لهم البشرى في الحياة الدنيا وفي الآخرة استئناف جيء به في موضع التعليل لنفي حزنهم والخوف عليهم في قول، وفي آخر جيء به بيانا لما أولاهم سبحانه من خيرات الدارين بعد أن أخبر جل وعلا بإنجائهم [ ص: 151 ] من شرورهما ومكارههما وكأنه على هذا قيل: هل لهم وراء ذلك من نعمة وكرامة؟ فقيل: لهم البشرى إلخ . وتقديم الأول لما أن التخلية سابقة على التحلية مع ما فيه من رعاية حق المقابلة بين حسن حال المؤمنين وسوء حال المفترين وتعجيل إدخال المسرة بتبشير الخلاص عن الأهوال وتوسيط البيان السابق بين التخلية والتحلية لإظهار كمال العناية به مع الإيذان بأن انتفاء ما تقدم لإيمانهم واتقائهم عما يؤدى إليه من الأسباب، ومن الناس من فسر الأولياء بالذين يتولونه تعالى بالطاعة ويتولاهم بالكرامة وجعل الذين آمنوا إلخ تفسيرا لتوليهم إياه تعالى وهذه الجملة تفسير لتوليته تعالى إياهم .
وتعقب بأنه لا ريب في أن اعتبار القيد الأخير في مفهوم الولاية غير مناسب لمقام ترغيب المؤمنين في تحصيلها والثبات عليها وبشارتهم بآثارها ونتائجها بل مخل بذلك إذ التحصيل إنما يتعلق بالمقدور والاستبشار لا يحصل إلا بما علم وجود سببه . والقيد المذكور ليس بمقدور لهم حتى يحصلوا الولاية بتحصيله ولا بمعلوم لهم عند حصوله حتى يعرفوا حصول الولاية لهم ويستبشروا بمحاسن آثارها بل التولي بالكرامة عين نتيجة الولاية فاعتباره في عنوان الموضوع ثم الإخبار بعدم الخوف والحزن مما لا يليق بشأن التنزيل الجليل انتهى .
وأنت تعلم أن ما ارتكبه ذلك البعض تكلف وعدول عن الظاهر فلا ينبغي العدول إليه وإن كان ما ذكره المتعقب لا يخلو عن نظر .
وجوز كون الموصول مبتدأ وهذه الجملة خبره، وفي بعض الأخبار ما يؤيده . و البشرى في الأصل الخبر بما يظهر السرور في بشرة الوجه، ومثلها البشارة وتطلق على المبشر به من ذلك وإلى إرادة كل ذهب بعض، والظرفان بعده على الأول متعلقان به وعلى الثاني في موضع الحال منه، والعامل ما في الخبر من معنى الاستقرار أي لهم البشرى حال كونها في الدنيا وحال كونها في الآخرة أي عاجلة وآجلة، أو من الضمير المجرور أي حال كونهم في الحياة الدنيا وفي الآخرة، والثابت في أكثر الروايات أن البشرى في الحياة الدنيا هي الرؤيا الصالحة التي هي جزء من ستة وأربعين جزءا من النبوة كما هو المشهور، أو جزء من سبعين جزءا منها كما أخرجه عن ابن أبي شيبة ابن عمر وهو وأبي هريرة عن الأول . فقد أخرج وابن ماجه الطيالسي وأحمد والدارمي والترمذي وابن ماجه والطبراني وصححه والحاكم وغيرهم والبيهقي قال: سألت رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم عن قوله سبحانه: عبادة بن الصامت لهم البشرى في الحياة الدنيا قال: هي الرؤيا الصالحة يراها المؤمن أو ترى له . وأخرج عن عن ابن مردويه أنه سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك فأجيب بما ذكر أيضا، وأخرج من طريق ابن مسعود عن أبي سفيان مثل ذلك، وأخرج جابر ابن أبي الدنيا وأبو الشيخ وأبو القاسم ابن منده من طريق عن أبي جعفر المذكور قال: جابر أتى رجل من أهل البادية رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله أخبرني عن قول الله تعالى: الذين آمنوا وكانوا يتقون لهم البشرى إلخ فقال رسول الله عليه الصلاة والسلام: أما قوله تعالى: لهم البشرى في الحياة الدنيا فهي الرؤيا الحسنة ترى للمؤمن فيبشر بها في دنياه، وأما قوله سبحانه: وفي الآخرة فإنها بشارة المؤمن عند الموت أن الله قد غفر لك ولمن حملك إلى قبرك، وجاء مرفوعا وموقوفا عن غير واحد تفسيرها بما ذكر، وأخرج ابن جرير من طريق وابن المنذر علي بن أبي طلحة، عن أن البشرى في الحياة الدنيا هي قوله تعالى لنبيه صلى الله تعالى عليه وسلم: ابن عباس وبشر المؤمنين بأن لهم من الله فضلا كبيرا . وعن الزجاج أنها هذا وما يشاكله من قوله تعالى: والفراء وبشر الذين آمنوا أن لهم قدم صدق عند ربهم .
[ ص: 152 ] وقوله سبحانه: يبشرهم ربهم برحمة منه الآية وقوله جل وعلا: وبشر الصابرين إلى غير ذلك، وأخرج وغيره عن ابن أبي شيبة أنه قال في ذلك: إنهم يعلمون أين هم قبل أن يموتوا . وجاء في تفسير البشرى في الآخرة ما سمعت في الخبر عن الضحاك الأخير . جابر
وأخرج وغيره عن ابن جرير مرفوعا أنها الجنة، وعن أبي هريرة أن البشرى في الدنيا أن تأتيهم الملائكة عند الموت بالرحمة قال الله تعالى: عطاء تتنزل عليهم الملائكة ألا تخافوا ولا تحزنوا وأبشروا بالجنة وأما وما يقرأون منها وغير ذلك من البشارات، وقيل: المراد بالبشرى العاجلة نحو النصر والفتح والغنيمة والثناء الحسن والذكر الجميل ومحبة الناس وغير ذلك وأما البشرى الآجلة فغنية عن البيان، وأنت تعلم أنه لا ينبغي العدول عما ورد عن رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم في تفسير ذلك إذا صح وحيث عدل من عدل لعدم وقوفه على ذلك فيما أظن، فالأولى أن يحمل البشرى في الدارين على البشارة بما يحقق نفي الخوف والحزن كائنا ما كان، ويرشد إلى ذلك السباق، ومن أجل ذلك بشرى الملائكة لهم بذلك وقتا فوقتا حتى يدخلوا الجنة، وقد نطق الكتاب العزيز في غير موضع بهذه البشرى من الله تعالى علينا بها برحمته وكرمه البشرى في الآخرة فتلقى الملائكة إياهم مسلمين مبشرين بالفوز والكرامة وما يرون من بياض وجوههم وإعطاء الصحائف بأيمانهم لا تبديل لكلمات الله أي لا تغيير لأقواله التي من جملتها مواعيده الواردة بشارة للمومنين المتقين فيدخل فيها البشارات الواردة ههنا دخولا أوليا ويثبت امتناع الإخلاف فيها لطفا وكرما ثبوتا قطعيا، وأريد من عدم تبديل كلماته سبحانه على تقدير أن يراد من البشرى الرؤيا الصالحة عدم الخلف بينها وبين ما دل على ثبوتها ووقوعها فيما سيأتي بطريق الوعد من قوله تبارك اسمه: لهم البشرى لا عدم الخلف بينها وبين نتائجها الدنيوية والأخروية ولم يظهر لي وجهه بعد التدبر، والمشهور أن الرؤيا الصالحة لا يتخلف ما تدل عليه . وقد جاء من حديث وغيره الحكيم الترمذي عن عبادة - رضي الله تعالى عنه - أنه صلى الله تعالى عليه وسلم قال له في الرؤيا الصالحة: كلام يكلم به ربك عبده في المنام ذلك أي ما ذكر من أن لهم البشرى في الدارين هو الفوز العظيم 64 الذي لا فوز وراءه، وجوز أن تكون الإشارة إلى البشرى بمعنى التبشير وقيل: إن ذلك إشارة إلى النعيم الذي وقعت به البشرى وجعل غير واحد الجملة الأولى وهذه الجملة اعتراضا جيء به لتحقيق المبشر به لتعظيم شأنه وهو مبني على جواز تعدد الاعتراض وعلى أنه يجوز أن يكون في آخر الكلام ولذا قال العلامة الطيبي : ولو جعلت الأولى معترضة والثانية تذييلا للمعترض والمعترض فيه ومؤكدة لهما كان أحسن بناء على أن ما في آخر الكلام يسمى تذييلا اعتراضا وهو مجرد اصطلاح .