سورة (النحل)
وتسمى كما أخرج سورة النعم قال ابن أبي حاتم لما عدد الله تعالى فيها من النعم على عباده، وأطلق جمع القول بأنها مكية وأخرج ذلك ابن الفرس: عن ابن مردويه ابن عباس رضي الله تعالى عنهم وأخرج النحاس من طريق وابن الزبير عن الحبر أنها نزلت مجاهد بمكة سوى ثلاث آيات من آخرها فإنهن نزلن بين مكة والمدينة في منصرف رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم من أحد، وفي رواية عنه أنها كلها مكية إلا قوله تعالى: ولا تشتروا بعهد الله ثمنا قليلا إلى قوله سبحانه: بأحسن ما كانوا يعملون وروى أمية الأزدي [ ص: 90 ] عن جابر بن زيد أن أربعين آية منها نزلت بمكة وبقيتها نزلت بالمدينة ، وهي مائة وثمان وعشرون آية، قال الطبرسي وغيره: بلا خلاف، والذي ذكره الداني في كتاب العدد أنها تسعون وثلاث وقيل أربع وقيل خمس في سائر المصاحف، وتحتوي من المنسوخ قيل على أربع آيات بإجماع وعلى آية واحدة على مختلف فيها، وسيظهر لك حقيقة الأمر في ذلك إن شاء الله تعالى، ولما ذكر في آخر السورة السابقة المستهزؤون المكذبون له صلى الله تعالى عليه وسلم ابتدئ هنا بعد قوله تعالى: بسم الله الرحمن الرحيم بقوله عز وجل أتى أمر الله فلا تستعجلوه المناسب لذلك على ما ذكر غير واحد في معناه وسبب نزوله.
وفي البحر في بيان وجه الارتباط أنه تعالى لما قال فوربك لنسألنهم أجمعين كان ذلك تنبيها على حشرهم يوم القيامة وسؤالهم عما فعلوه في الدنيا فقيل: أتى أمر الله فإن المراد به على قول الجمهور يوم القيامة، وذكر الجلال السيوطي أن آخر الحجر شديدة الالتئام بأول هذه فإن قوله سبحانه واعبد ربك حتى يأتيك اليقين الذي هو مفسر بالموت ظاهر المناسبة بقوله سبحانه هنا: أتى أمر الله وانظر كيف جاء في المتقدمة يأتيك بلفظ المضارع وفي المتأخرة أتى بلفظ الماضي لأن المستقبل سابق على الماضي كما تقرر في محله، والأمر واحد الأمور وتفسيره بيوم القيامة كما قال في البحر، وفسر بما يعمه وغيره من نزول العذاب الموعود للكفرة، وعن تفسيره بنزول العذاب فقط فقال: المراد بالأمر هنا ما وعد الله تعالى نبيه صلى الله تعالى عليه وسلم من النصر والظفر على الأعداء والانتقام منهم بالقتل والسبي ونهب الأموال والاستيلاء على المنازل والديار، وأخرج ابن جريج وغيره عن ابن جرير أن المراد به الأحكام والحدود والفرائض، وكأنه حمله على ما هو أحد الأوامر وفيما ذكره بعد إذ لم ينقل عن أحد أنه استعجل فرائض الله تعالى وحدوده سبحانه، والتعبير عن ذلك بأمر الله للتهويل والتفخيم، وفيه إيذان بأن تحققه في نفسه وإتيانه منوط بحكمه تعالى النافذ وقضائه الغالب، وإتيانه عبارة عن دنوه واقترابه على طريقة نظم المتوقع في سلك الواقع، وجوز أن يكون المراد إتيان مباديه فالماضي باق على حقيقته، ولعل ما أخرجه الضحاك من طريق ابن مردويه عن الضحاك رضي الله تعالى عنهما أنه فسر الأمر بخروج النبي صلى الله تعالى عليه وسلم مؤيد لما ذكر وبعضهم أبقى الفعل على معناه الحقيقي وزعم أن المعنى أتى أمر الله وعدا فلا تستعجلوه وقوعا وهو كما ترى، وظاهر صنيع الكثير يشعر باختيار أن الماضي بمعنى المضارع على طريق الاستعارة بتشبيه المستقبل المتحقق بالماضي في تحقق الوقوع والقرينة عليه قوله سبحانه فإنه لو وقع ما استعجل. وهو الذي يميل إليه القلب، والضمير المنصوب في ابن عباس تستعجلوه على ما هو الظاهر عائد على الأمر لأنه هو المحدث عنه، وقيل: يعود على الله سبحانه أي فلا تستعجلوا الله تعالى بالعذاب أو بإتيان يوم القيامة كقوله تعالى: ويستعجلونك بالعذاب وهو خلاف الظاهر، لكن قيل: إن ذلك أوفق بما بعد، والخطاب للكفرة خاصة ويدل عليه قراءة «فلا يستعجلوه» على صيغة نهي الغائب، واستعجالهم وإن كان بطريق الاستهزاء لكنه حمل على الحقيقة ونهوا بضرب من التهكم لا مع المؤمنين سواء أريد بأمر الله تعالى ما قدمنا أو العذاب الموعود للكفرة خاصة، أما الأول فلأنه [ ص: 91 ] لا يتصور من المؤمنين استعجال الساعة أو ما يعمها من العذاب حتى يعمهم النهي عنه، وأما الثاني فلأن الاستعجال من المؤمنين حقيقة ومن الكفرة استهزاء فلا ينظمهما صيغة واحدة، والالتجاء إلى إرادة معنى مجازي يعمهما معا من غير أن يكون هناك نكتة سرية تعسف لا يليق بشأن التنزيل. ابن جبير
وادعى بعضهم عموم الخطاب واستدل بما روي عن رضي الله تعالى عنهما أنه لما نزل قوله تعالى: ابن عباس اقتربت الساعة قال الكفار فيما بينهم: إن هذا يزعم أن القيامة قد قربت فأمسكوا عن بعض ما تعملون حتى تنظروا ما هو كائن، فلما تأخرت قالوا: ما نرى شيئا فنزلت اقترب للناس حسابهم فأشفقوا وانتظروا قربها فلما امتدت الأيام قالوا: يا محمد ما نرى شيئا مما تخوفنا به فنزلت أتى أمر الله فوثب رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم فرفع الناس رؤوسهم فلما نزل فلا تستعجلوه اطمأنوا ثم قال صلى الله تعالى عليه وسلم: « » بعثت أنا والساعة كهاتين وأشار بإصبعيه إن كادت لتسبقني
ولا دلالة فيه على ذلك لأن مناط اطمئنانهم إنما هو وقوفهم على أن المراد بالإتيان هو الإتيان الادعائي لا الحقيقي الموجب لاستحالة الاستعجال المستلزمة لامتناع النهي عنه لما أن النهي عن الشيء يقتضي إمكانه في الجملة، ومدار ذلك الوقوف إنما هو النهي عن الاستعجال المستلزم لإمكانه المقتضي عدم وقوع المستحيل بعد، ولا يختلف ذلك باختلاف المستعجل كائنا من كان بل فيه دلالة واضحة على عدم العموم لأن المراد بأمر الله إنما هو الساعة وصدور استعجالها عن المؤمنين مستحيل. نعم يجوز تخصيص الخطاب بهم على تقدير كون أمر الله تعالى العذاب الموعود للكفرة خاصة، لكن الذي يقضي به الإعجاز التنزيلي أنه خاص بالكفرة كذا قاله أبو السعود.
وبحث فيه من وجوه، أما أولا فلأن الذي لا يتصور من المؤمنين الاستعجال بمعنى طلب الوقوع عاجلا لا عده عاجلا وسياق ما روي يدل على الأخير، فإنه لما سمعوا صدر الكلام حملوه على الظاهر فاضطربوا فقيل لهم: فلا تستعجلوه أي لا تعدوه عاجلا، على أن عدم تصور المعنى الأول أيضا منهم في حيز المنع لجواز أن يستعجلوه لتشفي صدورهم وإذهاب غيظ قلوبهم والاستهزاء بهم والضحك منهم، وأما ثانيا فلأن الجمع بين الحقيقة والمجاز لعله مذهب ذلك القائل، وأما ثالثا فلأن القول بكون القراءة على صيغة نهي الغائب دالة على أن الخطاب مخصوص بالكفرة ممنوع والسند ظاهر، وأما رابعا فلأن نفي دلالة ما روي على عموم الخطاب غير موجه لعموم لفظ الناس، وأما خامسا فلأن قوله: بل فيه دلالة واضحة على عدم العموم لأن المراد بأمر الله تعالى إنما هو الساعة إلى آخره، يرد عليه أنه لا دلالة فيه أصلا على عدم العموم فضلا أن تكون واضحة، وقد عرفت ما في قوله: وقد عرفت، وأما سادسا فلأن حصره المراد بالأمر في الساعة مخالف لما ذكره في تفسير قوله: أتى أمر الله حيث قال: أي الساعة أو ما يعمها وغيرها من العذاب فبعد هذا التصريح كيف يدعي ذلك الحصر؟، وفي بعض الأبحاث نظر. وقال بعض الفضلاء: قد يقال: إن المراد بالناس في الخبر المؤمنون لما في خبر آخر أخرجه عن ابن مردويه قال: «لما نزلت الحبر أتى أمر الله ذعر أصحاب رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم حتى نزلت فلا تستعجلوه فسكنوا». وهذا أيضا على ما قيل لا يقتضي كون الخطاب للمؤمنين لجواز أن يقال: إنهم لما سمعوا أول الآية ذعروا واضطربوا لظن أنه وقع فلما سمعوا خطاب الكفرة [ ص: 92 ] بقوله سبحانه: فلا تستعجلوه اطمأنت قلوبهم وسكنوا، وقد يورد على دعوى أن صدور استعجال الساعة من المؤمنين مستحيل أن ذلك حق لو كان استعجالهم على طرز استعجال الكفرة لها وليس ذلك بمسلم فإنه يجوز أن يراد باستعجالهم اضطرابهم وتهيؤهم لها المنزل منزلة الاستعجال الحقيقي، واستدل على كون الخطاب للكفرة بقوله سبحانه وتعالى: سبحانه وتعالى عما يشركون فإنه على ذلك التقدير يظهر ارتباطه بما قبله وذلك بأن يقال حينئذ:
لما كان استعجالهم ذلك من نتائج إشراكهم المستتبع لنسبة الله تعالى إلى ما لا يليق به سبحانه من العجز والاحتياج إلى الغير واعتقادهم أن أحدا يحجزه عن إمضاء وعيده أو إنجاز وعده قيل بطريق الاستئناف ذلك على معنى تنزه وتقدس بذاته وجل عن إشراكهم المؤدي إلى صدور أمثال هذه الأباطيل عنهم أو عن أن يكون له شريك فيدفع ما أراد بهم بوجه من الوجوه وقد كانوا يقولون على ما في بعض الروايات: إن صح مجيء ذلك فالأصنام تخلصنا عنه بشفاعتها لنا، والتعبير بالمضارع للدلالة على تجدد إشراكهم واستمراره والالتفات إلى الغيبة للإيذان باقتضاء ذكر قبائحهم للإعراض عنهم وطرحهم عن رتبة الخطاب وحكاية شنائعهم للغير وهذا لا يتأتى على تقدير تخصيص الخطاب بالمؤمنين، وقيل في وجه الارتباط على ذلك التقدير: إنه تعالى لما نهاهم عن الاستعجال ذكر ما يتضمن أن إنذاره سبحانه وإخباره تعالى للتخويف والإرشاد وأن قوله جل وعلا: أتى أمر الله إنما هو لذلك فيستعد كل أحد لمعاده ويشتغل قبل السفر بتهيئة زاده فلذلك عقب بذلك دون عطف، وقد أشار بعضهم إلى ارتباط ذلك باعتبار ما بعده فيكون ما ذكر مقدمة واستفتاحا له، وأيضا فإن قوله تعالى: أتى أمر الله تنبيه وإيقاظ لما يرد بعده من أدلة التوحيد اه، وأنت تعلم أن الارتباط على ما قرر أولا أظهر منه على هذا التقرير فافهم، ثم إن ما تحتمل الموصولية والمصدرية والاحتمال الثاني أظهر، ولا بد على الاحتمال الأول من اعتبار ما أشرنا إليه وإلا فلا يظهر التنزيه عن الشريك. وقرأ حمزة «تشركون» بتاء الخطاب على وفق والكسائي فلا تستعجلوه وقرأ باقي السبعة والأعرج وأبو جعفر وأبو رجاء بياء الغيبة، وقد تقدم أن في الكلام حينئذ التفاتا وهو مبني على أن الخطاب السابق للكفرة أما إذا كان للمؤمنين أو لهم وللكفرة فلا يتحد معنى الضميرين حتى يكون التفات ولا التفات أيضا على قراءة «تشركون» بالتاء سواء كان الخطاب الأول للكفرة أو لهم وللمؤمنين. نعم في ذلك على تقدير عموم الخطاب تغليبان على ما قيل الأول تغليب المؤمنين على غيرهم في الخطاب والثاني تغليب غيرهم عليهم في نسبة الشرك، وعلى قراءة «يستعجلوه» (ويشركون) بالتحتية فيهما لا التفات ولا تغليب والحسن ينزل الملائكة قيل هو إشارة إلى طريق علم الرسول صلى الله تعالى عليه وسلم بإتيان ما أوعد به وباقترابه إزاحة لاستبعاد اختصاصه عليه الصلاة والسلام بذلك، وقال في الكشف:
التحقيق أن قوله سبحانه: أتى أمر الله تنبيه وإيقاظ ليكون ما يرد بعده ممكنا في نفس حاضرة ملقية إليه وهو تمهيد لما يرد من دلائل التوحيد،