قوله سبحانه: ثم يوم القيامة يخزيهم أي يذلهم، والظاهر أن ضمائر الجمع- للذين مكروا- من قبل كأنه قيل: قد مكر الذين من قبلهم فعذبهم الله تعالى في الدنيا ثم يعذبهم في العقبى، (وثم) للإيماء إلى ما بين الجزاءين من التفاوت مع ما تدل عليه من التراخي الزماني، وتقديم الظرف على الفعل قيل لقصر الإخزاء على يوم القيامة، والمراد به ما بين بقوله سبحانه: ويقول أي لهم تفضيحا وتوبيخا أين شركائي إلى آخره، ولا شك أن ذلك لا يكون إلا في ذلك اليوم، وقال بعض المحققين: ليس التقديم لذلك بل لأن الإخبار بجزائهم في الدنيا مؤذن بأن لهم جزاء أخرويا فتبقى النفس مترقبة إلى وروده سائلة عنه بأنه ماذا مع تيقنها بأنه في الآخرة فسيق الكلام على وجه يؤذن بأن المقصود بالذكر جزاؤهم لا كونه في الآخرة، وذكر أيضا أن الجملة المذكورة عطف على مقدر ينسحب عليه الكلام أي هذا الذي فهم من التمثيل من عذاب هؤلاء الماكرين القائلين في القرآن العظيم أساطير الأولين أو ما هو أعم منه، ومما ذكر من عذاب أولئك الماكرين من قبل جزاؤهم في الدنيا ويوم القيامة يخزيهم إلى آخره، ثم قال:
والضمير إما للمغترين في حق القرآن الكريم أو لهم ولمن مثلوا بهم من الماكرين، وتخصيصه بهم يأباه السباق والسياق اهـ.
وفيه من ارتكاب خلاف الظاهر ما فيه فليتأمل، وفسر بعضهم الإخزاء بما هو من روادف التعذيب بالنار لأنه الفرد الكامل وقد قال تعالى: إنك من تدخل النار فقد أخزيته [آل عمران: 192] وقيل عليه: إن قوله سبحانه: أين شركائي إلى آخره يأباه لأنه قبل دخولهم النار. وأجيب بأن الواو لا تقتضي الترتيب، وأنت تعلم أن الأولى مع هذا حمله على مطلق الإذلال، وإضافة الشركاء إلى نفسه عز وجل لأدنى ملابسة بناء على زعمهم أنهم شركاء لله سبحانه عما يشركون فتكون الآية كقوله تعالى: أين شركاؤكم الذين كنتم تزعمون [الأنعام: 22].
وجوز أن يكون ما ذكر حكاية منه تعالى لإضافتهم فإنهم كانوا يضيفون ويقولون: شركاء الله تعالى، [ ص: 127 ] وفي ذلك زيادة في توبيخهم ليست في أين أصنامكم مثلا لو قيل، ولا يخفى أن هذا خزي وإهانة بالقول فإذا فسر الإخزاء فيما تقدم بالتعذيب بالنار كانت الآية مشيرة إلى خزيين فعلي وقولي، وأشير إلى الأول أولا لأنه أنسب بسابقه. وقرأ الجمهور «شركائي» ممدودا مهموزا مفتوح الياء، وفرقة كذلك إلا أنهم سكنوا الياء فتسقط في الدرج لالتقاء الساكنين، والبزي عن بخلاف عنه بالقصر وفتح الياء، وأنكر ذلك جماعة وزعموا أن هذه القراءة غير مأخوذ لأن قصر الممدود لا يجوز إلا ضرورة، وليس كما قالوا فإنه يجوز في السعة، وقد وجه أيضا بأن الهمزة المكسورة قبل الياء حذفت للتخفيف وليس كقصر الممدود مطلقا، مع أنه قد روي عن ابن كثير قصر التي في القصص و(ورائي) في مريم، وعن ابن كثير قنبل قصر أن رآه استغنى في العلق فكيف يعد ذلك ضرورة.
نعم قال : إن وقوعه في الكلام قليل فاعرف ذلك فقد غفل عنه كثير من الناس. أبو حيان
الذين كنتم تشاقون فيهم أي تخاصمون وتنازعون الأنبياء عليهم السلام وأتباعهم في شأنهم وتزعمون أنهم شركاء حقا حين بينوا لكم ضد ذلك، وفسر بعضهم المشاقة بالمعاداة، وتفسيرها بالمخاصمة ليظهر تعلق (فيهم) به ولا يحتاج إلى جعل في للسببية أولى، وقيل: للمخاصمة مشاقة أخذا من شق العصا أو لكون كل من المتخاصمين في شق والمراد بالاستفهام استحضارها للشفاعة على طريق الاستهزاء والتبكيت، فإنهم كانوا يقولون: إن صح ما تقولون فالأصنام تشفع لنا، والاستفسار عن مكانتهم لا يوجب غيبتهم حقيقة بل يكفي في ذلك عدم حضورهم بالعنوان الذي كانوا يزعمون أنهم متصفون به فليس هناك شركاء ولا أماكنها.
وقيل: إن ذلك يوجب الغيبة، ويقال: إنه يحال بينهم وبين شركائهم حينئذ ليتفقدوهم في ساعة علقوا الرجاء بها فيهم أو أنهم لما لم ينفعوهم فكأنهم غيب. ولا يحتاج إلى هذا بعد ما علمت على أنه أورد على قوله ليتفقدوهم إلى آخره أنه ليس بسديد، فإنه قد تبين للمشركين حقيقة الأمر فرجعوا عن ذلك الزعم الباطل فكيف يتصور منهم التفقد.
وأجيب بأنه يجوز أن يغفلوا لعظم الهول عن ذلك فيتفقدوهم، ثم إن ما ذكر يقتضي حشر الأصنام وهو الذي يدل عليه كثير من الآيات كقوله تعالى: إنكم وما تعبدون من دون الله حصب جهنم [الأنبياء: 98] وقوله سبحانه: ( وقودها الناس والحجارة ) [البقرة: 24، التحريم: 6] على قول، ولا أرى مانعا من حمل الشركاء على معبوداتهم الباطلة بحيث تشمل ذوي العقول أيضا. وقرأ الجمهور «تشاقون» بفتح النون، بكسرها ورويت عن ونافع ولا يلتفت إلى تضعيف الحسن، وقرأت فرقة بتشديدها على أنه أدغم نون الرفع في نون الوقاية. والكسر على حذف ياء المتكلم والاكتفاء به أي تشاقونني. على أن مشاقة الأنبياء عليهم السلام وأتباعهم كمشاقة الله تعالى شأنه ولولا ذلك لم يصح تعليق المشاقة به سبحانه. أما إذا كانت بمعنى المخاصمة فظاهر أنهم لم يخاصموا الله تعالى، وأما إذا كانت بمعنى العداوة فلأنهم لا يعتقدون أنهم أعداء لله تعالى، وأما قوله تعالى: أبي حاتم. لا تتخذوا عدوي وعدوكم أولياء [الممتحنة: 1] يعني المشركين فمؤول أيضا بغير شبهة قال الذين أوتوا العلم من أهل الموقف وهم الأنبياء عليهم السلام والمؤمنون الذين أوتوا علما بدلائل التوحيد وكانوا يدعونهم في الدنيا إلى التوحيد فيجادلونهم ويتكبرون عليهم، واقتصر على المؤمنين والأمر فيه سهل، وعن يحيى بن سلام رضي الله تعالى عنهم أنهم الملائكة عليهم السلام. ولم نقف على تقييده إياهم. وعن ابن عباس أنهم الحفظة منهم. ويشعر كلام بعضهم بأنهم ملائكة [ ص: 128 ] الموت حيث أورد على القول بأنهم الملائكة أن الواجب حينئذ يتوفونهم مكان ( تتوفاهم الملائكة ) وأنه يلزم منه الإبهام في موضع التعيين والتعيين في موضع الإبهام. وهو كما قال مقاتل في غاية السقوط، وقيل: المراد كل من اتصف بهذا العنوان من ملك وإنسي وغير ذلك. والذي يميل إليه القلب السليم القول الأول أي يقول أولئك توبيخا للمشركين وإظهارا للشماتة بهم وتقريرا لما كانوا يعظونهم وتحقيقا لما أوعدوهم به. وإيثار صيغة الماضي للدلالة على تحقق وقوعه وتحتمه حسبما هو المعهود في إخباره تعالى كقوله سبحانه: الشهاب ونادى أصحاب الجنة [الأعراف: 44].
إن الخزي الذل والهوان. وفسره بالذل الذي يستحى منه الراغب اليوم منصوب بالخزي على رأي من يرى إعمال المصدر باللام كقوله: ضعيف النكاية أعداءه. أو بالاستقرار في الظرف الواقع خبرا لإن، وفيه فصل بين العامل والمعمول بالمعطوف إلا أنه مغتفر في الظرف. وأل للحضور أي اليوم الحاضر، وإيراده للإشعار بأنهم كانوا قبل ذلك في عزة وشقاق والسوء العذاب ومن الخزي به جعل ذكر هذا للتأكيد على الكافرين بالله تعالى وآياته ورسله عليهم السلام