والطيبي اختار هذا العطف، وأن (من) تبعيضية، و (موعظة) وحدها بدل، والمعنى: كتبنا بعض كل شيء في الألواح من نحو السور والآيات وغيرهما موعظة وكتبنا فيها تفصيل كل شيء يحتاجون إليه من الحلال والحرام ونحو ذلك، وفي ذلك اختصاص الإجمال والتفصيل بالموعظة للإيذان بأن الاهتمام بهذا أشد والعناية بها أتم، ولكونها كذلك كثر مدح النبي صلى الله تعالى عليه وسلم بالبشير النذير، وإشعار بأن الموعظة مما يجب أن يرجع إليه في كل أمر يذكر به، ألا يرى إلى أن أكثر الفواصل التنزيلية والردود على هذا النمط نحو: (أفلا تتقون - أفلا تتذكرون)، وإلى سورة الرحمن كيف أعيد فيها ما أعيد؛ وذلك ليستأنف السامع به ادكارا واتعاظا ويجدد تنبيها واستيقاظا، وأنت تعلم أن البعد الذي أشرنا إليه باق على حاله، وقوله سبحانه: لكل شيء إما متعلق بما عنده أو بمحذوف كما قال وقع صفة له، واختلف في عدد الألواح وفي جوهرها ومقدارها وكاتبها، فقيل: كانت عشرة ألواح، وقيل: لوحين، قال السمين، ويجوز أن يقال في اللغة للوحين ألواح، وأنها كانت من زمرد أخضر، أمر الرب تعالى جبريل عليه السلام فجاء بها من عدن، وروي ذلك عن مجاهد، وأخرج الزجاج: عن أبو الشيخ قال: أخبرت أن الألواح كانت من زبرجد، وعن ابن جريج قال: كانوا يقولون: إنها كانت من ياقوتة، وأنا أقول: إنها كانت من زمرد. سعيد بن جبير
وأخرج وغيره عن ابن أبي حاتم جعفر بن محمد عن أبيه، عن جده، عن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم أنه قال: كانت من سدر الجنة، كان طول اللوح اثني عشر ذراعا». «الألواح التي أنزلت على موسى
وعن أنها كانت من خشب نزلت من السماء، وأن طول كل عشرة أذرع، وقيل: أمر الله تعالى الحسن موسى عليه السلام بقطعها من صخرة صماء لينها له، فقطعها بيده وسقفها بأصابعه، ولا يخفى أن أمثال هذا يحتاج إلى النقل الصحيح وإلا فالسكوت أولى؛ إذ ليس في الآية ما يدل عليه، والمختار عندي أنها من خشب السدر إن صح السند إلى سلسلة الذهب، والمشهور عن أن كاتبها ابن جريج: جبريل عليه السلام كتبها بالقلم الذي كتب به الذكر.
والمروي عن كرم الله تعالى وجهه، علي ومجاهد، وعطاء، وخلق كثير أن الله تعالى كتبها بيده. وجاء أنها كتبت وعكرمة، وموسى عليه السلام يسمع صريف الأقلام التي كتبت بها.
وهو المأثور عن الأمير كرم الله تعالى وجهه. وجاء عن رضي الله تعالى عنهما أنه قال: خلق الله تعالى ابن عمر آدم بيده وخلق جنة عدن بيده، وكتب التوراة بيده، ثم [ ص: 58 ] قال لأشياء كوني فكانت، وأخرج عن عبد بن حميد، وردان بن خالد قال: خلق الله تعالى آدم بيده، وخلق جبريل بيده، وخلق القلم بيده، وخلق عرشه بيده، وكتب الكتاب الذي عنده لا يطلع عليه غيره بيده، وكتب التوراة بيده. وهذا كله من قبيل المتشابه، وفي بعض الآثار أنها كتبت قبل الميقات، وأنزلت على ما قيل وهي سبعون وقر بعير، يقرأ الجزء منه في سنة، لم يقرأها إلا أربعة نفر؛ موسى ويوشع وعزير وعيسى عليهم السلام. ومما كتب فيها كما أخرج عن ابن أبي حاتم، ذكر النبي صلى الله تعالى عليه وسلم وذكر أمته وما ادخر لهم عنده، وما يسر عليهم في دينهم، وما وسع عليهم فيما أحل لهم حتى إنه جاء أن ابن عباس: موسى عليه السلام عجب من الخير الذي أعطاه الله تعالى محمدا صلى الله تعالى عليه وسلم وأمته وتمنى أن يكون منهم.
وأخرج ابن مردويه، في الحلية وغيرهما، عن وأبو نعيم قال: سمعت رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم يقول: جابر بن عبد الله «كان فيما أعطى الله تعالى موسى في الألواح: يا موسى، لا تشرك بي شيئا؛ فقد حق القول مني لتلفحن وجوه المشركين النار، واشكر لي ولوالديك أقك المتالف، وأنسئك في عمرك، وأحيك حياة طيبة، وأقلبك إلى خير منها، ولا تقتل النفس التي حرم الله تعالى إلا بالحق فتضيق عليك الأرض برحبها، والسماء بأقطارها، وتبوء بسخطي والنار، ولا تحلف باسمي كاذبا ولا آثما؛ فإني لا أطهر ولا أزكي من لم ينزهني ويعظم أسمائي، ولا تحسد الناس على ما أعطيتهم من فضلي، ولا تنفس عليه نعمتي ورزقي؛ فإن الحاسد عدو نعمتي، راد لقضائي، ساخط لقسمتي التي أقسم بين عبادي، ومن يكون كذلك فلست منه وليس مني، ولا تشهد بما لم يع سمعك، ويحفظ عقلك، ويعقد عليه قلبك؛ فإني واقف أهل الشهادات على شهاداتهم يوم القيامة، ثم سائلهم عنها سؤالا حثيثا، ولا تزن ولا تسرق، ولا تزن بحليلة جارك فأحجب عنك وجهي وتغلق عنك أبواب السماء، وأحب للناس ما تحب لنفسك، ولا تذبحن لغيري؛ فإني لا أقبل من القربان إلا ما ذكر عليه اسمي وكان خالصا لوجهي، وتفرغ لي يوم السبت وفرغ لي نفسك وجميع أهل بيتك، ثم قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم: إن الله تعالى جعل السبت لموسى عليه السلام عيدا، واختار لنا الجمعة فجعلها عيدا».
فخذها بقوة أي: بجد وحزم، قال رضي الله تعالى عنهما: والجملة على إضمار القول عطفا على: ( كتبنا ) وحذف القول كثير مطرد، والداعي لهذا التقدير كما قال العلامة الثاني رعاية المناسبة ل ( كتبنا له ) لأنه جاء على الغيبة، ولو كان بدله كتبنا لك لم يحتج إلى تقدير، وأما حديث عطف الإنشاء على الأخبار فلا ضير فيه؛ لأنه يجوز إذا كان بالفاء. ابن عباس
وقيل: هو بدل من قوله سبحانه: فخذ ما آتيتك وضعف بأن فيه الفصل بأجنبي وهو جملة كتبنا المعطوفة على جملة: (قال)، وهو تفكيك للنظم، والضمير المنصوب للألواح أو لكل شيء فإنه بمعنى الأشياء، والعموم لا يكفي في عود ضمير الجماعة بدون تأويله بالجمع، وجوز عوده للتوراة بقرينة السياق، والقائل بالبدلية جعله عائدا إلى الرسالات، والجار والمجرور متعلق بمحذوف وقع حالا من الفاعل أي: ملتبسا بقوة، وجوز أن يكون حالا من المفعول، أي: ملتبسة بقوة براهينها، والأول أوضح، وأن يكون صفة مفعول مطلق، أي: أخذا بقوة.
وأمر قومك يأخذوا بأحسنها أي: أحسنها، فالباء زائدة كما في قوله:
سود المحاجر لا يقرأن بالسور
ويحتمل أن تكون بالباء أصلية وهو الظاهر، وحينئذ فهي إما متعلقة ب يأخذوا بتضمينه معنى يعملوا، أو هو من الأخذ بمعنى السيرة، ومنه أخذ أخذهم أي: سار سيرهم وتخلق [ ص: 59 ] بخلائقهم كما نقول، وإما متعلقة بمحذوف وقع حالا، ومفعول يأخذوا محذوف؛ أي: أنفسهم كما قيل، والظاهر أنه مجزوم في جواب الأمر فيحتاج إلى تأويل؛ لأنه لا يلزم من أمرهم أخذهم، أي: إن تأمرهم ويوفقهم الله تعالى يأخذوا، وقيل: بتقدير لام الأمر فيه بناء على جواز ذلك بعد أمر من القول أو ما هو بمعناه كما هنا، وإضافة أفعل التفضيل هنا عند غير واحد كإضافته في: زيد أحسن الناس، وهي على المشهور محضة على معنى اللام، وقيل: إنها لفظية، ويوهم صنيع بعضهم أنها على معنى في وليس به، والمعنى بأحسن الأجزاء التي فيها، ومعنى أحسنيتها اشتمالها على الأحسن كالصبر فإنه أحسن بالإضافة إلى الانتصار، أي: مرهم يأخذوا بذلك على طريقة الندب والحث على الأفضل كقوله تعالى: واتبعوا أحسن ما أنزل إليكم أو المعنى بأحسن أحكامها، والمراد به الواجبات؛ فإنها أحسن من المندوبات والمباحات، أو هي والمندوبات على ما قيل فإنها أحسن من المباحات.وقيل: إن الأحسن بمعنى البالغ في الحسن مطلقا لا بالإضافة وهو المأمور به ومقابله المنهي عنه، وإلى هذا يشير كلام حيث قال: أمروا بالخير ونهوا عن الشر وعرفوا ما لهم وما عليهم فقيل: الزجاج وأمر قومك إلخ. فافعل نظيره في قولهم: الصيف أحر من الشتاء. فإنه بمعنى: الصيف في حره أبلغ من الشتاء في برده؛ إذ تفضيل حرارة الصيف على حرارة الشتاء غير مرادة بلا شبهة. ويقال هنا: المأمور به أبلغ في الحسن من المنهي عنه في القبح.
وتفصيل ما في المقام على ما ذكره الدماميني في تعليقه على المصابيح ونقله عنه أن لأفعل أربع حالات: إحداها: وهي الحالة الأصلية: أن يدل على ثلاثة أمور: الأول اتصاف من هو له بالحدث الذي اشتق منه، وبهذا كان وصفا، الثاني: مشاركة مصحوبة في تلك الصفة، الثالث: مزية مرصوفة على مصحوبة فيها، وبكل من هذين الأمرين فارق غيره من الصفات، وثانيتها: أن يخلع عنه ما امتاز به من الصفات ويتجرد للمعنى الوصفي، وثالثتها: أن تبقى عليه معانيه الثلاثة ولكن يخلع عنه قيد المعنى الثاني، ويخلفه قيد آخر، وذلك أن المعنى الثاني وهو الاشتراك كان مقيدا بتلك الصفة التي هي المعنى الأول، فيصير مقيدا بالزيادة التي هي المعنى الثالث، ألا ترى أن المعنى في قولهم: العسل أحلى من الخل؛ أن للعسل حلاوة وأن تلك الحلاوة ذات زيادة، وأن زيادة حلاوة العسل أكثر من زيادة حموضة الخل، وقد قال ذلك الشهاب ابن هشام في حواشي التسهيل وهو بديع جدا، ورابعتها: أن يخلع عنه المعنى الثاني وهو المشاركة، وقيد المعنى الثالث وهو كون الزيادة على مصاحبه فيكون للدلالة على الاتصاف بالحدث وعلى زيادة مطلقة لا مقيدة؛ وذلك في نحو: يوسف أحسن إخوته. انتهى.
وعدم اشتراك المأمور به والمنهي عنه في الحسن المراد مما لا شبهة فيه وإن كان الحسن مطلقا كما في البحر مشتركا فإن المأمور به أحسن من حيث الامتثال وترتب الثواب عليه، والمنهي عنه حسن باعتبار الملاذ والشهوة. وقال قطرب كما نقله عنه محيي السنة: المعنى: يأخذوا بحسنها وكلها حسن، وهو ظاهر في حمل أفعل على الحالة الثانية، وقيل: المعنى: يأخذوا بها وأحسن صلة. وليس له من القبول عائد. وقال المراد: يأخذوا بالناسخ دون المنسوخ، وقيل: الأخذ بالأحسن هو أن تحمل الكلمة المحتملة لمعنيين أو لمعان على أشبه محتملاتها بالحق وأقربها للصواب، ولا ينبغي أن يحمل الأخذ على الشروع كما في قولك: أخذ زيد يتكلم. أي: شرع في الكلام، والأحسن على العقائد فيكون المراد أمرهم ليشرعوا بالتحلي بالعقائد الحقة، وهي -لكونها أصول الدين وموقوفة عليها صحة الأعمال- أحسن من غيرها من الفروع وهو متضمن لأمرهم بجميع ما فيها كما لا يخفى فإن أخذ [ ص: 60 ] بالمعنى المعني من أفعال الشروع ليس هذا استعمالها المعهود في كلامهم على أن فيه بعد ما فيه، ومثل هذا كون ضمير أحسنها عائدا إلى قوة على معنى مرهم يأخذوها بأحسن قوة وعزيمة، فيكون أمرا منه سبحانه أن يأمرهم بأخذها كما أمره به ربه سبحانه إلا أنه تعالى اكتفى في أمره عن ذكر الأحسن بما أشار إليه التنوين؛ فإن ذلك خلاف المأثور المنساق إلى الفهم مع أنا لم نجد في كلامهم أحسن قوة، ومفعول يأخذوا عليه محذوف كما في بعض الاحتمالات السابقة غير أنه فرق ظاهر بين ما هنا وما هناك. الجبائي:
سأريكم دار الفاسقين توكيد لأمر القوم بالأخذ بالأحسن وبعث عليه على نهج الوعيد والترهيب بناء على ما روي عن قتادة وعطية العوفي من أن المراد بدار الفاسقين دار فرعون وقومه بمصر، ورأى بصرية، وجوز أن تكون علمية والمفعول الثالث محذوف، أي: سأريكم إياها خاوية على عروشها لتعتبروا وتجدوا ولا تهاونوا في امتثال الأمر ولا تعملوا أعمال أهلها ليحل بكم ما حل بهم، وفيه التفات من الغيبة إلى الخطاب، وحسن موقعه قصد المبالغة في الحث وفي وضع الإراءة موضع الاعتبار إقامة السبب مقام المسبب مبالغة أيضا كقوله تعالى: قل سيروا في الأرض فانظروا كيف كان عاقبة المجرمين وفي وضع (دار الفاسقين) موضع أرض مصر الإشعار بالعلية والتنبيه على أن يحترزوا ولا يستنوا بسنتهم من الفسق، والسين للاستقبال؛ لأن ذلك قبل الرجوع إلى مصر كما في الكشف.
وقال المراد بدار الفاسقين منازل الكلبي: عاد وثمود والقرون الذين هلكوا، وعن الحسن أن المراد بها جهنم، وأيا ما كان فالكلام على النهج الأول أيضا، ويجوز أن يكون على نهج الوعد والترغيب بناء على ما روي عن وعطاء أيضا من أن المراد بدار الفاسقين أرض الجبابرة والعمالقة قتادة، بالشام؛ فإنها مما أبيح لبني إسرائيل وكتب لهم حسبما ينطق به قوله عز وجل: يا قوم ادخلوا الأرض المقدسة التي كتب الله لكم ومعنى الإراءة الإدخال بطريق الإيراث، ويؤيده قراءة بعضهم: (سأورثكم) وجوز على هذا أن يراد بالدار مصر، وفي الكلام على هذه القراءة وإرادة أرض مصر من الدار تغليب؛ لأن المعنى: سأورثك وقومك أرض مصر، ولا يصح ذلك عليها إذا أريد من الدار أرض الجبابرة بناء على أن موسى عليه السلام لم يدخلها، وإنما دخلها مع القوم بعد وفاته عليه السلام، ويصح بناء على القول بأن موسى عليه السلام دخلها ويوشع على مقدمته، وجوز اعتبار التغليب على القراءة المشهورة أيضا، وقرأ (سأوريكم) بضم الهمزة وواو ساكنة وراء خفيفة مكسورة وهي لغة فاشية في الحسن: الحجاز، والمعنى: سأبين لكم ذلك وأنوره على أنه من أوريت الزند، واختار في تخريج هذه القراءة -ولعله الأظهر- أنها على الإشباع كقوله: ابن جني
من حيثما سلكوا ادنوا فانظروا