لتطلقني ثلاثا فطلقها ، فأتى عمرو بن شرحبيل رضي الله عنه ، فاستغاث به فشتمها ، وقال : ويحك ما حملك على ما صنعت ، فقالت بغضي إياه ، فأمضى طلاقه . ، وهو دليل لنا على أن طلاق المكره واقع ، ولا يقال : في هذا كله إن هذا الإكراه كان من غير السلطان ; لأن الإكراه بهذه [ ص: 42 ] الصفة يتحقق بالاتفاق ، فإنه صار خائفا على نفسه لما كانت متمكنة من إيقاع ما خوفته به ، وإن كان ذلك يعارض قوله : فشتمها أي نسبها إلى سوء العشرة ، والصحبة ، وإلى الظلم كما يليق بفعلها لا أن يكون ذكر ما ليس بموجود فيها ; لأن ذلك بهتان لا يظن به ، وعن عمر بن الخطاب قال : طلاق المكره جائز ، وعن أبي قلابة رضي الله عنه قال : أربع واجبات على من تكلم بهن : الطلاق ، والعتاق ، والنكاح ، والنذر يعني النذر المرسل إذ اليمين بالنذر يمين ، وبه نأخذ ، فنقول : هذا كله جائز لازم إن كان جادا فيه ، أو هازلا أكره عليه ، أو لم يكره ; لأنه لا يعتمد تمام الرضا ، ولا يحتمل الفسخ بعد وقوعه ، وعن عمر رضي الله عنه قال : ثلاث لا لعب فيهن : الطلاق ، والعتاق ، والصدقة يعني النذر بالصدقة ، ومراده أن الهزل ، والجد في هذه الثلاثة سواء ، فالهازل لاعب من حيث إنه يريد بالكلام غير ما وضع له الكلام . علي
وذكر نظيره عن رضي الله عنه قال : ثلاث لا لعب بهن ، واللعب فيهن جد النكاح ، والطلاق ، والعتاق ، وعن أبي الدرداء رضي الله عنه قال : ثلاث ليس فيهن لعب : الطلاق ، والنكاح ، والعتاق ، وأيد هذا كله حديث ابن المسيب رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال { أبي هريرة } ، وإنما ، أورد هذه الآثار ليستدل بها على صحة هذه التصرفات من المكره ، فللوقوع حكم الجد من الكلام ، والهزل ضد الجد ، ثم لما لم يمتنع الوقوع مع وجود ما يضاد الجد ، فلأن لا يمتنع الوقوع بسبب الإكراه أولى ; لأن الإكراه لا يضاد الجد ، فإنه أكره على الجد ، وأجاب إلى ذلك ، وإنما ضد الإكراه الرضا ، فيثبت بطريق البينة لزوم هذه التصرفات مع الإكراه ; لأنه لما لم يمتنع لزومها بما هو ضد الجد ، فلأن لا يمتنع لزومها مع جد أقدم عليه عن إكراه أولى ، وعن : ثلاث جدهن جد ، وهزلهن جد الطلاق ، والرجعة ، والنكاح رضي الله عنه : أربع مبهمات مقفلات ليس فيهن رد يد الطلاق ، والعتاق ، والنكاح ، والنذر ، وقوله مبهمات أي واقعات على صفة واحدة في اللزوم مكرها كان الموقع أو طائعا يقال : فرس بهيم إذا كان على لون واحد ، وقوله مقفلات أي لازمات لا تحتمل الرد بسبب العذر ، وقد بين ذلك بقوله : ليس فيهن رد يد ، وعن عمر الشعبي رضي الله عنه قال إذا أجبر السلطان على الطلاق فهو جائز ، وإن كان لصا فلا شيء ، وبه أخذ رحمه الله قال : الإكراه يتحقق من السلطان ، ولا يتحقق من غيره ، ثم ظاهر هذا اللفظ يدل على أنه كان من مذهب أبو حنيفة الشعبي أن المكره على الطلاق إذا كان سلطانا يقع ، ولا يقع طلاق المكره إذا كان المكره لصا ، ولكنا نقول : مراده بيان الوقوع بطريق التشبيه يعني أن المكره على الطلاق ، وإن كان سلطانا فالطلاق واقع جائز [ ص: 43 ] فإذا كان لصا ، أولى أن يكون واقعا ; لأن إكراه اللص ليس بشيء .
وعن علي رضي الله عنهم قالا : كل طلاق جائز إلا طلاق الصبي ، والمعتوه ، وإنما استدل بقولهما على وقوع طلاق المكره ; لأنهما حكما بلزوم كل طلاق إلا وابن عباس ، والمكره ليس بصبي ، ولا معتوه ، ولا هو في معناهما لبقاء الأهلية ، والخطاب مع الإكراه ، وعن طلاق الصبي ، والمعتوه الزهري رحمه الله أن فتى أسود كان مع رضي الله عنه ، وكان يقرأ القرآن ، فبعث أبي بكر الصديق رضي الله عنه رجلا يسعى على الصدقة ، وقال له : اذهب بهذا الغلام معك يرع غنمك ، ويعنك ، فتعطيه من سهمك فذهب بالفتى فرجع ، وقد قطعت يده فقال : ويحك مالك ؟ قال : زعموا أني سرقت فريضة من فرائض الإبل ، فقطعني قال أبو بكر رضي الله عنه والله لئن وجدته قطعك بغير حق لأقيدنك منه قال فلبثوا ما لبثوا ، ثم إن متاعا أبو بكر لامرأة أبي بكر سرق ، وذلك الأسود قائم يصلي ، فرفع يده إلى السماء ، وقال : اللهم أظهر على السارق اللهم أظهر على السارق ، فوجدوا ذلك المتاع عنده ، فقال رضي الله عنه ، ويحك ما أجهلك بالله ، ثم أمر به ، فقطعت رجله ، فكان أول من قطعت رجله ، وقد بينا ، فوائد هذا الحديث في كتاب السرقة ، واختلاف الروايات أنه ذكر هناك أن الفتى كان أقطع اليد ، والرجل ، فقطعت يده اليسرى ، وهنا ذكر أنه كان أقطع اليد ، فقطع أبو بكر أبو بكر رضي الله عنه رجله ، وإنما أورد الحديث هنا لحرف ، وهو قوله ، ( والله لئن وجدته قطعك بغير حق لأقيدنك منه ) وبه نأخذ ، فنقول أن القصاص على العامل الذي أمر به لأن أمر مثله إكراه ، فإن من عادة العمال أنهم يأمرون بشيء ، ثم يعاقبون من امتنع من ذلك بالقتل ، وغيره ، والفعل يصير منسوبا إليه بمثل هذا الأمر قال الله تعالى { إذا بعث الخليفة عاملا ، فأمر رجلا بقطع يد غيره ، أو قتله بغير حق ، فعله يذبح أبناءهم ويستحيي نساءهم إنه كان من المفسدين } ، واللعين ما كان يباشر حقيقته ، ولكنه كان مطاعا بأمره ، والأمر من مثله إكراه ، والكلام في الإكراه على القتل يأتي في موضعه . .