[ ص: 72 ]
منا الذي اختير الرجال سماحة وجودا إذا هب الرياح الزعازع
وقوله الآخر:فقلت له اخترها قلوصا سمينة ونابا علا بأمثل نابك في الحيا
قوله سبحانه: سبعين رجلا مفعول أول ل اختار على المختار، وأخر عن الثاني لما مر مرارا، وقيل: بدل بعض من كل، ومنعه الأكثرون بناء على أن البدل منه في نية الطرح، والاختيار لا بد له من مختار ومختار منه، وبالطرح يسقط الثاني، وجوزه على ضعف، ويكون التقدير: سبعين منهم، وقيل: هو عطف بيان ( لميقاتنا ) ذهب أبو البقاء أبو علي وأبو مسلم وغيرهما من مفسري السنة والشيعة إلى أنه الميقات الأول وهو الميقات الكلامي قالوا: إنه عليه السلام اختار لذلك من اثني عشر سبطا من كل سبط ستة حتى تتاموا اثنين وسبعين فقال عليه السلام: ليتخلف منكم رجلان، فتشاحوا فقال:
لمن قعد منكم مثل أجر من خرج، فقعد كالب ويوشع، وروي أنه لم يصب إلا ستين شيخا، فأوحى الله تعالى أن يختار من الشبان عشرة، فاختارهم فأصبحوا شيوخا، وقيل: كانوا أبناء ما عدا العشرين ولم يتجاوزوا الأربعين، فذهب عنهم الجهل والصبا، فأمرهم موسى عليه السلام أن يصوموا ويتطهروا ويطهروا ثيابهم، ثم خرج بهم إلى طور سيناء، فلما دنا من الجبل وقع عليه عمود الغمام حتى تغشى الجبل كله، ودنا موسى ودخل فيه، وقال للقوم: ادنوا. فدنوا حتى إذا دخلوا الغمام وقعوا سجدا فسمعوه وهو سبحانه يكلم موسى يأمره وينهاه؛ افعل ولا تفعل، ثم انكشف الغمام فأقبلوا إليه فطلبوا الرؤية فوعظهم وكان ما كان. وذهب آخرون وهو المروي عن إلى أنه غير الميقات الأول قالوا: إن الله سبحانه أمر الحسن، موسى عليه السلام أن يأتيه في أناس من بني إسرائيل يعتذرون إليه من عبادة العجل فاختار من اختاره، فلما أتوا الطور قالوا ما قالوا، وروي ذلك عن وعن السدي، أنه عليه السلام إنما اختارهم ليتوبوا إلى الله تعالى ويسألوه التوبة على من تركوا وراءهم من قومهم. ورجح ذلك ابن إسحاق الطيبي مدعيا أن الأول خلاف نظم الآيات وأقوال المفسرين، أما الأول فلما قال الإمام: إنه تعالى ذكر قصة ميقات الكلام وطلب الرؤية ثم أتبعها بقصة العجل وما يتصل بها فظاهر الحال أن تكون هذه القصة مغايرة للمتقدمة؛ إذ لا يليق بالفصاحة ذكر بعض القصة ثم النقل إلى أخرى، ثم الرجوع إلى الأولى، وإنه اضطراب يصان عنه كلامه تعالى، وأيضا ذكر في الأولى خرور موسى عليه السلام صعقا، وفي الثانية قوله بعد أخذ الرجفة: لو شئت أهلكتهم وأيضا لو كانت الرجفة بسبب طلب الرؤية لقيل: أتهلكنا بما قال السفهاء، وضم إليه الطيبي أنه تعالى حيث ذكر صاعقتهم لم يذكر صعق موسى عليه السلام وبالعكس فدل على التغاير، وأما الثاني فلما نقل عن مما ذكرناه آنفا، وتعقب ما ذكر في الترجيح أولا صاحب الكشف بأن الإنصاف أن المجموع قصة واحدة في شأن ما من على بني إسرائيل بعد إنجائهم من تحقيق وعد إيتاء الكتاب وضرب ميقاته وعبادة العجل وطلب الرؤية كان في تلك الأيام، وفي ذلك الشأن فالبعض مربوط بالبعض بقي إيثار هذا الأسلوب وهو بين لأن الأول في شأن الامتنان عليهم وتفضيلهم، كيف وقد عطف (واعدنا) على (أنجيناكم)، وقد بين أنه تبيين للتفضيل، وتعقيب حديث الرؤية مستطرد للفرق بين الطلبين عندنا وليلقمهم الحجر عند المعتزلي. والثاني في شأن جنايتهم بعد ذلك الإحسان البالغ باتخاذ العجل والملاحة والافتراق من لوازم النظم، وتعقب ما ذكر فيه ثانيا بأن قول السدي وحده لا يصلح ردا، كيف وهذا يخالف ما نقله محيي السنة في قوله سبحانه: [ ص: 73 ] السدي لو شئت أهلكتهم إنهم كانوا له وزراء مطيعين، فاشتد عليه -عليه السلام- فقدهم فرحمهم وخاف عليهم الفوت، وأين: ( لن نؤمن لك ) من الطاعة وحسن الاستئزار قال: ثم الظاهر من قوله تعالى: فقالوا أرنا الله جهرة فأخذتهم الصاعقة بظلمهم ثم اتخذوا العجل إن اتخاذ العجل متأخر عن مقالتهم تلك خلاف ما نقل عن والحمل على تراخي الرتبة لا بد له من سند. كيف ولا ينافي التراخي الزماني فلا بد من دليل يخصه به، هذا وقد اعترف المفسرون في سورة طه بأنه اختار سبعين لميقات الكلام ذكروه في قوله تعالى: السدي، وما أعجلك عن قومك يا موسى وما اعتذر عنه الطيبي بأنه اختيار السبعين كان مرتين، وليس في النقل أنهم كانوا معه عند المكالمة وطلب الرؤية، فظاهر للمنصف سقوطه. انتهى.
وذكر القطب في توهين ما نقل عن بأن الخروج للاعتذار إن كان بعد قتل أنفسهم ونزول التوبة فلا معنى للاعتذار، وإن كان قبل قتلهم فالعجب من اعتذار ثمرته قتل الأنفس، ثم قال: ولا ريب أن قصة واحدة تتكرر في القرآن يذكر في سورة بعضها، وفي أخرى بعض آخر، وليس ذلك إلا لتكرار اعتبار المعتبرين بشيء من تلك القصة، فإذا جاز ذكر قصة في سور متعددة في كل سورة شيء منها فلم لا يجوز ذلك في مواضع من سورة واحدة لتكرر الاعتبار. اه، وهو ظاهر في ترجيح ما ذهب إليه الأولون، وأنا أقول: إن القول بأن هذا الميقات هو الميقات الأول ليس بعاطل من القول وبه قال جمع كما أشرنا إليه، وكلامنا في البقرة ظاهر فيه إلا أن الإنصاف أن ظاهر النظم هنا يقتضي أنه غيره وما ذكره صاحب الكشف لا يقتضي أنه ظاهر في خلافه، وإلى القول بالغيرية ذهب جل من المفسرين. السدي:
فقد أخرج من طريق عبد بن حميد، أبي سعد عن أن مجاهد، موسى عليه السلام خرج بالسبعين من قومه يدعون الله تعالى ويسألونه أن يكشف عنهم البلاء فلم يستجب لهم، فعلم موسى أنهم أصابوا من المعصية ما أصاب قومهم.
قال أبو سعد: فحدثني أنه لم يستجب لهم من أجل أنهم لم ينهوهم عن المنكر ولم يأمروهم بالمعروف. محمد بن كعب القرظي
وأخرج عن عبد بن حميد، الفضل بن عيسى ابن أخي الرقاشي أن بني إسرائيل قالوا ذات يوم لموسى عليه السلام: ألست ابن عمنا ومنا؟ وتزعم أنك كلمت رب العزة؟ فإنا لن نؤمن لك حتى نرى الله جهرة فلما أبوا إلا ذلك أوحى الله تعالى إلى موسى أن اختر من قومك سبعين رجلا، فاختار سبعين خيرة ثم قال لهم: اخرجوا، فلما برزوا جاءهم ما لا قبل لهم به. الخبر.
وهو ظاهر في أن هذا الميقات ليس هو الأول. نعم إنه مخالف لما روي عن لكنهما متفقان على القول بالغيرية، ويوافق السدي، في ذلك السدي أيضا، فليس هو متفردا بذلك كما ظنه صاحب الكشف، وما ذكره من مخالفة كلام الحسن لما نقله محيي السنة في حيز المنع، وقوله: فإنا السدي لن نؤمن لك إلخ يظهر جوابه مما ذكرناه في البقرة عند هذه الآية من الاحتمالات، والقول بأن الاختيار كان مرتين غير بعيد وبه قال بعضهم، وما ذكره القطب من الترديد في الخروج للاعتذار ظاهر بعض الروايات عن يقتضي تعين الشق الأول منه. فقد أخرج السدي عنه أنه قال: انطلق ابن أبي حاتم موسى إلى ربه فكلمه فلما كلمه قال: وما أعجلك عن قومك يا موسى فأجابه موسى بما أجابه. فقال سبحانه: فإنا قد فتنا قومك الآية. فرجع موسى إلى قومه غضبان أسفا فأبى الله تعالى أن يقبل توبتهم إلا بالحال التي كرهوا ففعلوا، ثم إن الله تعالى أمر موسى عليه السلام أن يأتيه في ناس من بني إسرائيل يعتذرون من عبادة العجل فوعدهم موعدا فاختار موسى سبعين [ ص: 74 ] رجلا إلخ. وهو كما ترى ظاهر فيما قلناه، والقول بأنه لا معنى للاعتذار بعد قتل أنفسهم ونزول التوبة أجيب عنه بأن المعنى يحتمل أن يكون طلبا لزيادة الرضى واستنزال مزيد الرحمة، ويحتمل أن يكونوا أمروا بذلك تأكيدا للإيذان بعظم الجناية وزيادة فيه وإشارة إلى أنه بلغ مبلغا في السوء لا يكفي في العفو عنه قتل الأنفس، بل لا بد فيه مع ذلك الاعتذار، ويمكن أن يقال: إنه كان قبل قتلهم أنفسهم، والسر في أنهم أمروا به أن يعلموا أيضا عظم الجناية على أتم وجه بعدم قبوله. والله تعالى أعلم.
فلما أخذتهم الرجفة أي الصاعقة أو رجفة الجبل فصعقوا منها، والكثير على أنهم ماتوا جميعا، ثم أحياهم الله تعالى، وقيل: غشي عليهم ثم أفاقوا، وذلك لأنهم قالوا: لن نؤمن لك حتى نرى الله جهرة على ما في بعض الروايات، أو ليتحقق عند القائلين ذلك من قومهم مزيد عظمته سبحانه على ما في البعض الآخر منها، أو لمجرد التأديب على ما في خبر القرظي، والظاهر أن قولهم: لن نؤمن إلخ. صدر منهم في ذلك المكان لا بعد الرجوع كما قيل، ونقلناه في البقرة وحينئذ يبعد على ما قيل القول بأن هذا الميقات هو الميقات الأول؛ لأن فيه طلب موسى عليه السلام الرؤية بعد كلام الله تعالى له من غير فصل على ما هو الظاهر فيكون هذا الطلب بعده، وبعيد أن يطلبوا ذلك بعد أن رأوا ما وقع لموسى عليه السلام.
وما أخرجه ابن أبي الدنيا وغيرهما عن وابن جرير، أنه قال: لما حضر أجل علي كرم الله تعالى وجهه هارون أوحى الله تعالى إلى موسى عليه السلام أن انطلق أنت وهارون وابنه إلى غار في الجبل؛ فإنا قابضو روحه، فانطلقوا جميعا فدخلوا الغار فإذا سرير فاضطجع عليه موسى ثم قام عنه فقال: ما أحسن هذا المكان يا هارون، فاضطجع عليه هارون فقبض روحه، فرجع موسى وابن أخيه إلى بني إسرائيل حزينين فقالوا له: أين هارون؟ قال: مات. قالوا: بل قتلته، كنت تعلم أنا نحبه. فقال لهم: ويلكم، أقتل أخي وقد سألته الله تعالى وزيرا، ولو أني أردت قتله أكان ابنه يدعني. قالوا: بلى قتلته حسدا. قال: فاختاروا سبعين رجلا فانطلق بهم فمرض رجلان في الطريق فخط عليهما خطا، فانطلق هو وابن هارون وبنو إسرائيل حتى انتهوا إلى هارون فقال: يا هارون، من قتلك؟ قال: لم يقتلني أحد ولكني مت. قالوا: ما تعصى يا موسى، ادع لنا ربك يجعلنا أنبياء، فأخذتهم الرجفة فصعقوا وصعق الرجلان اللذان خلفوا، وقام موسى عليه السلام يدعو ربه فأحياهم الله تعالى فرجعوا إلى قومهم أنبياء، لا يكاد يصح فيما أرى لتظافر الآثار بخلافه وإباء ظواهر الآيات عنه.
قال رب لو شئت أهلكتهم من قبل عرض للعفو السابق لاستجلاب العفو اللاحق، يعني أنك قدرت على إهلاكهم قبل ذلك بحمل فرعون على إهلاكهم وبإغراقهم في البحر وغيرهما، فترحمت عليهم ولم تهلكهم فارحمهم الآن كما رحمتهم من قبل جريا على مقتضى كرمك، وإنما قال: وإياي تسليما منه وتواضعا، وقيل: أراد بقوله: ( من قبل ) حين فرطوا في النهي عن عبادة العجل وما فارقوا عبدته حين شاهدوا إصرارهم عليها، أي: لو شئت إهلاكهم بذنوبهم إذ ذاك وإياي أيضا حين طلبت منك الرؤية، وقيل: حين قتل القبطي لأهلكتنا، وقيل: هو تمن منه عليه السلام للإهلاك جميعا بسبب محبته أن لا يرى ما يرى من مخالفتهم له مثلا أو بسبب آخر، وفيه دغدغة. أتهلكنا بما فعل السفهاء منا من العناد وسوء الأدب أو من عبادة العجل، والهمزة إما لإنكار وقوع الإهلاك ثقة بلطف الله عز وجل كما قال أو [ ص: 75 ] للاستعطاف كما قال ابن الأنباري أي: لا تهلكنا، وأيا ما كان فهو من مقول المبرد، موسى عليه السلام كالذي قبله، وقول بعضهم: كان ذلك قاله بعضهم غير ظاهر ولا داعي إليه، والقول بأن الداعي ما فيه من التضجر الذي لا يليق بمقام النبوة لا يخفى ما فيه، ولعل مراد القائل بذلك أن هذا القول من موسى عليه السلام يشبه قول أحد السبعين فكأنه قاله على لسانهم؛ لأنهم الذين أصيبوا بما أصيبوا به دونه فافهم. إن هي إلا فتنتك استئناف مقرر لما قبله، واعتذار عما وقع منهم، وإن نافية، وهي للفتنة المعلومة للسياق، أي: ما الفتنة إلا فتنتك. أي: محنتك وابتلاؤك حيث أسمعتهم كلامك فطمعوا في رؤيتك واتبعوا القياس في غير محله، أو أوجدت في العجل خوارا فزاغوا به.
أخرج عن ابن أبي حاتم، راشد بن سعد أن الله تعالى لما قال لموسى عليه السلام: إن قومك اتخذوا عجلا جسدا له خوار قال: يا رب فمن جعل فيه الروح؟ قال: أنا. قال: فأنت أضللتهم يا رب. قال: يا رأس النبيين، يا أبا الحكماء، إني رأيت ذلك في قلوبهم فيسرته لهم.
ولعل هذا إشارة إلى الاستعداد الأزلي الغير المجعول. وقيل: الضمير راجع على الرجفة؛ أي: ما هي إلا تشديدك التعبد والتكلف علينا بالصبر على ما أنزلته بنا، وروي هذا عن الربيع، وابن جبير وقيل: الضمير لمسألة الإراءة وإن لم تذكر. وأبي العالية،
تضل بها من تشاء وتهدي من تشاء استئناف مبين لحكم الفتنة، وقيل: حال من المضاف إليه أو المضاف. أي: تضل بسببها من تشاء إضلاله بالتجاوز عن الحد أو باتباع المخايل أو بنحو ذلك. وتهدي من تشاء هداه، فيقوى بها إيمانه، وقيل: المعنى: تصيب بهذه الرجفة من تشاء وتصرفها عمن تشاء، وقيل: تضل بترك الصبر على فتنتك وترك الرضا بها من تشاء عن نيل ثوابك ودخول جنتك وتهدي بالرضا لها والصبر عليها من تشاء، وهو كما ترى. أنت ولينا أي: أنت القائم بأمورنا الدنيوية والأخروية لا غيرك. فاغفر لنا ما يترتب عليه مؤاخذتك. وارحمنا بإفاضة آثار الرحمة الدنيوية والأخروية علينا، والفاء لترتيب الدعاء على ما قبله من الولاية؛ لأن من شأن من يلي الأمور ويقوم بها دفع الضر وجلب النفع، وقدم طلب المغفرة على طلب الرحمة؛ لأن التخلية أهم من التحلية، وسؤال المغفرة لنفسه عليه السلام في ضمن سؤالها لمن سألها له مما لا ضير فيه وإن لم يصدر منه نحو ما صدر منه كما لا يخفى، والقول بأن إقدامه عليه السلام على أن يقول: إن هي إلا فتنتك جرأة عظيمة، فطلب من الله تعالى غفرانها والتجاوز عنها مما يأباه السوق عند أرباب الذوق، ولا أظن أن الله تعالى عدد ذلك ذنبا منه ليستغفره عنه، وفي ندائه السابق ما يؤيد ذلك. وأنت خير الغافرين إذ كل غافر سواك إنما يغفر لغرض نفساني؛ كحب الثناء ودفع الضرر، وأنت تغفر لا لطلب عوض، ولا غرض، بل لمحض الفضل والكرم، والجملة اعتراض تذييلي مقرر لما قبل، وتخصيص المغفرة بالذكر لأنها الأهم.
وفسر بعضهم ما ذكر بغفران السيئة وتبديلها بالحسنة ليكون تذييلا ل اغفر وارحم معا.