فلما ذهبوا به وأجمعوا أي عزموا عزما مصمما على أن يجعلوه في غيابت الجب قيل: هو بئر على ثلاث فراسخ من مقام يعقوب عليه السلام بكنعان التي هي من نواحي الأردن، وقيل: هو بين مصر ومدين، وقيل: بنفس أرض الأردن، وزعم بعضهم أنها بئر بيت المقدس، وتعقب بأنه يرده التعليل بالتقاط بعض السيارة ومجيئهم عشاء ذلك اليوم فإن بين منزل يعقوب عليه السلام وبيت المقدس مراحل، وجواب –لما- محذوف إيذانا بظهوره وإشعارا بأن تفصيله مما لا يحويه فلك العبارة، ومجمله فعلوا ما فعلوا، وقدره بعضهم عظمت فتنتهم وهو أولى من تقدير وضعوه فيها، وقيل: لا حذف والجواب أوحينا، والواو زائدة وليس بشيء.
قال وغيره من أهل السير والأخبار: إن إخوة وهب يوسف عليه السلام قالوا: أما تشتاق أن تخرج معنا [ ص: 197 ] إلى مواشينا فنصيد ونستبق؟ فقال عليه السلام: بلى، قالوا: فسل أباك أن يرسلك معنا، فقال عليه السلام: أفعل، فدخلوا بجماعتهم على يعقوب فقالوا: يا أبانا إن يوسف قد أحب أن يخرج معنا إلى مواشينا، فقال يعقوب: ما تقول يا بني؟ قال: نعم يا أبت إني أرى من إخوتي من اللين واللطف فأحب أن تأذن لي، وكان يعقوب يكره مفارقته ويحب مرضاته، فأذن له وأرسله معهم فلما خرجوا به جعلوا يحملونه على رقابهم ويعقوب ينظر إليهم فلما بعدوا عنه وصاروا به إلى الصحراء ألقوه إلى الأرض وأظهروا له ما في أنفسهم من العداوة وبسطوا له القول وجعلوا يضربونه، فجعل كلما جاء إلى واحد منهم واستغاث به ضربه فلما فطن لما عزموا عليه جعل ينادي يا أبتا لو رأيت يوسف وما نزل به من إخوته لأحزنك ذلك وأبكاك، يا أبتاه ما أسرع ما نسوا عهدك وضيعوا وصيتك، وجعل يبكي بكاء شديدا فأخذه روبيل فجلد به الأرض ثم جثم على صدره وأراد قتله، فقال له يوسف: مهلا يا أخي لا تقتلني، فقال له: يا ابن راحيل أنت صاحب الأحلام، قل لرؤياك تخلصك من أيدينا ولوى عنقه فاستغاث بيهوذا وقال له: اتق الله تعالى في وحل بيني وبين من يريد قتلي، فأدركته رحمة الأخوة ورق له، فقال: يا إخوتاه ما على هذا عاهدتموني ألا أدلكم على ما هو أهون لكم وأرفق به؟ قالوا: وما هو؟ قال: تلقونه في هذا الجب، فإما أن يموت أو يلتقطه بعض السيارة، فانطلقوا به إلى بئر هناك واسع الأسفل ضيق الرأس فجعلوا يدلونه فيها فتعلق بشفيرها فربطوا يديه ونزعوا قميصه، فقال: يا إخوتاه ردوا علي قميصي لأستتر به في الجب فلم يفعلوا، ثم ألقوه فيها، فقال لهم: يا إخوتاه أتدعوني وحيدا؟ قالوا: ادع الشمس والقمر والكواكب تؤنسك.
وقيل: جعلوه في دلو ثم أدلوه فلما بلغ نصفها ألقوه إرادة أن يموت وكان في البئر ماء فسقط فيه ثم قام على صخرة فيها.
وروي أنهم لما ألقوه في الجب جعل يبكي فنادوه فظن أنها رحمة أدركتهم فأجابهم فأرادوا رضخه بصخرة ليقتلوه فمنعهم يهوذا، وكان عند يعقوب قميص إبراهيم عليه السلام الذي كساه الله تعالى إياه من الجنة حين ألقي في النار وكان قد جعله في قصبة من فضة وعلقه في عنق يوسف لما خرج مع إخوته، فلما صار في البئر أخرجه ملك وألبسه إياه فأضاء له الجب، وعن أنه لما ألقي فيها عذب ماؤها وكان يغنيه عن الطعام والشراب ونزل عليه الحسن جبريل عليه السلام يؤنسه، فلما أمسى نهض ليذهب فقال له: إني أستوحش إذا ذهبت، فقال: إذا رمت شيئا فقل: يا صريخ المستصرخين، ويا غوث المستغيثين، ويا مفرج كرب المكروبين قد ترى مكاني وتعلم حالي ولا يخفى عليك شيء من أمري، فلما قالها يوسف عليه السلام حفته الملائكة عليهم السلام واستأنس بهم.
وقال محمد بن مسلم الطائفي: إنه عليه السلام لما ألقي في الجب قال: يا شاهدا غير غائب ويا قريبا غير بعيد ويا غالبا غير مغلوب اجعل لي فرجا مما أنا فيه، وقيل: كان يقول: يا إله إبراهيم وإسحاق ويعقوب ارحم ضعفي وقلة حيلتي وصغر سني، وأخرج عن ابن مردويه قال: قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم: ابن عمر "لما ألقي يوسف في الجب أتاه جبريل عليه السلام فقال: يا غلام من ألقاك في هذا الجب؟ قال: إخوتي، قال: ولم؟ قال: لمودة أبي إياي حسدوني، قال: تريد الخروج من ههنا؟ قال: ذاك إلى إله يعقوب، قال: قل: اللهم إني أسألك باسمك المكنون المخزون يا بديع السماوات والأرض يا ذا الجلال والإكرام أن تغفر لي وترحمني وأن تجعل من أمري فرجا ومخرجا، وأن ترزقني من حيث أحتسب ومن حيث لا أحتسب، فقالها فجعل الله تعالى له من أمره فرجا [ ص: 198 ] ومخرجا ورزقه ملك مصر من حيث لا يحتسب ثم قال عليه الصلاة والسلام: "ألظوا بهؤلاء الكلمات فإنهن دعاء المصطفين الأخيار". وروي غير ذلك، والروايات في كيفية إلقائه وما قال: وما قيل له كثيرة، وقد تضمنت ما يلين له الصخر لكن ليس فيها ما له سند يعول عليه، والله تعالى أعلم وأوحينا إليه الضمير ليوسف أي أعلمناه عند ذلك تبشيرا له بما يؤول إليه أمره وإزالة لوحشته وتسلية له، وكان ذلك على ما روي عن بالإلهام، وقيل: بالإلقاء في مبشرات المنام، وقال مجاهد الضحاك بإرسال وقتادة: جبريل عليه السلام إليه والموحي إليه ما تضمنه قوله سبحانه: لتنبئنهم بأمرهم هذا وهو بشارة له بالخلاص أيضا أي لتخلصن مما أنت فيه من سوء الحال وضيق المجال ولتخبرن إخوتك بما فعلوا بك وهم لا يشعرون بأنك يوسف لتباين حاليك: حالك هذا وحالك يومئذ بعلو شأنك وكبرياء سلطانك وبعد حالك من أوهامهم، وقيل: لبعد العهد المبدل للهيئات المغير للأشكال والأول أدخل في التسلية، أخرج ابن جرير عن وابن أبي حاتم قال: لما دخل إخوة ابن عباس يوسف على يوسف فعرفهم وهم له منكرون جيء بالصواع فوضعه على يده ثم نقره فطن، فقال: إنه ليخبرني هذا الجام أنه كان لكم أخ من أبيكم يقال له يوسف يدنيه دونكم وأنكم انطلقتم به فألقيتموه في غيابة الجب فأتيتم أباكم فقلتم: إن الذئب أكله وجئتم على قميصه بدم كذب، فقال بعضهم لبعض: إن هذا الجام ليخبره بخبركم، ثم قال فلا نرى هذه الآية ابن عباس: لتنبئنهم بأمرهم إلخ نزلت إلا في ذلك، وجوز أن يتعلق وهم لا يشعرون بالإيحاء على معنى أنا آنسناه بالوحي وأزلنا عن قلبه الوحشة التي أورثوه إياها وهم لا يشعرون بذلك ويحسبون أنه مستوحش لا أنيس له.
وروي ذلك عن وكان هذا الإيحاء وهو عليه السلام ابن ست عند قتادة، واثنتي عشرة سنة أو ثماني عشرة سنة عند الضحاك وسبع عشرة سنة عند الحسن، ابن السائب -وهو الذي يزعمه اليهود- وقيل غير ذلك، ومن نظر في الآيات ظهر له أن الراجح كونه عليه السلام لم يبلغ الحلم إذ ذاك، وعلى جميع الأقوال أنه عليه السلام لم يكن بالغا الأربعين عند الإيحاء إليه، نعم أكثر الأنبياء عليهم السلام نبئوا في سن الأربعين وقد أوحي إلى بعضهم كيحيى وعيسى عليهما السلام قبل ذلك بكثير.
وزعم بعضهم أن ضمير (إليه) يعود على يعقوب عليه السلام وليس بشيء كما لا يخفى، وقرأ رضي الله تعالى عنهما لينبئنهم بياء الغيبة وكذا في مصاحف ابن عمر البصرة.
وقرأ سلام بالنون على أنه وعيد لهم، فقوله سبحانه: وهم لا يشعرون متعلق –بأوحينا- لا غير على ما قاله ومن تبعه، ونظر فيه بأنه يجوز أن يتعلق أيضا بقوله تعالى: الزمخشري لتنبئنهم وأن يراد بإنباء الله تعالى إيصال فعلهم به عليه السلام وهم لا يشعرون بذلك، ودفع بأنه بناء على الظاهر وأنه لا يجتمع إنباء الله تعالى مع عدم شعورهم بما أنبأهم به إلا بتأويل كتقدير لنعلمنهم بعظيم ما ارتكبوه قبل وهم لا يشعرون بما فيه