الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                              صفحة جزء
                                                                                                                              ( فصل ) في تعلق الدين بالتركة ( من مات وعليه دين ) لله تعالى أو لآدمي غير الوارث قل أو كثر ما عدا لقطة تملكها ؛ لأن صاحبها قد لا يظهر فيلزم دوام الحجر لا إلى غاية وألحق بها ما إذا انقطع خبر صاحب الدين لذلك وقد يفرق بأن شغل الذمة في اللقطة أخف ، ومن ثم صرح في شرح مسلم بأنه لا مطالبة بها في الآخرة ؛ لأن الشارع جعلها من جملة كسبه بخلاف الدين ولا يلزم فيه ذلك لإمكان رفع أمره للقاضي الأمين فإنه نائب الغائبين نعم قبوله لا يلزمه فلو امتنع منه أو لم يكن ثم قاض أمين ودام انقطاع خبر الدائن اتجه ذلك الإلحاق بعض الاتجاه ثم رأيت الإسنوي صرح بأنها لا تكون مرتهنة بدين من أيس من معرفة صاحبه وفيه نظر بل هو غفلة عما في الروضة أن ما أيس من معرفة صاحبه يصير من أموال بيت المال وحينئذ فرهن التركة باق فللوارث ومن عليه دين كذلك رفع الأمر لقاض أمين ليأذن في البيع والدفع إن لم يفعلهما بنفسه لمتولي بيت المال العادل وإلا فلقاض أمين أو ثقة عارف أخذه ليصرفه في مصارفه أو يتولى الوارث ذلك إن عرفه ويغتفر اتحاد القابض والمقبض هنا للضرورة وبما تقرر علم أنه ليس لوارث ولا وصي إفراز قدر الدين الذي للغائب ثم التصرف في الباقي لما علمت أن القاضي الأمين نائبه فلا يستقل غيره بشيء من حقوقه حتى يتحقق الضرورة لفقد الأمين وخوف تلف التركة فحينئذ لا يبعد تخريج ما هنا على مال نحو يتيم لا ولي له خاص [ ص: 111 ] وخشي من القائم عليه فإن التصرف فيه يتولاه من يأتي للضرورة على مسألة التحكيم الآتية في النكاح ؛ لأن الضرورة إذا أثبتت الولاية فيه لغير ولي مع تميزه بمزيد احتياط فما هنا أولى وكالدين فيما ذكر الوصية المطلقة فيمتنع التصرف في قدر الثلث وكذا التي بعين معينة فيمتنع فيما يحتمله الثلث منها كذا قيل والقياس امتناع التصرف في الأولى في الكل وفي الثانية في تلك العين فقط حتى يرد الموصى له أو يمتنع من القبول كما يعلم ذلك كله مما يأتي في الوصية .

                                                                                                                              وللموصي له فداء الموصى به كالوارث كما هو ظاهر ( تعلق بتركته ) الزائدة على مؤن التجهيز التي لم ترهن في الحياة لكن معنى عدم تعلق غير المرهون به أنه لا يزاحمه لانتفاء أصل التعلق لو زادت قيمته أو أبرأ مستحقه كما هو ظاهر ، فإن رهن بعضها تعلق الدين بباقيها أيضا على الأوجه خلافا لجمع ولا بعد في تعلق شيء واحد بخاص وعام وإن وفى به الرهن ؛ لأنه ربما تلف فتبقى ذمة الميت مرهونة هذا ما اقتضاه إطلاقهم وهو وجيه وإن قال البلقيني أقرب منه أن من له دين به رهن يفي به بعيد عن التلف لا يتعلق بباقي التركة فللوارث التصرف فيه وفي كلام السبكي ما يشهد لذلك ومن ثم اعتمده جمع متأخرون وسيأتي بيان التركة أول الفرائض وأفتى بعضهم بأنه ليس منها منفعة عين أوصى له بها أبدا ؛ لأنه يقدر انتقالها لوارثه بالموت ا هـ وفيه نظر .

                                                                                                                              وما المحوج إلى هذا التقدير نعم إن كان الفرض أن الموصى له مات قبل القبول فممكن ؛ لأنه حال موته لا ملك له فيها فإذا قبل وارثه بعد ذلك لم يتعلق بها الدين ؛ لأنها حينئذ تنزل منزلة كسب الوارث لكن صريح ما يأتي في مبحث قبول الوارث للوصية أنه لا فرق في تعلق الدين بما قبله بين العين والمنفعة وتوهم فرق بينهما لا يجدي ؛ لأن ملحظ التعلق أن ملك الوارث إنما هو بطريق التلقي عن مورثه الموصى له لا غير ( تعلقه بالمرهون ) .

                                                                                                                              وإن ملكها الوارث كما يأتي أو أذن له الدائن في أن يتصرف فيها لنفسه كما اقتضاه إطلاقهم وذلك ؛ لأنه أحوط للميت وأقرب لبراءة ذمته ؛ إذ يمتنع على هذا تصرف الوارث فيها جزما بخلافه على ما بعده واغتفرت هنا جهالة المرهون به لكون الرهن من جهة الشرع وشمل كلامهم من مات وفي ذمته حج فيحجر على الوارث [ ص: 112 ] حتى يتم الحج عنه وبذلك أفتى بعضهم وأفتى بعض آخر بأنه بالاستئجار وتسليم الأجرة للأجير ينفك الحجر وفيه نظر لبقاء التعلق بذمته بعد ولو باع لقضاء الدين بإذن الغرماء لا بعضهم إلا إن غاب وأذن الحاكم عنه بثمن المثل صح وكان الثمن رهنا رعاية لبراءة ذمة الميت ؛ إذ لا تبرأ إلا بالأداء أو التحمل السابق آخر الجنائز أو إبراء الدائن .

                                                                                                                              وعلى ذلك أعني تقييد النفوذ بإذن الغريم بما إذا كان لوفاء الدين يحمل إطلاق من أطلق صحته بإذنه ولتلك الرعاية أفتى بعضهم بمنع القسمة فيما إذا كانت التركة شائعة مع حصة شريك الميت وإن رضي الدائن قال لما في القسمة من التبعيض وقلة الرغبة كما صرحوا به قال ولا ينافي ذلك ما ذكره الشيخان قبيل رابع أبواب الرهن لما ذكرناه من رعاية حق الميت ا هـ . وقيده غيره بما إذا كانت القسمة بيعا وبما إذا لم تحصل بها الرغبة في اشتراء ما يتميز أي فحينئذ تجوز القسمة لكن برضا الدائن كما هو ظاهر ، وأفتى بعضهم بأنه لا يصح إيجار شيء من التركة لقضاء الدين وإن أذن الغرماء ويوجه بأن فيه ضررا على الميت ببقاء رهن نفسه إلى انقضاء مدة الإجارة .

                                                                                                                              ( وفي قول كتعلق الأرش بالجاني ) ؛ لأن كلا منهما ثبت شرعا بغير رضا المالك ( فعلى الأظهر يستوي الدين المستغرق وغيره ) وما علمه الوارث وما جهله في رهن جميع التركة به فلا يصح تصرف الوارث في شيء منها ولو بالرهن ( في الأصح ) مراعاة لبراءة ذمة الميت كما مر ولأن ما تعلق بالحقوق لا يختلف بالعلم والجهل نعم لو زاد الدين عليها ولم ترهن به في الحياة لم تكن رهنا إلا بقدرها منه كما بحثه السبكي وتبعوه فإذا وفى الوارث ما خصه أو الورثة قدرها انفك في الأول وانفكت في الثاني عن الرهنية ، ويفرق بينها وبين الرهن الجعلي بأنه أقوى من وجه ومما يصرح بذلك قولهم : لو أدى وارث قسط ما ورث انفك نصيبه بخلاف ما لو رهن عينا ثم مات لا ينفك شيء منها إلا بوفاء جميع الدين .

                                                                                                                              ( تنبيه ) اعترض قوله فعلى الأظهر بأن الخلاف يأتي على مقابله وهو تعلق الجناية ورد بأنه وإن تأتى [ ص: 113 ] عليه لكن المرجح عليه التعلق بقدره فقط فخالف المرجح على الأول وحينئذ صح بل تعين قوله فعلى الأظهر نعم ترجيحهم عليه التعلق بالكل هنا قد ينافيه ترجيحهم عليه في الزكاة التعلق بالقدر فقط فسووا بين الجناية والرهن ثم وفرقوا بينهما هنا وقد يوجه بأن ذاك تعلق في الحياة ، وهذا تعلق بعد الموت الموجب لحبس النفس فاقتضت المصلحة على قول الرهن هنا التعلق بالكل ليبادر الوارث ببراءة ذمة الميت ولا كذلك ثم على أن حق الله تعالى من حيث هو يتسامح فيه أكثر أما دين الوارث الحائز فيسقط إن ساوى التركة أو نقص وإلا سقط منه بقدرها ودين أحد الورثة يسقط منه قدر ما يلزمه أداؤه منه لو كان لأجنبي .

                                                                                                                              التالي السابق



                                                                                                                              الخدمات العلمية