وأجيب بأن طلب التمكين من شيء إنما يتضمن طلب رفع الموانع التي في جانب المطلوب منه فقط على ما هو الظاهر لا مطلقا بحيث يشمل ما كان في جانب المطلوب منه وما كان في جانب الطالب، ويرشد إلى ذلك أن قولك: لم يمكني زيد من قتل عمرو مثلا ظاهر في أنه حال بينك وبين قتله مع تهيئك له وارتفاع الموانع التي من قبلك عنه، فكأن موسى عليه السلام لما كلمه ربه هاج به الشوق إلى الرؤية كما قال لأن عدو الله إبليس غاص في الأرض حتى خرج من بين قدميه فوسوس إليه أن مكلمك شيطان، فعند ذلك سألها كما قال الحسن: وأعوذ بالله من اعتقاده فذهل عن نفسه وما فيها من الموانع فلم يخطر بباله إلا طلب رفع الموانع عنها من قبل الرب سبحانه، فنبهه جل شأنه بقوله: السدي: لن تراني على وجود المانع فيه عن الرؤية وهو الضعف عن تحملها وأراه ضعف من هو أقوى منه عن ذلك بدك الجبل عند تجليه له، ففائدة الاستدراك على هذا أن يتحقق عنده عليه السلام أنه أضعف من أن يقوم لتجلي الرؤية، وهو على ما هو عليه، ويمكن أن تكون التوبة منه عليه السلام بعد أن أفاق من هذه الغفلة، وحينئذ لا شك أن الجواب (بلن تراني) إلخ مفيد مقنع.
هذا وذكر بعض المحققين أن حاصل الكلام في هذا المقام أن موسى عليه السلام كان عالما بإمكان الرؤية ووقوعها في الدنيا لمن شاء الله تعالى من عباده عقلا، والشروط التي تذكر لها ليست شروطا عقلية وإنما هي شروط عادية ولم يكن عالما بعدم الوقوع مع عدم تغير الحال حتى سمع ذلك من الرب المتعال، وليس في عدم العلم بما ذكر نقص في مرتبته عليه السلام؛ لأنه من الأمور الموقوفة على السمع، والجهل بالأمور السمعية لا يعد نقصا، فقد صح أن أعلم الخلق على الإطلاق نبينا صلى الله تعالى عليه وسلم سئل عن أشياء فقال: سأسأل جبريل عليه السلام، وأن جبريل عليه السلام سئل فقال: سأسأل رب العزة، وقد قالت الملائكة: سبحانك لا علم لنا إلا ما علمتنا وأن الآية لا تصلح دليلا على امتناع الرؤية على ما يقوله المعتزلة بل دلالتها على إمكانها في الجملة أظهر وأظهر، بل هي ظاهرة في ذلك دون ما يقوله الخصوم وما رواه [ ص: 52 ] عن أبو الشيخ رضي الله تعالى عنهما أنه قال في تفسير: ابن عباس لن تراني : إنه لا يكون ذلك أبدا لا حجة لهم فيه؛ لأنه غير واف بمطلوبهم، مع أن التأبيد فيه بالنسبة إلى عدم تغير الحال كما يدل عليه الخبر المروي عنه سابقا، وكذا ما رواه عنه إذ فيه: يا أبو الشيخ موسى إنه لا يراني أحد فيحيا. قال موسى: رب، إن أراك ثم أموت أحب إلي من أن لا أراك ثم أحيا، وما ذكره عن الأشياخ أنهم قالوا: إنه تعالى يرى بلا كيف هو المشهور. الزمخشري
ونقل المناوي أن الكمال بن الهمام سئل عما رواه وغيره عن الدارقطني من قوله صلى الله تعالى عليه وسلم: أنس بناء على حمل الرؤية في اليقظة فأجاب بأن هذا حجاب الصورة. انتهى. وهو التجلي الصوري الشائع عند الصوفية، ومنه عندهم تجلي الله تعالى في الشجرة «رأيت ربي في أحسن صورة» لموسى عليه السلام، وتجليه جل وعلا للخلق يوم يكشف عن ساق، وهو سبحانه وإن تجلى بالصورة لكنه غير متقيد بها: والله من ورائهم محيط ، والرؤية التي طلبها موسى عليه السلام غير هذه الرؤية، وذكر بعضهم أن موسى كان يرى الله تعالى إلا أنه لم يعلم أن ما رآه هو - هو - وعلى هذا الطرز يحمل ما جاء في بعض الروايات المطعون بها: رأيت ربي في صورة شاب. وفي بعضها زيادة: له نعلان من ذهب، ومن الناس من حمل الرؤية في رواية على الرؤية المنامية، وظاهر كلام الدارقطني السيوطي أن الكيفية فيها لا تضر وهو الذي سمعته من المشايخ قدس الله تعالى أسرارهم، والمسألة خلافية، وإذا صح ما قاله المشايخ وأفهمه كلام السيوطي فأنا -ولله تعالى الحمد- قد رأيت ربي مناما ثلاث مرات، وكانت المرة الثالثة في السنة السادسة والأربعين والمائتين والألف بعد الهجرة، رأيته جل شأنه وله من النور ما له متوجها جهة المشرق فكلمني بكلمات أنسيتها حين استيقظت، ورأيت مرة في منام طويل كأني في الجنة بين يديه تعالى وبيني وبينه ستر حبيك بلؤلؤ مختلف ألوانه، فأمر سبحانه أن يذهب بي إلى مقام عيسى عليه السلام ثم مقام محمد صلى الله تعالى عليه وسلم فذهب بي إليهما فرأيت ما رأيت. ولله تعالى الفضل والمنة.
ومنهم من حمل الصورة على ما به التميز والمراد بها ذاته تعالى المخصوصة المنزهة عن مماثلة ما عداه من الأشياء البالغة إلى أقصى مراتب الكمال، وما ذكره من البيتين لبعض العدلية فهو في ذلك عثيثة تقرم جلدا أملسا. والقول ما قاله تاج الدين السبكي فيهم:
عجبا لقوم ظالمين تلقبوا بالعدل ما فيهم لعمري معرفه
قد جاءهم من حيث لا يدرونه تعطيل ذات الله مع نفي الصفةوتلقبوا عدلية قلنا نعم عدلوا بربهم فحسبهم سفه
وقال ابن المنير:
وجماعة كفروا برؤية ربهم هذا ووعد الله ما لن يخلفه
وتنعتوا الناجين كلا إنهم إن لم يكونوا في لظى فعلى شفه
وبعد هذا كله نقول: إن الناس قد اختلفوا في أن موسى عليه السلام هل رأى ربه بعد هذا الطلب أم لا، فذهب أكثر الجماعة إلى أنه عليه السلام لم يره لا قبل الصعق ولا بعده. وقال الشيخ الأكبر قدس سره: إنه رآه بعد الصعق وكان الصعق موتا، وذكر قدس سره أنه سأل موسى عن ذلك فأجابه بما ذكر، والآية عندي [ ص: 53 ] غير ظاهرة في ذلك، وإلى الرؤية بعد الصعق ذهب القطب الرازي في تقرير كلام إلا أن ذلك على احتمال أن تفسر بالانكشاف التام الذي لا يحصل إلا إذا كانت النفس فانية مقطوعة النظر عن وجودها فضلا عن وجود الغير فإنه قال: إن للزمخشري، موسى عليه السلام لما طلب هذه المرتبة من الانكشاف وعبر عن نفسه (بأنا) دل على أن نظره كان باقيا على نفسه، وهي لا تكون كذلك إلا متعلقة بالعلائق الجسمانية مشوبة بالشوائب المادية، لا جرم منع عنه هذه المرتبة، وأشير إلى أن منعها إنما كان لأجل بقاء أنا وأنت في قوله: أرني ولن تراني، ثم لما لم يرد حرمانه عن حصول هذه المرتبة مع استعداده وتأهله لها علم طريق المعرفة بقوله سبحانه: ولكن انظر إلى الجبل فإن الجبل مع عدم تعلقه لما لم يطق نظرة من نظرات التجلي فموسى عليه السلام مع تعلقه كيف يطيق ذلك، فلما أدرك الرمز خر صعقا مغشيا عليه متجردا عن العلائق فانيا عن نفسه، فحصل له المطلوب، فلما أفاق علم أن طلبه الرؤية في تلك الحالة التي كان عليها كان سوء أدب فتاب عنه.
وذهب الشيخ إبراهيم الكوراني إلى أنه عليه السلام رأى ربه سبحانه حقيقة قبل الصعق فصعق لذلك كما دك الجبل للتجلي، وأيده بما أخرج عن أبو الشيخ، عن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم قال: أبي هريرة، لموسى عليه السلام كان يبصر دبيب النملة على الصفا في الليلة الظلماء من مسيرة عشرة فراسخ». «لما تجلى الله تعالى
وبما أخرجه عن أبي معشر أنه قال: «مكث موسى عليه السلام أربعين ليلة لا ينظر إليه أحد إلا مات من نور رب العالمين».
وجمع بين هذا وبين قوله صلى الله تعالى عليه وسلم: «إن الله تعالى أعطى موسى الكلام وأعطاني الرؤية، وفضلني بالمقام المحمود والحوض المورود».
بأن الرؤية التي أعطاها لنبينا صلى الله تعالى عليه وسلم هي الرؤية مع الثبات والبقاء من غير صعق، كما أن الكلام الذي أعطاه موسى كذلك بخلاف رؤية موسى عليه السلام فإنها لم تجمع له مع البقاء، وعلى هذا فمعنى قوله عليه الصلاة والسلام في حديث الدجال: هو أن أحدا لا يراه في الدنيا مع البقاء، ولا يجمع له في الدنيا بينهما. «إنه لن يرى أحد منكم ربه حتى يموت».
وفسر الآية بما لا يخلو عن خفاء.
والذاهبون إلى عدم الرؤية مطلقا يجيبون عما ذكره من حديث وخبر أبي هريرة، أبي معشر بأن الثاني ليس فيه أكثر من إثبات سطوع نور الله تعالى على وجه موسى عليه السلام، وليس في ذلك إثبات الرؤية لجواز أن يشرق نور منه تعالى على وجهه عليه السلام من غير رؤية؛ فإنه لا تلازم بين الرؤية وإشراق النور، وبأن الأول ليس نصا في ثبوت الرؤية المطلوبة له عليه السلام؛ لأنها كما قال غير واحد عبارة عن التجلي الذاتي، ولله تعالى تجليات شتى غير ذلك، فلعل التجلي الذي أشار إليه الحديث على تقدير صحة واحد منها، وقد يقطع بذلك فإنه سبحانه تجلى عليه -عليه السلام- بكلامه واصطفائه وقربه منه على الوجه الخاص اللائق به تعالى، ولا يبعد أن يكون هذا سببا لذلك الإبصار، وهذا أولى مما قيل: إن اللام في لموسى للتعليل ومتعلق تجلى محذوف؛ أي: لما تجلى الله تعالى للجبل لأجل إرشاد موسى كان عليه السلام يبصر بسبب إشراق بعض أنواره تعالى عليه حين التجلي للجبل ما يبصر.
تضوع مسكا بطن نعمان إذ مشت به زينب في نسوة خفرات