وما أرسلنا أي في الأمم الخالية من قبلك كما سيذكر إن شاء الله تعالى إجمالا من رسول إلا متلبسا بلسان قومه متكلما بلغة من أرسل إليهم من الأمم المتفقة على لغة سواء بعث فيهم أولا وقيل : بلغة قومه الذين هو منهم وبعث فيهم ولا ينتقض الحصر بلوط عليه السلام فإنه تزوج منهم وسكن معهم وأما يونس عليه السلام فإنه من القوم الذين أرسل إليهم كما قالوه فلا حاجة إلى القول بأن ذلك باعتبار الأكثر [ ص: 185 ] الأغلب ولعل الأولى ما ذكرنا وقرأ أبو السمال وأبو الحوراء وأبو عمران الجوني ( بلسن ) بإسكان السين على وزن ذكر وهي لغة في لسان كريش ورياش وقال صاحب اللوامح : إنه خاص باللغة واللسان يطلق عليها وعلى الجارحة وإلى ذلك ذهب وقرأ ابن عطية أبو رجاء وأبو المتوكل والجحدري ( بلسن ) بضم اللام والسين وهو جمع لسان كعماد وعمد وقرئ ( بلسن ) بضم اللام وسكون السين وهو مخفف لسن كرسل ورسل ليبين ذلك الرسول لهم لأولئك القوم الذين أرسل إليهم ما كلفوا به فيتلقوه منه بسهولة وسرعة فيمتثلوا ذلك من غير حاجة إلى الترجمة وحيث لم تتأت هذه القاعدة في شأن سيدنا محمد صلى الله تعالى عليه وسلم وعلى إخوانه المرسلين أجمعين لعموم بعثته وشمول رسالته الأسود والأحمر والجن والبشر على اختلاف لغاتهم وكان تعدد نظم الكتاب المنزل إليه صلى الله عليه وسلم عليه حسب تعدد ألسنة الأمم أدعى إلى التنازع واختلاف الكلمة وتطرق أيدي التحريف مع أن استقلال بعض من ذلك بالإعجاز مئنة لقدح القادحين واتفاق الجميع فيه أمر قريب من الإلجاء المنافي للتكليف وحصل البيان والتفسير اقتضت الحكمة المنبئ عن العزة وجلالة الشأن المستنبع لفوائد غنية عن البيان على أن الحاجة إلى الترجمة تتضاعف عند التعدد إذ لا بد لكل طائفة من معرفة توافق الكل حذو القذة بالقذة من غير مخالفة ولو في خصلة فذة وإنما يتم ذلك بمن يترجم عن الكل واحدا أو متعددا وفيه من التعذر ما فيه ثم لما كان أشرف الأقوام وأولاهم بدعوته عليه الصلاة والسلام قومه الذي بعث بين ظهرانيهم ولغتهم أفضل اللغات نزل الكتاب المبين بلسان عربي مبين وانتشرت أحكامه بين الأمم أجمعين كذا قرر شيخ الإسلام والمسلمين وهو من الحسن بمكان بيد أن بعضهم أبقى الكلام على عمومه بحيث يشمل النبي صلى الله عليه وسلم وأراد بالقوم الذين ذلك الرسول منهم وبعث فيهم والمراد من قومه صلى الله عليه وسلم العرب كلهم ونقل ذلك أبو شامة في المرشد عن السجستاني واحتج بقوله صلى الله عليه وسلم : وفيه نظر ظاهر . أنزل القرآن على سبعة أحرف
وقال : المراد منهم ابن قتيبة قريش ولم ينزل القرآن إلا بلغتهم وقيل : إنما نزل بلغة مضر خاصة لقول رضي الله تعالى عنه : نزل القرآن بلغة عمر مضر وعين بعضهم فيما حكاه سبعا منهم ابن عبد البر هذيل وكنانة وقيس وضبة وتميم الرباب وأسيد بن خزيمة وقريش وأخرج عن أبو عبيد رضي الله تعالى عنهما أنه قال : نزل بلغة الكعبين كعب ابن عباس قريش وكعب خزاعة فقيل : وكيف فقال : لأن الدار واحدة يعني خزاعة كانوا جيران قريش فسهلت عليهم لغتهم وجاء عن أبي صالح عنه أنه قال : نزل على سبع لغات منها خمس بلغة العجز من هوازن ويقال لهم عليا هوازن ومن هنا قال أبو عمرو بن العلاء : أفصح العرب عليا هوازن وسفلى تميم يعني بني دارم والذي يذهب مذهب السجستاني يقول : إن في القرآن ما نزل بلغة حمير وكنانة وجرهم وأزد شنوءة ومذحج وخثعم وقيس عيلان وسعد العشيرة وكندة وعذرة وحضرموت وغسان ومزينة ولخم وجذام وحنيفة واليمامة وسبأ وسليم وعمارة وطي وخزاعة وعمان وتميم [ ص: 186 ] وأنمار والأشعرين والأوس والخزرج ومدين وقد مثل لكل ذلك أبو القاسم وذكر أبو بكر الواسطي أن في القرآن من اللغات خمسين لغة وسردها ممثلا لها إلا أنه ذكر أن فيه من غير العربية الفرس والنبط والحبشة والبربر والسرياني والعبراني والقبط والذاهب إلى ما ذهب إليه يقول : إن ما نسب إلى غير ابن قتيبة قريش على تقدير صحة نسبته مما يوافق لغتهم ونقل أبو شامة عن بعض الشيوخ أنه قال : إنه نزل أولا بلسان قريش ومن جاورهم من العرب الفصحاء ثم أبيح لسائر العرب أن تقرأه بلغاتهم التي جرت عاداتهم باستعمالها كاختلافهم في الألفاظ والإعراب ولم يكلف أحد منهم الانتقال من لغته إلى لغة أخرى للمشقة ولما كان فيهم من الحمية ولطلب تسهيل المراد لكن أنت تعلم أن هذه الإباحة لم تستمر وكون المتبادر من قومه عليه الصلاة والسلام قريشا مما لا أظن أن أحدا يمتري فيه ويليه في التبادر العرب وفي البحر أن سبب نزول الآية أن قريشا قالوا : ما بال الكتب كلها أعجمية وهذا عربي وهذا إن صح ظاهر في العموم ثم إنه لا يلزم من كون لغته لغة قريش أو العرب اختصاص بعثته صلى الله عليه وسلم بهم وإن زعمت طائفة من اليهود يقال لهم العيسوية اختصاص البعثةبالعرب لذلك وحكمة إنزاله بلغتهم أظهر من أن تخفى وقيل : الضمير في قومه لمحمد صلى الله تعالى عليه وسلم المعلوم من السياق فإنه كما أخرج ابن أبي عن لم ينزل وحي إلا بالعربية ثم ترجم كل نبي لقومه وقيل : كان يترجم ذلك سفيان الثوري جبريل عليه السلام ونسب إلى وفيه أنه إذا لم يقع التبيين إلا بعد الترجمة فات الغرض مما ذكر وضمير ( لهم ) للقوم بلا خلاف وهم المبين لهم بالترجمة وفي الكشاف أن ذلك ليس بصحيح لأن ضمير ( لهم ) للقوم وهم الكلبي العرب فيؤدي إلى أن الله تعالى أنزل التوراة مثلا بالعربية ليبين للعرب وهو معنى فاسد .
وتكلف الطيبي دفع ذلك بأن الضمير راجع إلى كل قوم قوم بدلالة السياق والجواب كما في الكشف أنه لا يدفع عن الإيهام على خلاف مقتضى المقام .
واحتج بعض الناس بهذه الآية على أن اللغات اصطلاحية لا توقيفية قال : لأن التوقيف لا يحصل إلا بإرسال الرسل وقد دلت الآية على أن وذلك يقتضي تقدم حصول اللغات على إرسال الرسول وإذا كان كذلك امتنع حصول تلك اللغات بالتوقيف فوجب حصولها بالاصطلاح . انتهى . إرسال كل من الرسل لا يكون إلا بلغة قومه
وأجيب بأنا لا نسلم توقف التوقيف على إرسال الرسل لجواز أن يخلق الله تعالى في العقلاء علما بأن الألفاظ وضعها واضع لكذا وكذا ولا يلزم من هذا كون العاقل عالما بالله تعالى بالضرورة بل الذي يلزم منه ذلك لو خلق سبحانه في العقلاء علما ضروريا بأنه تعالى الواضع وأين هذا من ذاك على أنه لا ضرر في التزام خلق الله تعالى هذا العلم الضروري وأي ضرر في كونه سبحانه معلوم الوجود بالضرورة لبعض العقلاء والقول بأنه يبطل التكليف حينئذ على عمومه غير مسلم وعلى تخصيصه بالمعرة مسلم وغير ضار فيضل الله من يشاء إضلاله أي يخلق فيه الضلال لوجود أسبابه المؤدية إليه فيه وقيل : يخذله فلا يلطف به لما يعلم أنه لا ينجع فيه الإلطاف ويهدي يخلق الهداية أو يمنح الإلطاف من يشاء هدايته لما فيه من الأسباب المؤدية إلى ذلك والالتفات بإسناد الفعلين إلى الاسم الجليل لتفخيم شأنهما وترشيح مناط كل منهما والفاء قيل فصيحة مثلها في قوله تعالى : فقلنا اضرب بعصاك الحجر فانفجرت كأنه قيل : فبينوه لهم فأضل الله [ ص: 187 ] تعالى من شاء إضلاله وهدى من شاء هدايته حسبما اقتضته حكمته تعالى البالغة والحذف للإيذان بأن مسارعة كل رسول إلى ما أمر به وجريان كل من الفعلين على سننه أمر محقق غني عن الذكر والبيان وفي الكشف وجه التعقيب عن السابق كوجهه في قوله تعالى : يضل به كثيرا ويهدي به كثيرا على معنى أرسلنا الكتاب للتبين فمنهم من نفعناه بذلك البيان ومنهم من جعلناه حجة عليه والفاء على هذا تفصيلية والعدول إلى صيغة الاستقبال لاستحضار الصورة أو الدلالة على التجدد والاستمرار حيث تجدد البيان من الرسل عليهم السلام المتعاقبة عليهم وتقديم الإضلال على الهداية كما قال بعض المحققين إما لأنه إبقاء ما كان على ما كان والهداية إنشاء ما لم يكن أو للمبالغة في بيان أنه لا تأثير للتبيين والتذكير من قبل الرسل عليهم السلام وأن مدار الأمر إنما هو مشيئته تعالى بإيهام أن ترتب الضلالة أسرع من ترتب الاهتداء وهذا محقق لما سلف من تقييد الإخراج من الظلمات إلى النور بإذن ربهم وهو العزيز فلا يغالب في مشيئته تعالى الحكيم . (4) . فلا يشاء ما يشاء إلا لحكمة بالغة وفيه كما في البحر وغيره أن وأما الهداية والإرشاد إليه فذلك بيد الله تعالى يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد . ما فوض إلى الرسل عليهم الصلاة والسلام إنما هو التبليغ وتبيين طريق الحق
ثم إن هذه الآية ظاهرة في مذهب أهل السنة من أن الضلالة والهداية بخلقه سبحانه وقد ذكر المعتزلة لها عدة تأويلات وللإمام فيها كلام طويل إن أردته فارجع