ثم إنه سبحانه وتعالى لما بالغ في تهديد الملحدين المعرضين الغافلين عن آياته والإيمان برسوله عليه الصلاة والسلام عقب ذلك على ما قيل بالجواب عن شبهتهم وإنكار عدم تفكرهم فقال عز من قائل: أولم يتفكروا ما بصاحبهم من جنة .
فالهمزة للإنكار والتوبيخ، والواو للعطف على مقدر يستدعيه السياق والسباق، والخلاف في مثل هذا التركيب مشهور، وقد تقدمت الإشارة إليه.
و (ما) قال تحتمل أن تكون استفهامية إنكارية في محل الرفع بالابتداء والخبر بصاحبهم، وأن تكون نافية اسمها (جنة) وخبرها (بصاحبهم). وجوز أن تكون موصولة، وفيه بعد. والجنة مصدر كالجلسة بمعنى الجنون، وليس المراد به الجن كما في قوله تعالى: أبو البقاء: من الجنة والناس لأنه يحتاج إلى تقدير مضاف أي: مس جنة أو تخبطها، والتنكير للتقليل والتحقير، والتفكر: التأمل وإعمال الخاطر في الأمر، وهو من أفعال القلوب فحكمه حكمها في أمر التعليق، ومحل الجملة على الوجهين النصب على نزع الخافض، ومحل الموصول نصب على ذلك في الوجه الأخير، أي: أكذبوا ولم يتفكروا في أي شيء من جنون ما كائن بصاحبهم الذي هو أعظم الهادين الحق وعليه أنزلت الآيات، أو في أنه ليس بصاحبهم شيء من جنة حتى يؤديهم التفكر في ذلك إلى الوقوف [ ص: 128 ] على صدقه وصحة نبوته فيؤمنوا به وبما أنزل عليه من الآيات أو في الذي بصاحبهم من جنة بزعمهم ليعلموا أن ذلك ليس من الجنة في شيء فيؤمنوا، واختار الطبرسي أن الكلام قد تم عند قوله تعالى: أولم يتفكروا أي: أكذبوا ولم يتفكروا في أقواله وأفعاله، أو: أولم يفعلوا التفكر، ثم ابتدئ فقيل: أي شيء بصاحبهم من جنة ما؟ على طريقة الإنكار والتعجيب والتبكيت، أو قيل: ليس بصاحبهم شيء منها. والمراد بصاحبهم رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم، والتعبير عنه عليه الصلاة والسلام بذلك لتأكيد النكير وتشديده؛ لأن الصحبة مما يطلعهم على نزاهته صلى الله تعالى عليه وسلم عن شائبة مما ذكر، والتعرض لنفي الجنون عنه عليه الصلاة والسلام مع وضوح استحالة ثبوته له لما أن التكلم بما هو خارق لا يصدر إلا عمن به مس من الجنة كيفما اتفق من غير أن يكون له أصل أو عمن له تأييد إلهي يخبر به عن الغيوب، وإذ ليس به عليه الصلاة والسلام شيء من الأول تعين الثاني.
وأخرج وغيره عن ابن جرير قال: ذكر لنا قتادة أن نبي الله صلى الله تعالى عليه وسلم قام على الصفا فدعا قريشا فخذا فخذا، يا بني فلان، يحذرهم بأس الله تعالى ووقائعه إلى الصباح حتى قال قائلهم: إن صاحبكم هذا المجنون بات يهوت حتى أصبح. فأنزل الله تعالى الآية.
وعليه فالتصريح بنفي الجنون للرد على عظيمتهم الشنعاء عند من له أدنى عقل، والتعبير بصاحبهم وارد على مشاكلة كلامهم مع ما فيه من النكتة السالفة. وذكر بعضهم في سبب النزول أنهم كانوا إذا رأوا ما يعرض له صلى الله تعالى عليه وسلم من برحاء الوحي قالوا: جن. فنزلت: إن هو إلا نذير مبين تقرير لما قبله وتكذيب لهم فيما يزعمونه حيث تبين فيه حقيقة حاله صلى الله تعالى عليه وسلم، أي ما هو عليه الصلاة والسلام إلا مبالغ في الإنذار مظهر له غاية الإظهار،