فسقى الغضى والساكنيه وإن هم شبوه بين جوانحي وضلوعي
فهذا أحسن، وقرأ النحويان، (يأتي) بإثبات الياء وصلا وحذفها وقفا، ونافع بإثباتها وصلا ووقفا وهي ثابتة في مصحف وابن كثير وقرأ باقي السبعة بحذفها وصلا ووقفا، وسقطت في مصحف أبي، رضي الله تعالى عنه، وإثباتها وصلا ووقفا هو الوجه، ووجه حذفها في الوقف التشبيه بالفواصل، ووصلا ووقفا التخفيف كما قالوا: لا أدر ولا أبال، وذكر عثمان أن الاجتزاء بالكسرة عن الياء كثير في لغة هذيل، ومن ذلك قوله: كفاك كف ما تليق درهما جودا وأخرى تعط بالسيف الدما الزمخشريوقرأ -يوم يأتون- بواو الجمع، وكذا في مصحف الأعمش عبد الله أي يوم يأتي الناس، أو أهل الموقف لا تكلم نفس أي لا تتكلم بما ينفع وينجي من جواب أو شفاعة، وهذا الفعل على الأظهر هو الناصب للظرف السابق.
وجوز أن يكون منصوبا بالانتهاء المضاف إلى الأجل وأن يكون مفعولا به –لاذكر- محذوفا، وهذه الجملة في موضع الحال من ضمير اليوم، وأجاز الحوفي، كونها نعتا ليوم، وتعقب بأنه يقتضي أن إضافته لا تفيده تعريفا وهو ممنوع، ولعل من يدعي ذلك يقول: إن الجمل بمنزلة النكرات حتى أطلقوا عليها ذلك فالإضافة إليها كالإضافة إليها وابن عطية إلا بإذنه أي إلا بإذن الله تعالى شأنه وعز سلطانه في التكلم كقوله سبحانه: لا يتكلمون إلا من أذن له الرحمن وهذا في موقف من مواقف ذلك اليوم، وقوله تبارك وتعالى: هذا يوم لا ينطقون ولا يؤذن لهم فيعتذرون في موقف آخر من مواقفه كما أن قوله تعالى: يوم تأتي كل نفس تجادل عن نفسها في آخر منها، وروي هذا عن الحسن.
وقد ذكر غير واحد أن المأذون فيه الأجوبة الحقة والممنوع منه الأعذار الباطلة، نعم قد يؤذن فيها [ ص: 140 ] أيضا لإظهار بطلانهم كما في قول الكفرة: والله ربنا ما كنا مشركين ونظائره، والقول بأن هذا ليس من قبيل الأعذار وإنما هو إسناد الذنب إلى كبرائهم وأنهم أضلوهم ليس بشيء كما لا يخفى، وفي الدرر والغرر للسيد المرتضى أن بين قوله سبحانه: يوم يأت لا تكلم نفس إلا بإذنه وقوله سبحانه: هذا يوم لا ينطقون ولا يؤذن لهم فيعتذرون وكذا قوله جل وعلا: وأقبل بعضهم على بعض يتساءلون اختلافا بحسب الظاهر، وأجاب قوم من المفسرين عن ذلك بأن فيجوز أن يمنعوا النطق في بعضه ويؤذن لهم في بعض آخر منه، ويضعف هذا الجواب أن الإشارة إلى يوم القيامة بطوله فكيف يجوز أن تكون الآيات فيه مختلفة، وعلى ما ذكروه يكون معنى يوم القيامة يوم طويل ممتد هذا يوم لا ينطقون هذا يوم لا ينطقون في بعضه وهو خلاف الظاهر، والجواب السديد عن ذلك أن يقال: إنما أريد نفي النطق المسموع المقبول الذي ينتفعون به ويكون لهم في مثله إقامة حجة وخلاص لا نفي النطق مطلقا بحيث يعم ما ليس له هذه الحالة، ويجري هذا المجرى قولهم: خرس فلان عن حجته، وحضرنا فلانا يناظر فلانا فلم نره قال شيئا وإن كان الذي وصف بالخرس والذي نفى عنه القول قد تكلم بكلام كثير إلا أنه من حيث لم يكن فيه حجة ولم يتضمن منفعة جاز إطلاق ما حكيناه عليه، ومثله قول الشاعر:
أعمى إذا ما جارتي خرجت حتى يواري جارتي الخدر
ويصم عما كان بينهما سمعي وما بي غيره وقر
وأنت تعلم أن تضعيفه لما أجاب به القوم من امتداد يوم القيامة، وجواز كون المنع من النطق في بعض منه والإذن في بعض آخر ليس بمرتضى عند ذي الفكر الرضي لظهور صحة وقوع الزمان الممتد ظرفا للنقيضين فيما إذا لم يقتض كل منهما أو أحدهما جميع ذلك الزمان، وقد شاع دفع التناقض بين الكلامين بمثل ما فعلوا ومرجعه إلى القول باختلاف الزمان كما أن مرجع ما روي عن إلى القول باختلاف المكان، واتحاد الزمان والمكان من شروط تناقض القضيتين وليس هذا الذي فعلوه بأبعد مما فعله الحسن المرتضي على أن في كلامه بعد ما لا يخفى.
وقال بعض الفضلاء: لا منافاة بين هذه الآية والآيات التي تدل على التكلم يوم القيامة، لأن المراد من يوم يأتي حين يأتي، والقضية المشتملة على ذلك وقتية حكم فيها بسلب المحمول عن جميع أفراد الموضوع في وقت معين، وهذا لا ينافي ثبوت المحمول للموضوع في غير ذلك الوقت، وقال لا بد من أحد أمرين: إما أن يقال: إن ما جاء في الآيات من التلاوم والتساؤل والتجادل ونحو ذلك مما هو صريح في التكلم كان عن إذن، وإما أن يحمل التكلم هنا على تكلم شفاعة أو إقامة حجة، وكلا القولين كما ترى، والاستثناء قيل: من أعم الأسباب أي لا تكلم نفس بسبب من الأسباب إلا بسبب إذنه تعالى وهو متصل، وجوز أن يكون منقطعا ويقدر ما لا يتناول المستثنى أي لا تكلم نفس باقتدار من عندها إلا بإذنه تعالى، ولا يخفى أن هذا استثناء مفرغ، وقد طرق سمعك ما هو الأصح فيه، وقرئ كما في المصاحف ابن عطية: لابن الأنبار -يوم يأتون لا تكلم دابة إلا بإذنه- فمنهم أي [ ص: 141 ] أهل الموقف المدلول عليه بقوله سبحانه: لا تكلم نفس أو الجميع الذي تضمنه (نفس) إذ هو اسم جنس أريد به الجميع على ما نقله عن أبو حيان ، أو الناس المذكور في قوله سبحانه: ابن عطية مجموع له الناس ونقل ابن الأنباري أن الضمير لأمة محمد صلى الله تعالى عليه وسلم وهو من الغرابة بمكان وكأنه قصد هذا القائل بذلك تمهيدا لتوجيه الاستثناء الآتي وهو ولله الحمد غني عن ذلك، والظاهر أن (من) للتبعيض والجار والمجرور خبر مقدم وقوله سبحانه: شقي مبتدأ، وقوله تعالى: وسعيد بتقدير ومنهم سعيد، وحذف منهم لدلالة الأول عليه، والسعادة على ما قال الراغب: معاونة الأمور الإلهية للإنسان على نيل الخير ويضادها الشقاوة، وفسر في البحر الشقاوة بنكد العيش وسوئه، ثم قال: والسعادة ضدها، وفي القاموس ما يقرب من ذلك، فالشقي، والسعيد هما المتصفان بما ذكر، وفسر غير واحد الأول بمن استحق النار بمقتضى الوعيد. والثاني بمن استحق الجنة بموجب الوعد، وهذا هو المتعارف بين الشرعيين، وتقديم الشقي على السعيد لأن المقام مقام الإنذار والتحذير