ويجوز بلا كراهة للاتباع وزعم أن هذا خاص بالغزو ممنوع ، نعم إن أريد أنه فيه سنة كما صرح [ ص: 36 ] به لبس ضيق الكمين حضرا وسفرا لم يبعد ، وتسن العمامة للصلاة ولقصد التجمل للأحاديث الكثيرة فيها واشتداد ضعف كثير منها يجبره كثرة طرقها وزعم وضع كثير منها تساهل كما هو عادة ابن عبد البر ابن الجوزي هنا في التصحيح ألا ترى إلى حديث { والحاكم } حيث حكم اعتموا تزدادوا حلما ابن الجوزي بوضعه بصحته استرواحا منهما على عادتهما ، وتحصل السنة بكونها على الرأس أو نحو قلنسوة تحتها ، وفي حديث ما يدل على أفضلية كبرها لكنه شديد الضعف وهو وحده لا يحتج به ولا في فضائل الأعمال وينبغي ضبط طولها وعرضها بما يليق بلابسها عادة في زمانه ومكانه ، فإن زاد فيها على ذلك كره وعليه يحمل إطلاقهم كراهة كبرها وتتقيد كيفيتها بعادته أيضا والحاكم
ومن ثم انخرمت مروءة فقيه يلبس عمامة سوقى لا تليق به وعكسه ، وسيأتي أن خرمها مكروه بل حرام على من تحمل شهادة ؛ لأن فيه حينئذ إبطالا لحق الغير ، ولو اطردت عادة محل بإزرائها من أصلها لم تنخرم بها المروءة خلافا لبعضهم ويأتي في الطيلسان خلاف ذلك ويفرق بأن ندبها عام في أصل وضعها فلم ينظر لعرف يخالفه ، فإن أصل وضعه للرؤساء كما صرح به بعض العلماء المتقدمين ، وفي حديثين ما يقتضي عدم ندبها من أصلها لكن قال بعض الحفاظ لا أصل لهما ، والأفضل في لونها البياض وصحة { بدر بعمائم صفر } وقائع محتملة فلا تنافي عموم الخبر الصحيح الآمر بلبس البياض وأنه خير الألوان في الحياة والموت ولا بأس بلبس القلنسوة اللاطئة بالرأس والمرتفعة المضربة وغيرها تحت العمامة وبلا عمامة ؛ لأن كل ذلك جاء عنه صلى الله عليه وسلم ، وبقول الراوي وبلا عمامة قد يتأيد بعض ما اعتاده بعض أهل النواحي من ترك العمامة من أصلها وتميز علمائهم بطيلسان على قلنسوة بيضاء لاصقة بالرأس ، لكن بتسليم ذلك الأفضل ما عليه ما عدا هؤلاء من الناس من لبس العمامة بعذبتها ورعاية قدرها وكيفيتها السابقين ، ولا يسن لبسه صلى الله عليه وسلم لعمامة سوداء ونزول أكثر الملائكة يوم عندنا واختار بعض حفاظ هنا ما عليه كثيرون من العلماء أنه يسن وهو تحزيق الرقبة وما تحت الحنك واللحية ببعض العمامة تحنيك العمامة
وقد أجبت في الأصل عما استدل به أولئك وأطالوا فيه وجاء في العذبة أحاديث كثيرة منها صحيح ومنها حسن ناصة على فعله صلى الله عليه وسلم لها لنفسه ولجماعة من أصحابه وعلى أمره بها ولأجل هذا تعين تأويل قول الشيخين وغيرهما ومن تعمم فله فعل العذبة وتركها ولا كراهة في واحد منهما ، زاد المصنف ؛ لأنه لم يصح في النهي عن ترك العذبة شيء انتهى ، بأن المراد بله فعل العذبة ، الجواز الشامل للندب ، وتركه صلى الله عليه وسلم لها في بعض الأحيان إنما يدل على عدم وجوبها أو عدم تأكد ندبها ، [ ص: 37 ] وقد استدلوا بكونه صلى الله عليه وسلم أرسلها بين الكتفين تارة وإلى الجانب الأيمن أخرى على أن كلا منهما سنة وهذا تصريح منهم بأن أصلها سنة ؛ لأن السنية في إرسالها إذا أخذت من فعله صلى الله عليه وسلم له فأولى أن تؤخذ سنية أصلها من فعله لها وأمره بها متكررا ، ثم إرسالها بين الكتفين أفضل منه على الأيمن ؛ لأن حديث الأول أصح ، وأما إرسال الصوفية لها على الجانب الأيسر لكونه جانب القلب فتذكر تفريغه مما سوى ربه فهو شيء استحسنوه والظن بهم أنهم لم يبلغهم في ذلك سنة فكانوا معذورين ، وأما بعد أن بلغتهم السنة فلا عذر لهم في مخالفتها وكان حكمة ندبها ما فيها من الجمال وتحسين الهيئة ، وأبدى بعض مجسمي الحنابلة لجعلها بين الكتفين حكمة تليق بمعتقده الباطل فاحذره ، ووقع لصاحب القاموس هنا ما ردوه عليه كقوله لم يفارقها صلى الله عليه وسلم قط
والصواب أنه كان يتركها أحيانا ، وكقوله طويلة ، فإن أراد أن فيها طولا نسبيا حتى أرسلت بين الكتفين فواضح أو أزيد من ذلك فلا ، وقد قال بعض الحفاظ أقل ما ورد في طولها أربع أصابع وأكثر ما ورد ذراع وبينهما شبر انتهى ، ومر ما يعلم منه حرمة إفحاش طولها بقصد الخيلاء ، فإن لم يقصد كره وذكرهم الإفحاش بل والطول بل هي من أصلها تمثيل لما هو معلوم أن سبب الإثم إنما هو قصد نحو الخيلاء ، فإذا وجد التصميم على فعلها لهذا الغرض أثم ، وإن لم يفعلها على الأصح كما هو الأصح في كل معصية صمم على فعلها وفي حديث حسن { } أي من لبسه بقصد الشهرة المستلزمة لقصد نحو الخيلاء لخبر { من لبس ثوبا ذا شهرة أعرض الله عنه ، وإن كان وليا } ، ولو خشي من إرسالها نحو خيلاء لم يؤمر بتركها خلافا لمن زعمه بل يفعلها وبمجاهدة نفسه في إزالة نحو الخيلاء منها ، فإن عجز لم يضر حينئذ خطور نحو رياء ؛ لأنه قهري عليه فلا يكلف به كسائر الوساوس القهرية ، غاية ما يكلف به أنه لا يسترسل مع نفسه فيها بل يشتغل بغيرها ثم لا يضره ما طرأ قهرا عليه بعد ذلك ، وخشية إيهامه الناس صلاحا أو علما خلا عنه بإرسالها لا يوجب تركها أيضا بل يفعلها ويؤمر بمعالجة نفسه كما ذكر ، وبحث من لبس ثوبا يباهي به الناس لم ينظر الله إليه حتى يرفعه الزركشي أنه يحرم على غير الصالح التزيي بزيه إن غربه غيره حتى يظن صلاحه فيعطيه وهو ظاهر إن قصد هذا التغرير ، وأما حرمة القبول فهو من القاعدة السابقة أن كل من أعطي شيئا لصفة ظنت به لم يجز له قبوله ولا يملكه إلا إن كان باطنا كذلك ، وعليه يحمل قول ابن عبد السلام لغير الصالح التزيي بزيه ما لم يخف فتنة أي على نفسه أو غيره بأن تخيل لها أو له صلاحها وليست كذلك
واعلم أنه كثر كلام العلماء قديما وحديثا من الشافعية وغيرهم في الطيلسان وقد لخصت المهم منه في المؤلف السابق ذكره وأردت هنا أن ألخص المهم من هذا الملخص بأوجز عبارة ، فقلت هو قسمان محنك وهو ثوب طويل عريض قريب من طول وعرض الرداء على ما مر مربع يجعل على الرأس فوق نحو عمامة ويغطى به أكثر الوجه كما قاله جمع محققون وظاهر أنه لبيان الأكمل فيه ويحذر من تغطيته الفم في الصلاة ، فإنه مكروه ثم يدار طرفه والأولى اليمين كما هو المعهود فيه من تحت الحنك إلى أن يحيط بالرقبة جميعها ثم يلقى طرفاه على الكتفين وهذا أحسن ما يقال في تعريفه لا ما قيل فيه مما بعضه غير جامع وبعضه غير مانع ، وبينت في الأصل كيفيتين أخريين يقاربان هذه وقد يلحقان بها في تحصيل أصل السنة ويطلق مجازا على الرداء الذي هو حقيقة مختص بما يجعل على الكتفين ، ومنه قول كثيرين من السلف للمحرم لبس طيلسان لم يزره عليه ومقور والمراد به ما عدا الأول فيشمل المدور والمثلث الآتيين في الاستسقاء والمربع والمسدول وهو ما يرخى طرفاه من غير أن يضمهما أو أحدهما ولو بيده ومنه الطرحة التي كانت معتادة لقاضي [ ص: 38 ] القضاة والمختصة به وفعلها أجلاء من منذ مئات من السنين وهو عجيب جدا ؛ لأنها بدعة منكرة مكروهة لكونها من شعار الشافعي اليهود ولأن فيها السدل المكروه بكيفيتيها المذكورتين في الأصل مع بيان كيفية المقورة ووجه تسميته بذلك وبيان ما ألحق به وأنه لا وجود له الآن ، نعم يقرب من شكله خرقة المتصوفة التي يجعلونها تحت عمائمهم وأحد قسمي الطرحة
، والحاصل أن كل ما كان مشتملا على هيئة السدل بأن يلقي طرفي نحو ردائه من الجانبين ولا يردهما على الكتفين ولا يضمهما بيده أو غيرها مكروه .
وأما ما نقل عن أولئك فلعلهم كانوا مكرهين عليها كلبس الخلع الحرير الصرف ، لكن ينافيه ما يزداد التعجب منه قول السبكي لولا أخشى على شعار القضاة لأبطلتها وأعجب من هذا عد ولده لهذه السقطة في ترجمته ثم حكم القسم الأول الندب باتفاق العلماء كما قاله غير واحد من أئمة الشافعية والحنابلة وغيرهما بل تأكده للصلاة وحضور الجمعة والمسجد ومجامع الناس ، قالوا وكل من صرح أو أوهم كلامه كراهة الطيلسان ، فإنما أراد قسمه الثاني بأنواعه المتفق على كراهة جميعها وأنها من شعار اليهود أو النصارى ولأجل ذلك كان الأصح أن إنكار على قوم حضروا الجمعة متطيلسين إنما هو لكون طيالستهم مقورة كطيالسة أنس اليهود وكذا طيالسة اليهود السبعين ألفا الذين مع الدجال فهي مقورة أيضا كما يصرح به حديث رواه ، وجاء في المحنك الذي هو الأول المندوب أحاديث صحاح وغيرها وآثار عن الصحابة أحمد والسلف الصالح ومن بعدهم بفعله وطلبه والحث عليه والإشارة إلى بعض فوائده وغير ذلك مما يعلم به الرد الشنيع على من أوهم كلامه عدم ندب الطيلسان إن أراد المحنك المذكور ، ولذا أجبت عنه بأنه أراد ما عدا الأول ، نعم وقع في أكثر ذلك التعبير عن التطليس بالتقنع وعن الطيلسان بالقناع ومن ثم قال في فتح الباري في { أبي بكر متقنعا قوله متقنعا } أي متطيلسا رأسه وهو أصل في مجيئه صلى الله عليه وسلم إلى بيت وفيه أيضا التقنع تغطية الرأس وأكثر الوجه برداء أو غيره أي مع التحنيك وقد صرحوا بأن القناع الذي يحصل به التقنع الحقيقي هو الرداء وهو يسمى طيلسانا كما أن الطيلسان قد يسمى رداء كما مر ، ومن ثم قال لبس الطيلسان الرداء يسمى الآن الطيلسان فما على الرأس من التحنيك الطيلسان الحقيقي ويسمى رداء مجازا وما على الأكتاف هو الرداء الحقيقي ويسمى طيلسانا مجازا والأكمل جمعهما في الصلاة وصح عن ابن الأثير وله حكم المرفوع التقنع من أخلاق الأنبياء وفي حديث إطلاق أن التقنع بالليل ريبة ويتعين حمله على حال يتأتى فيه ذلك لما صرح به كلام أئمتنا وغيرهم أنه سنة لنحو الصلاة ولو ليلا حيث لا ريبة ، وجاء أن ابن مسعود عثمان رضي الله عنه خرج ليلا متقنعا وفي آخر ما يقتضي أن التطيلس لا يسن للمعتكف في المسجد وليس مرادا بل هو للمعتكف آكد ؛ لأن المقصود من الاعتكاف الخلوة عن الناس ، وسيأتي أن الطيلسان الخلوة الصغرى ويأتي في الشهادات ما يعلم منه أن محل سنية التطيلس إذا لم تنخرم به مروءته وإلا كلبس سوقي طيلسان فقيه كره له واختلت مروءته به ، [ ص: 39 ] ولا ينافيه تعميمهم ندبه لنحو الصلاة ؛ لأنا لا نطلق منعه ، وإنما الذي نمنع منه كونه بكيفية لا تليق به كما أشاروا إليه بقولهم طيلسان فقيه ، فإذا أراد السنة لبسه بكيفية تليق به وهذا واضح ، وإن لم يصرحوا به بل ربما يفهم من إطلاقهم أنه لا يندب له مطلقا ، وقد تختل المروءة بترك التطيلس فيكره تركه بل يحرم إن كان متحملا لشهادة ؛ لأنها حق للغير فيحرم التسبب إلى ما يبطله ، وتوقف الإمام في كون تركه يخرمها بالغوا في رده ، وفي حديث لا يتقنع إلا من استكمل الحكمة في قوله وفعله ، وأخذ العلماء مما ذكر أنه ينبغي أن يكون للعلماء شعار مختص بهم ليعرفوا فيسألوا وليتمثل ما أمروا به أو نهوا عنه ، كما وقع لابن عبد السلام أنهم لم يمتثلوا قوله حتى تحلل ولبس شعار العلماء ، فلبسه - وإن خالف الوارد السابق فيه - لهذا القصد سنة أي سنة بل واجب إن توقف عليه إزالة منكر ، فيها صلاح الباطن والظاهر كالاستحياء من الله والخوف منه إذ تغطية الرأس شأن الخائف الآبق الذي لا ناصر له ولا معيذ ، وكجمعه للفكر لكونه يغطي كثيرا من الوجه أو أكثره فيندفع عن صاحبه مفاسد كثيرة كنظر معصية وما يلجئ إلى نحو غيبة ، ويجتمع همه فيحضر قلبه مع ربه ويمتلئ بشهوده وذكره وتصان جوارحه عن المخالفات ونفسه عن الشهوات وهذا كله مما يثابر عليه العلماء والصوفية معا ، ولقد كان من مشايخنا الصوفية من يلازمه لذلك فيظهر عليه من أنواع الجلالة وأنوار المهابة والاستغراق والشهود ما يبهر ويقهر وبهذا يتضح قول الصوفية الطيلسان الخلوة الصغرى . ، وللطيلسان فوائد كثيرة جليلة