( قال رحمه الله ) : وإذا فهو مأذون له في التجارات كلها مثل العبد المأذون عندنا ، وقال أذن الرجل لابنه الصغير في التجارة أو في جنس منها وهو [ ص: 21 ] يعقل البيع ، والشراء رحمه الله : الإذن له في التجارة باطل إذا كان صغيرا أو معتوها حرا كان أو مملوكا وأصل المسألة أن عبارته صالحة للعقود الشرعية عندنا فيما يتردد بين المنفعة ، والمضرة وعنده هي غير صالحة حتى لو توكل بالتصرف عن الغير نفذ تصرفه عندنا ولم ينفذ عنده احتج بقوله تعالى : { الشافعي حتى إذا بلغوا النكاح فإن آنستم منهم رشدا } فقد شرط البلوغ وإيناس الرشد لجواز دفع المال إليه وتمكينه من التصرف فيه فدل أنه ليس بأهل للتصرف قبل ذلك قال تعالى : { ولا تؤتوا السفهاء أموالكم التي جعل الله لكم قياما } ، والمراد الصبيان ، والمجانين أنه لا يدفع إليهم أموالهم بدليل قوله تعالى { وارزقوهم فيها واكسوهم } فالإذن له في التجارة لا ينفك عن دفع المال إليه ليتجر فيه ، والمعنى فيه أنه غير مخاطب فلا يكون أهلا للتصرف كالذي لا يعقل وهذا ; لأن التصرف كلام ، وإنما تبنى الأهلية على كونه أهلا لكلام ملزم شرعا وذلك ينبني على الخطاب .
( ألا ترى ) أنه لعدم الخطاب بقي مولى عليه في هذه التصرفات ولو صار باعتبار عقله أهلا لمباشرتها لم يبق مولى عليه فيها ; لأن كونه مولى عليه لعجزه عن المباشرة لنفسه ، والأهلية للتصرف آية القدرة وهما متضادان فلا يجتمعان .
يوضحه أن اعتبار عقله مع النقصان لأجل الضرورة ، وإنما تتحقق هذه الضرورة فيما لا يمكن تحصيله بوليه فجعل عقله في ذلك معتبرا ; ولهذا صحت منه الوصية بأعمال البر وخيرته بين الأبوين ولا تتحقق الضرورة فيما يمكن تحصيله بوليه فلا حاجة إلى اعتبار عقله فيه ولأن ما به كان محجورا عليه لم يزل بالإذن فإن الحجر عليه لأجل الصبا أو لنقصان عقله لا لحق الغير في ماله إذ لا حق لأحد في ماله وهذا المعنى بعد الإذن قائم ، والدليل عليه أن للمولى أن يحجر عليه فلو زال سبب الحجر بإذن الولي لم يكن له الحجر عليه بعد ذلك وهذا بخلاف العبد فإن الحجر هناك لحق المولى في كسبه ورقبته وبالإذن صار المولى راضيا بتصرفه في كسبه وبخلاف السفيه فالحجر عليه لمكابرة عقله وذلك ليس بوصف لازم ولا يجوز الإذن له إلا بعد زواله إلا أن إذن القاضي إياه دليل زواله وحجتنا في ذلك قوله تعالى { وابتلوا اليتامى حتى إذا بلغوا النكاح } ، والابتلاء هو الامتحان بالإذن له في التجارة ليعرف رشده وصلاحه فلو تصرف بدون مباشرتهم لا يتم به معنى الابتلاء ، ثم علق إلزام دفع المال إليه بالبلوغ وذلك عبارة عن زوال ولاية الولي عنه وبه نقول إن ذلك لا يثبت ما لم يبلغ ، وقال تعالى : { وآتوا اليتامى أموالهم } واسم اليتيم حقيقة يتناول الصغير فعرفنا أن دفع المال إليه وتمكينه [ ص: 22 ] من التصرفات جائز إذا صار عاقلا ، والمراد بقوله : { ولا تؤتوا السفهاء أموالكم } الذين لا يعقلون أو المراد النساء وهو أن الرجل يدفع المال لزوجته ويجعل التصرف فيه إليها وذلك منهي عنه عندنا .
{ وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : وقم يا لعمر بن أبي سلمة فزوج أمك من رسول الله صلى الله عليه وسلم وكان ابن سبع سنين عمر } { ورأى رسول الله صلى الله عليه وسلم يبيع لعب الصبيان في صغره فقال : بارك الله لك في صفقتك عبد الله بن جعفر } فقد مكن الصبي من التصرف فدل أن عبارته صالحة لذلك ، والمعنى فيه أنه محجور بإذن وليه له وعرفه فينفذ تصرفه كالعبد وهذا ; لأنه مع الصغر أهل للتصرف إذا كان عاقلا ; لأنه مميز ، والأهلية للتصرف بكونه متكلما عن تمييز وبيان لا عن تلقين وهذيان وقد صار مميزا إلا أن الحجر عليه لدفع الضرر عنه ; ولهذا سقط عنه الخطاب ; لأن في توجيه الخطاب عليه إضرارا به عاجلا .
( ألا ترى ) أنه جعل أهلا للنوافل من الصلوات ، والصيام ; لأنه لا ضرر عليه في ذلك ولو توجه عليه الخطاب ربما لا يؤدي للحرج ويبقى في وباله وهذا ; لأن الصبي يقرب من المنافع ويبعد من المضار فإن الصبا سبب للمرحمة واعتبار كلامه في التصرف محض منفعة ; لأن الآدمي باين سائر الحيوانات بالبيان وهو من أعظم المنافع عند العقلاء وهذه منفعة لا يمكن تحصيلها له برأي المولى ; ولهذا صح منه من التصرفات ما يتمحض منفعة وهو قبول الهبة ، والصدقة فأما ما يتردد بين المنفعة ، والمضرة فيعتبر فيه انضمام رأي إلى رأيه لتوفير المنفعة عليه فلو نفذنا ذلك منه قبل الإذن ربما يتضرر به ويزول هذا المعنى بانضمام رأي الولي إلى رأيه ; ولهذا لو جاز عندنا . تصرف قبل إذن الولي فأجازه الولي
وهذا لأنه يتردد حاله بين أن يكون ناظرا في عاقبة أمره بما أصاب من العقل وبين أن لا يكون ناظرا في ذلك بنقصان عقله فكان إذن الولي له دليل كمال عقله أو حسن نظره في عاقبة أمره كإذن القاضي للسفيه بعد الحجر عليه أو فيه توفير المنفعة عليه حين لزم التصرف بانضمام رأي الولي إلى رأيه فإذا اعتبرنا عقله في هذا الوجه اتسع توفير طريق المنفعة عليه ; لأنه يحصل له منفعة التصرف بمباشرته وبمباشرة وليه وذلك أنفع له من أن يسد عليه أخذ الناس ويجعل لتحصيل هذه المنفعة طريقا واحدا إلا أن نظره في عاقبة الأمر ووفور عقله متردد قبل بلوغه فلاعتبار وجوده ظاهرا يجوز للولي أن يأذن له ولتوهم القصور فيه يبقى ولاية الولي عليه ويتمكن من الحجر عليه بعد ذلك وهو كالسفيه فإن القاضي بعد ما أطلق عنه الحجر [ ص: 23 ] إذا أراد أن يحجر وعليه جاز ذلك لهذا المعنى إذا عرفنا هذا فنقول ولا يحل للولي أن يأذن له شرعا ما لم يعرف منه حسن النظر في عاقبة الأمر صحيح ; لأنه صار منفك الحجر عنه بالإذن فهو كما لو صار منفك الحجر عنه بالبلوغ وهذا إشكال الخصم علينا فإنه يقول إقرار الولي عليه باطل فكيف يستفيد هو بإذن الولي ما لا يملك الولي مباشرته ولكنا نقول الولي إنما لا يملك مباشرته ; لأنه لا يتحقق ذلك منه فالإقرار قول من المرء على نفسه وما ثبت على الغير فهو شهادة وإقرار الولي على الصبي قول على الغير فيكون شهادة وشهادة الفرد لا يكون حجة فأما قوله " بعد الإذن " إقرار منه على نفسه وهو من صنيع التجار ومما لا تتم التجارة إلا به ; لأن الناس إذا علموا أن إقراره لا يصح يتحرزون عن معاملته فمن يعامله لا يتمكن من أن يشهد عليه شاهدين في كل تصرف فلهذا جاز إقراره في ظاهر الرواية وكما يجوز إقراره فيما اكتسبه يجوز فيما ورثه عن أبيه ، وفي رواية إقراره بعد إذن الولي له بعين أو دين لغيره الحسن عن لا يجوز إقراره فيما ورثه عن أبيه لأن صحة إقراره في كسبه لحاجته إلى ذلك في التجارات وهذه الحاجة تنعدم في الموروث من أبيه . أبي حنيفة
وجه ظاهر الرواية أن انفكاك الحجر عنه بالإذن في حكم إقراره بمنزلة انفكاك الحجر عنه بالبلوغ بدليل صحة إقراره فيما اكتسبه فكذلك فيما ورثه ; لأن كل واحد من المالين ملكه وهو فارغ عن حق الغير وهذا ; لأنه إذا انضم رأي الولي إلى رأيه التحق بالبالغ ; ولهذا نفذ رحمه الله تصرفه بعد الإذن في الغبن الفاحش على ما نبينه في موضعه فكذلك في حكم الإقرار يلتحق بالبالغ ، ثم صحة الإذن له في وليه ووليه أبوه ، ثم وصي الأب ، ثم الجد أب الأب ، ثم وصيه ، ثم القاضي أو وصي القاضي فأما أبو حنيفة ; لأنه غير ولي له في التصرفات مطلقا بل هو كالأجنبي إلا فيما يرجع إلى حفظه ; ولهذا لا يملك بيع عقاره ، والإذن في التجارة ليس من الحفظ فلهذا لا يملكه . الأم أو وصي الأم فلا يصح الإذن منهم له في التجارة