وكذلك نفصل الآيات أي: ذلك التفصيل البليغ المستتبع للمنافع الجليلة نفصلها لا غير ذلك.
ولعلهم يرجعون عما هم عليه من الإصرار على الباطل نفعل التفصيل المذكور، وقيل: المعنى: ولعلهم يرجعون إلى الميثاق الأول فيذكرونه ويعملون بمقتضاه نفعل ذلك، وأيا ما كان فالواو ابتدائية كالتي قبلها، وجوز أن تكون عاطفة على مقدر؛ أي: ليقفوا على ما فيها من المرغبات والزواجر، أو ليظهر الحق ولعلهم يرجعون، وقيل: إنها سيف خطيب.
هذا (ومن باب الإشارة) قالوا: واسألهم عن القرية أي: عن أهل قرية الجسد، وهم الروح والقلب والنفس الأمارة وتوابعها: التي كانت حاضرة البحر أي: مشرفة على شاطئ بحر البشرية. إذ يعدون في السبت يتجاوزون حدود الله تعالى يوم يحرم عليهم تناول بعض الملاذ النفسانية والعادي من أولئك الأهل إنما هو: النفس الأمارة فإنها في مواسم الطاعات والكف عن الشهوات كشهر رمضان مثلا حريصة على تناول ما نهيت عنه، والمرء حريص على ما منع. إذ تأتيهم حيتانهم وهي الأمور التي نهوا عن تناولها يوم سبتهم الذي أمروا بتعظيمه شرعا قريبة المأخذ ويوم لا يسبتون لا تأتيهم بأن لا يتهيأ لهم ما يريدونه. كذلك نبلوهم نعاملهم معاملة من يختبرهم. بما كانوا يفسقون أي: بسبب فسقهم المستمر طبعا.
قال بعضهم: ما كان ما قص الله تعالى إلا كحال الإسلاميين من أهل زماننا في اجتماع أنواع الحظوظ النفسانية من المطاعم والمشارب والملاهي والمناكح ظاهرة في الأسواق والمحافل في الأيام المعظمة كالأعياد والأوقات المباركة كأوقات زيارة مشاهد الصالحين المعلومة المشهورة بين الناس. وإذ قالت أمة منهم وهي القلب وأتباعه للأمة الواعظة وهي الروح وأتباعها: لم تعظون قوما وهم النفس الأمارة وقواها. الله مهلكهم أو معذبهم عذابا شديدا [ ص: 110 ] على فعلهم؟ قالوا معذرة إلى ربكم أي: نعظهم معذرة إليه تعالى؛ وذلك أنا خلقنا آمرين بالمعروف ناهين عن المنكر فنريد أن نقضي ما علينا ليظهر أنا ما تغيرنا عن أوصافنا. ولعلهم يتقون لأنهم قابلون لذلك بحسب الفطرة فلا نيأس من تقواهم. فلما نسوا ما ذكروا به لغلبة الشقوة عليهم. أنجينا الذين ينهون عن السوء وهم الروح والقلب وأتباعهما، فإنهم كلهم نهوا عن ذلك إلا أن بعضهم مل وبعضهم لم يمل. وأخذنا الذين ظلموا بعذاب بئيس أي: شديد؛ وهو عذاب حرمان قبول الفيض. بما كانوا يفسقون أي: بسبب تماديهم على الخروج عن الطاعة. فلما عتوا عن ما نهوا عنه أي: أبوا أن يتركوا ذلك قلنا لهم كونوا قردة خاسئين أي: جعلنا طباعهم كطباعهم؛ وذلك فوق حرمان قبول الفيض. وإذ تأذن ربك أي: أقسم ليبعثن عليهم إلى يوم القيامة أي: قيامتهم من يسومهم وهو التجلي الجلالي سوء العذاب وهو عذاب القهر وذل اتباع الشهوات وقطعناهم أي: فرقنا بني إسرائيل الروح في الأرض أي: أرض البدن أمما جماعات منهم الصالحون أي الكاملون في الصلاح كالعقل ومنهم دون ذلك فيه كالقلب ومن جعل القلب أكمل من العقل عكس الأمر وبلوناهم بالحسنات والسيئات تجليات الجمال والجلال لعلهم يرجعون بالفناء إلينا فخلف من بعدهم خلف وهي النفس وقواها ورثوا الكتاب وهو ما ألهم الله تعالى العقل والقلب يأخذون عرض هذا الأدنى وهي الشهوات الدنية واللذات الفانية ويجعلون ما ورثوه ذريعة إلى أخذ ذلك ويقولون سيغفر لنا ولا بد لأنا واصلون كاملون، وهذا حال كثير من متصوفة زماننا؛ فإنهم يتهافتون على الشهوات تهافت الفراش على النار ويقولون: إن ذلك لا يضرنا لأنا واصلون.
وحكي عن بعضهم أنه يأكل الحرام الصرف ويقول: إن النفي والإثبات يدفع ضرره وهو خطأ فاحش وضلال بين، أعاذنا الله تعالى وإياكم من ذلك، وأعظم منه اعتقاد حل أكل مثل الميتة من غير عذر شرعي لأحدهم ويقول: كل منا بحر والبحر لا ينجس، ولا يدري هذا الضال أن من يعتقد ذلك أنجس من الكلب والخنزير، ومنهم يحكي عن بعض الكاملين المكملين من أهل الله تعالى ما يؤيد به دعواه وهو كذا لا أصل له وحاشا ذلك الكامل مما نسب إليه حاشا. وإن يأتهم عرض مثله يأخذوه أي: إنهم مصرون على هذا الفعل القبيح. ألم يؤخذ عليهم ميثاق الكتاب الوارد فيما ألهمه الله تعالى العقل والقلب أن لا يقولوا على الله إلا الحق فكيف عدلوا عنه ودرسوا ما فيه مما فيه رشادهم والدار الآخرة المشتملة على اللذات الروحانية خير للذين يتقون عرض هذا الأدنى والذين يمسكون بالكتاب أي: يتمسكون بما ألهمه الله تعالى العقل والقلب من الحكم والمعارف وأقاموا الصلاة ولم يألوا جهدا في الطاعة إنا لا نضيع أجر المصلحين منهم وأجرهم متفاوت حسب تفاوت الصلاح حتى إنه ليصل إلى ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر. وإذ نتقنا الجبل فوقهم وهو جبل الأمر الرباني والقهر الإلهي كأنه ظلة غمامة عظيمة وظنوا أنه واقع بهم إن لم يقبلوا أحكام الله سبحانه خذوا ما آتيناكم بقوة بجد وعزيمة واذكروا ما فيه من الأسرار لعلكم تتقون تنتظمون في سلك المتقين على اختلاف مراتب تقواهم.
والكلام على قوله سبحانه: وإذ أخذ ربك إلخ من هذا الباب يغني عنه ما ذكرناه خلال تفسيره من كلام أهل الله تعالى قدس الله تعالى أسرارهم خلا أنه ذكر بعضهم أن أول ذرة أجابت ببلى ذرة النبي صلى الله تعالى عليه وسلم وكذا [ ص: 111 ] هي أول مجيب من الأرض لما خاطب الله سبحانه السموات والأرض بقوله جل وعلا: ائتيا طوعا أو كرها قالتا أتينا طائعين وكانت من تربة الكعبة وهي أول ما خلق من الأرض، ومنها دحيت كما جاء عن رضي الله تعالى عنهما، وكان يقتضي ذلك أن يكون مدفنه صلى الله تعالى عليه وسلم بمكة حيث كانت تربته الشريفة منها. ابن عباس
وقد رووا أن المرء يدفن حيث كانت تربته.
ولكن قيل: إن الماء لما تموج رمى الزبد إلى النواحي فوقعت ذرة النبي صلى الله تعالى عليه وسلم إلى ما يحاذي مدفنه الكريم بالمدينة، ويستفاد من هذا الكلام أنه عليه الصلاة والسلام هو الأصل في التكوين والكائنات تبع له صلى الله تعالى عليه وسلم. قيل:
ولكون ذرته أم الخليقة سمي أميا، وذكر بعضهم أن الباء لكونه أول حرف فتحت الذرة به فمها حين تكلمت لم تزل الأطفال في هذه النشأة ينطقون به في أول أمرهم ولا بدع فكل مولود يولد على الفطرة، قيل: ولعظم ما أودع الله سبحانه وتعالى في الباء من الأسرار افتتح الله تعالى به كتابه بل افتتح كل سورة به لتقدم البسملة المفتتحة به على كل سورة ما عدا التوبة، وافتتاحها ببراءة وأول هذه اللفظة الباء أيضا، ولكون الهمزة وتسمى ألفا أول حرف قرع أسماعهم في ذلك المشهد كان أول الحروف لكنه لم يظهر في البسملة لسر أشرنا إليه أول الكتاب، والله تعالى الهادي إلى صوب الصواب