بالبينات والزبر أي بالمعجزات والكتب، والأولى للدلالة على الصدق، والثانية لبيان الشرائع والتكاليف.
[ ص: 149 ] وانحرف عن الحق من فسرهما بما هو مصطلح أهل الحرف. والجار والمجرور متعلق بمقدر يدل عليه ما قبله وقع جوابا عن سؤال من قال: بم أرسلوا؟ فقيل: أرسلوا ( بالبينات والزبر ) .
وجوز والحوفي تعلقه- بأرسلنا- السابق داخلا تحت حكم الاستثناء مع ( رجالا ) أي وما أرسلنا إلا رجالا بالبينات وهو في معنى قولك: ما أرسلنا جماعة من الجماعات بشيء من الأشياء إلا رجالا بالبينات، ومثل ما ضربت إلا زيدا بسوط، وهو مبني على ما جوزه بعض النحاة من جواز أن يستثنى بأداة واحدة شيئان دون عطف وأنه يجري في الاستثناء المفرغ، وأكثر النحاة على منعه كما صرح به صاحب التسهيل وغيره. الزمخشري
وقال في الكشف: والحق أنه لا يجوز لأن إلا من تتمة ما دخلت عليه كالجزء منه وللزوم الإلباس أو وجوب أن يكون جميع ما يقع بعد إلا محصورا وأن يجب نحو ما ضرب إلا زيدا عمرا إذا أريد الحصر فيهما ولا يكون فرق بين هذا وذاك، وكل ذلك ظاهر الانتفاء. جوز ذلك وصرح به في مواضع من كشافه، واستدل عليه بأن أصل ما ضربت إلا زيدا بسوط ضربت زيدا بسوط وأراد أن زيادة ما وإلا ليست إلا تأكيدا فلتؤكد لما كان أصل الكلام عليه، وهو حسن لولا أن الاستعمال والقياس آبيان، وقال بعضهم: إنه متعلق به فمن غير دخوله مع رجالا تحت حكم الاستثناء على أن أصله وما أرسلنا بالبينات والزبر إلا رجالا. والزمخشري
وتعقب بأنه لا يجوز على مذهب البصريين حيث لا يجيزون أن يقع بعد إلا مستثنى أو مستثنى منه أو تابعا وما ظن من غير الثلاثة معمولا لما قبل إلا قدر له عامل، وأجاز أن يقع معمولا لما قبلها منصوب كما ضرب إلا زيد عمرا، ومخفوض كما مر إلا زيد بعمرو ولا يعذب إلا الله بالنار، ومرفوع كما ضرب إلا زيدا عمرو، ووافقه الكسائي في المرفوع، ابن الأنباري في الظرف والجار والحال، فما ذكر مبني على مذهب والأخفش الكسائي لكن قال والأخفش، : إنه خلاف ظاهر الكلام وإخراج له عن سنن الانتظام وأكثر النحاة على أنه ممنوع، وجوز أن يكون متعلقا بما رفع صفة- لـ رجالا- أي رجالا ملتبسين بالبينات ولم يقع حالا منه، قيل: لأنه نكرة متقدمة، نعم قيل: بجواز وقوعه حالا من ضمير الرجال في ( إليهم ) وقيل: يجوز كونه حالا من ( رجالا ) لأنه نكرة موصوفة، واختار الشهاب مجيء الحال من النكرة بلا مسوغ كثيرا قياسا ونقله عن أبو حيان وإن كان دون الاتباع في القوة. سيبويه
وجوز أيضا تعلقه- بـ نوحي- وقوله سبحانه: فاسألوا أهل الذكر اعتراض على الوجوه المتقدمة أو غير الأول، وتصدير الجملة المعترضة بالفاء صرح به في التسهيل وغيره، وما نقل من منعه ليس بثبت، ثم إذا كان اعتراضا متخللا بين مقصوري حرف الاستثناء معناه فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون أنا أرسلنا رجالا بالبينات وعلى الوصفية إن كنتم لا تعلمون أنهم رجال متلبسون بالبينات، وعلى هذا يقدر الاعتراض مناسبا لما تخلل بينهما، وأشبه الأوجه أن يكون على كلامين ليقع الاعتراض موقعه اللائق به لفظا ومعنى قاله في الكشف.
وجوز أن يتعلق- بـ تعلمون- فلا اعتراض، وفي الشرط معنى التبكيت والإلزام كما في قول الأجير: إن كنت عملت لك فأعطني حقي، فإن الأجير لا يشك في أنه عمل وإنما أخرج الكلام مخرج الشك لأن ما يعامل به من التسويف معاملة من يظن بأجيره أنه لم يعمل، فهو في ذلك يلزمه مقتضى ما اعترف به من العمل ويبكته بالتقصير مجهلا إياه، فكذا ما هنا لا يشك أن قريشا لم يكونوا من علم البينات والزبر في شيء فيقول: إن كون الرسل عليهم السلام رجالا أمر مكشوف لا شبهة فيه فاسألوا أهل الذكر إن لم تكونوا من أهله يبين لكم يريد أن إنكاركم [ ص: 150 ] وأنتم لا تعلمون ليس بسديد وإنما السبيل أن تسألوا من أهل الذكر لا أن تنكروا قولهم، فإنكاركم مناف لما تقتضيه حالكم من السؤال فهو تبكيت من حيث الاعتراف بعدم العلم وسبيل الجاهل سؤال من يعلم لا إنكاره، قاله في الكشف أيضا، ثم قال: ولا أخص أهل الذكر بأهل الكتابين ليشمل النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه، ولو خص لجاز لأنهم موافقون في ذلك فإنكارهم إنكارهم، ثم التبكيت متوجه إلى العدول عن السؤال إلى الإنكار سألوا أولا انتهى. ومنه يعلم جواز أن يراد بأهل الذكر أهل القرآن، وما ذكر في تضعيفه من أنه لا حجة في إخبارهم ولا إلزام ناشئ من عدم الوقوف على هذا التحقيق الأنيق، وهذا ظاهر على تقدير تعلق ( بالبينات ) – بـ يعلمون- والباء على هذا التقدير سببية والمفعول محذوف عند بعض، وزعم آخر أنها زائدة والبينات هي المفعول، فافهم ذاك، والله تعالى يتولى هداك أبو حيان
وأنزلنا إليك الذكر أي القرآن وهو من التذكير إما بمعنى الوعظ أو بمعنى الإيقاظ من سنة الغفلة وإطلاقه على القرآن إما لاشتماله على ما ذكر ولأنه سبب له، ومنه يعلم وجه تسمية التوراة ونحوها ذكرا، وقيل: المراد بالذكر العلم وليس بذاك لتبين للناس كافة ويدخل فيهم أهل مكة دخولا أوليا ما نزل إليهم في ذلك الذكر من الأحكام والشرائع وغير ذلك من أحوال القرون المهلكة بأفانين العذاب حسب أعمالهم مع أنبيائهم عليهم السلام الموجبة لذلك على وجه التفصيل بيانا شافيا كما ينبئ عنه صيغة التفعيل في الفعلين لا سيما بعد ورود الثاني أولا على صيغة الأفعال، وعن أن المراد بهذا التبيين تفسير المجمل وشرح ما أشكل إذا هما المحتاجان للتبيين، وأما النص والظاهر فلا يحتاجان إليه. مجاهد
وقيل: المراد به إيقافهم على حسب استعداداتهم المتفاوتة على ما خفي عليهم من أسرار القرآن وعلومه التي لا تكاد تحصى، ولا يختص ذلك بتبيين الحرام والحلال وأحوال القرون الخالية والأمم الماضية، واستأنس له بما أخرجه وصححه عن الحاكم قال: « حذيفة ». قام فينا رسول الله صلى الله عليه وسلم مقاما أخبرنا فيه بما يكون إلى يوم القيامة عقله منا من عقله ونسيه من نسيه
وهذا في معنى ما ذكر غير واحد أن التبيين أعم من التصريح بالمقصود ومن الإرشاد إلى ما يدل عليه، ويدخل فيه القياس وإشارة النص ودلالته وما يستنبط منه من العقائد والحقائق والأسرار، ولعل قوله عز وجل: ولعلهم يتفكرون إشارة إلى ذلك أي وطلب أن يتأملوها فينتبهوا للحقائق وما فيه من العبر ويحترز عما يؤدي إلى ما أصاب الأولين من العذاب، وقال بعض المعتزلة: أي وإرادة أن يتفكروا في ذلك فيعلموا الحق ثم قال: وفيه دلالة على أن الله تعالى أراد من جميع الناس التفكر والنظر المؤدي إلى المعرفة بخلاف ما يقول أهل الجبر، ونحن في غنى عن تقدير الإرادة بتقدير الطلب، ومن قدرها منا أراده منها، وإلا ورد عليه عدم تأمل البعض ولعله الأكثر، وهي لا ينفك المراد عنها على المذهب الحق فلا بد من العدول عنه إلى مقابله، وقيل: أراد تعلقها بالبعض وهو المتأمل لا بالكل، وأيد بعضهم إرادة الصحابة أو ما يشملهم والنبي صلى الله عليه وسلم من أهل الذكر فيما تقدم بذكر هذه الآية بعده وليس بذي أيد