فما آمن لموسى عطف على مقدر فصل في موضع آخر أي [ ص: 168 ] فألقى موسى عصاه فإذا هي تلقف ما يأفكون إلخ وإنما لم يذكر تعويلا على ذلك وإيثارا للإيجاز وإيذانا بأن قوله تعالى: إن الله سيبطله مما لا يحتمل الخلف أصلا ولعل عطفه على ذلك بالفاء باعتبار الإيجاب الحادث الذي هو أحد مفهومي الحصر فإنهم قالوا: معنى ما قام إلا زيد قام زيد ولم يقم غيره وبعضهم لم يعتبر ذلك وقال: إن عطفه بالفاء على ذلك مع كونه عدما مستمرا من قبيل ما في قوله تعالى: فاتبعوا أمر فرعون وما في قولك: وعظته فلم يتعظ، وصحت به فلم ينزجر والسر في ذلك أن الإتيان بالشيء بعد ورود ما يوجب الإقلاع عنه وإن كان استمرارا عليه لكنه بحسب العنوان فعل جديد وصنع حادث أي فما آمن له عليه السلام في مبدأ أمره إلا ذرية من قومه أي إلا أولاد بعض بني إسرائيل حيث دعا عليه السلام الآباء فلم يجيبوه خوفا من فرعون وأجابته طائفة من شبانهم فالمراد من الذرية الشبان لا الأطفال .
و (من) للتبعيض وجوز أن تكون للابتداء والتبعيض مستفاد من التنوين والضمير لموسى عليه السلام كما هو إحدى الروايتين عن رضي الله تعالى عنهما، وأخرج ابن عباس عنه أن الضمير ابن جرير لفرعون وبه قال جمع فالمؤمنون من غير بني إسرائيل ومنهم زوجته آسية وماشطته ومؤمن آل فرعون والخازن وامرأته وفي إطلاق الذرية على هؤلاء نوع خفاء ورجح بعضهم إرجاع الضمير لموسى عليه السلام بأنه المحدث عنه وبأن المناسب على القول الآخر الإضمار فيما بعد ورجح إرجاع الضمير ابن عطية لفرعون بأن المعروف في القصص أن بني إسرائيل كانوا في قهر فرعون وكانوا قد بشروا بأن خلاصهم على يد مولود يكون نبيا صفته كذا كذا، فلما ظهر موسى عليه السلام اتبعوه ولم يعرف أن أحدا منهم خالفه فالظاهر القول الثاني وما ذكر من أن المحدث عنه موسى عليه السلام لا يخلو عن شيء فإن لقائل أن يقابل ذلك بأن الكلام في قوم فرعون لأنهم القائلون إنه ساحر ولأن وعظ أهل مكة وتخويفهم المسوق له الآيات قاض بأن المقصود هنا شرح أحوالهم وأنت تعلم أن للبحث في هذا مجالا والمعروف بعد تسليم كونه معروفا لا يضر القول الأول لأن المراد حينئذ فما أظهر إيمانه وأعلن به إلا ذرية من بني إسرائيل دون غيرهم فإنهم أخفوه ولم يظهروه على خوف حال من ذرية و على بمعنى مع كما قيل في قوله تعالى: وآتى المال على حبه والتنوين للتعظيم أي كائنين مع خوف عظيم من فرعون وملئهم الضمير لفرعون والجمع عند غير واحد على ما هو المعتاد في ضمائر العظماء ورد بأن الوارد في كلام العرب الجمع في ضمير المتكلم كنحن وضمير المخاطب كما في قوله تعالى: رب ارجعون وقوله: ألا فارحموني يا إله محمد . ولم ينقل في ضمير الغائب كما نقل عن الرضي، وأجيب بأن الثعالبي والفارسي نقلاه في الغائب أيضا والمثبت مقدم على النافي وبأنه لا يناسب تعظيم فرعون فإن كان على زعمه وزعم قومه فإنما يحسن في كلام ذكر أنه محكي عنهم وليس فليس . ويجاب بأن المراد من التعظيم تنزيله منزلة المتعدد، وكونه لا يناسب في حيز المنع لم لا يجوز أن يكون مناسبا لما فيه من الإشارة إلى مزيد عظم الخوف المتضمن زيادة مدح المومنين وقيل: إن ذلك وارد على عادتهم في محاوراتهم في مجرد جمع ضمير العظماء وإن لم يقصد التعظيم أصلا فتأمله . وجوز أن يكون الجمع لأن المراد من فرعون آله كما يقال: ربيعة ومضر . واعترض عليه بأن هذا إنما عرف في القبيلة وأبيها إذ يطلق اسم الأب عليهم وفرعون ليس من هذا القبيل، على أنه قد قيل: إن إطلاق أبي نحو القبيلة عليها لا يجوز ما لم يسمع ويتحقق جعله علما لها ألا تراهم لا يقولون: [ ص: 169 ] فلان من هاشم ولا من عبد المطلب بل من بني هاشم وبني عبد المطلب فكيف يراد من فرعون آله ولم يتحقق فيه جعله علما لهم، ودعوى التحقق هنا أول المسألة فالقول بأن الجمع لأن المراد به آله كربيعة ليس بشيء إلا أن يراد أن فرعون ونحوه من الملوك إذا ذكر خطر بالبال خطر أتباعه معه فعاد الضمير على ما في الذهن، وتمثيله بما ذكر لأنه نطيره في الجملة ثم إنه لا يخفى أنه إذا أريد من فرعون آله ينبغي أن يراد من آل فرعون فرعون وآله على التغليب وقيل: إن الكلام على حذف مضاف أي آل فرعون فالضمير راجع إلى ذلك المحذوف وفيه أن الحذف يعتمد القرينة ولا قرينة هنا وضمير الجمع يحتمل رجوعه لغير ذلك المحذوف كما ستعلمه قريبا إن شاء الله تعالى فلا يصلح لأن يكون قرينة وأما أن المحذوف لا يعود إليه ضمير كما قال فليس بذاك لأنه إن أريد أنه لا يعود إليه مطلقا فغير صحيح، وإن أريد إذا حذف لقرينة فممنوع لأنه حينئذ في قوة المذكور وقد كثر عود الضمير إليه كذلك في كلام أبو البقاء العرب وقريب من هذا القيل زعم أن هناك معطوفا محذوفا إليه يعود الضمير أي على خوف من فرعون وقومه وملئهم، ويرد عليه أيضا ما قيل: إن هذا الحذف ضعيف غير مطرد .
وقيل: الضمير للذرية أو للقوم أي على خوف من فرعون ومن أشراف بني إسرائيل حيث كانوا يمنعونهم خوفا من فرعون عليهم أو على أنفسهم أو من أشراف القبط ورؤسائهم حيث كانوا يمنعونهم انتصارا لفرعون ، ولعل المنساق إلى الذهن رجوعه إلى الذرية والجمع باعتبار المعنى ويؤول المعنى إلى أنهم آمنوا على خوف من فرعون ومن أشراف قومهم أن يفتنهم أي يبتليهم ويعذبهم، وأصل الفتن كما قال : إدخال الذهب النار لتظهر جودته من رداءته واستعمل في إدخال الإنسان النار كما في قوله سبحانه: الراغب يوم هم على النار يفتنون ويسمى ما يحصل منه العذاب فتنة ويستعمل في الاختبار وبمعنى البلاء والشدة وهو المراد هنا، و (أن) وما بعدها في تأويل مصدر وقع بدلا من فرعون بدل اشتمال أي على خوف من فرعون فتنته، ويجوز أن يكون مفعول خوف لأنه مصدر منكر كثر إعماله وقيل: إنه مفعول له والأصل لأن يفتنهم فحذف الجار وهو مما يطرد فيه الحذف ولا يضر في مثل هذا عدم اتحاد فاعل المصدر والمعلل به على أن مذهب بعض الأئمة عدم اشتراط ذلك في جواز النصب وإليه مال وأيده بما ذكرناه في حواشينا على شرح القطر للمصنف، وإسناد الفعل إلى الرضي فرعون خاصة لأنه مدار أمر التعذيب، وفي الكلام استخدام في رأي حيث أريد من فرعون أولا آله وثانيا هو وحده وأنت تعلم ما فيه .
وإن فرعون لعال في الأرض أي لغالب قاهر في أرض مصر، واستعمال العلو بالغلبة والقهر مجاز معروف وإنه لمن المسرفين 83 أي المتجاوزي الحد في الظلم والفساد بالقتل وسفك الدماء أو في الكبر والعتو حتى ادعى الربوبية واسترق أسباط الأنبياء عليهم السلام، والجملتان اعتراض تذييلي مؤكد لمضمون ما سبق وفيهما من التأكيد ما لا يخفى