وأخرج غير واحد عن أن هذا خلق قتادة آدم وحواء عليهما السلام فإن حواء خلقت من نفسه عليه السلام، وتعقب بأنه لا يلائمه جمع الأنفس والأزواج، وحمله على التغليب تكلف غير مناسب للمقام وكذا كون المراد منهما بعض الأنفس وبعض الأزواج وجعل لكم من أزواجكم أي منها فوضع الظاهر [ ص: 190 ] موضع الضمير للإيذان بأن المراد جعل لكم منكم من زوجه لا من زوج غيره بنين وبأن نتيجة الزواج هو التوالد وحفدة جمع حافد ككاتب وكتبة، وهو من قولهم: حفد يحفد حفدا وحفودا وحفدانا إذا أسرع في الخدمة والطاعة، وفي الحديث: « » وقال إليك نسعى ونحفد جميل:
حفد الولائد حولهن وأسلمت بأكفهن أزمة الأجمال
وقد ورد الفعل لازما ومتعديا كقوله:
يحفدون الضيف في أبياتهم كرما ذلك منهم غير ذل
وجاء في لغة- كما قال - أحفد إحفادا، وقيل: الحفد سرعة القطع، وقيل: مقاربة الخطو، والمراد بالحفدة على ما روي عن أبو عبيدة الحسن. والأزهري وجاء في رواية عن واختاره ابن عباس ابن العربي أولاد الأولاد، وكونهم من الأزواج حينئذ بالواسطة، وقيل: البنات عبر عنهن بذلك إيذانا بوجه المنة فإنهن في الغالب يخدمن في البيوت أتم خدمة، وقيل: البنون والعطف لاختلاف الوصفين البنوة والخدمة، وهو منزل منزلة تغاير الذات، وقد مر نظيره فيكون ذلك امتنانا بإعطاء الجامع لهذه الوصفين الجليلين فكأنه قيل: وجعل لكم منهن أولادا هم بنون وهم حافدون أي جامعون بين هذين الأمرين، ويقرب منه ما روي عن من أن البنين صغار الأولاد والحفدة كبارهم، وكذا ما نقل عن ابن عباس من العكس، وكأن مقاتل نظر إلى أن الكبار أقوى على الخدمة (1) ابن عباس نظر إلى أن الصغار أقرب للانقياد لها وامتثال الأمر بها واعتبر الحفد بمعنى مقاربة الخط، وقيل: أولاد المرأة من الزوج الأول، وأخرجه ومقاتل ابن جرير عن وابن أبي حاتم . ابن عباس
وأخرج الطبراني في سننه والبيهقي في تاريخه والبخاري وصححه عن والحاكم أنهم الأختان وأريد بهم- على ما قيل- أزواج البنات ويقال لهم: أصهار، وأنشدوا: ابن مسعود
فلو أن نفسي طاوعتني لأصبحت لها حفد مما يعد كثير
ولكنها نفس علي أبية عيوني لأصهار اللئام تدور
والنصب على هذا بفعل مقدر أي وجعل لكم حفدة لا بالعطف على ( بنين ) لأن القيد إذا تقدم يعلق بالمتعاطفين وأزواج البنات ليسوا من الأزواج، وضعف بأنه لا قرينة على تقدير خلاف الظاهر وفيه دغدغة لا تخفى.
وقيل: لا مانع من العطف بأن يراد بالأختان أقارب المرأة كأبيها وأخيها لا أزواج البنات فإن إطلاق الأختان عليه إنما هو عند العامة وأما عند العرب فلا كما في الصحاح، وتجعل ( من ) سببية ولا شك أن الأزواج سبب لجعل الحفدة بهذا المعنى وهو كما ترى. وتعقب تفسيره بالأختان والربائب بأن السياق للامتنان ولا يمتن بذلك.
وأجيب بأن الامتنان باعتبار الخدمة ولا يخفى أنه مصحح لا مرجح. وقيل: الحفدة هم الخدم والأعوان وهو المعنى المشهور له لغة. والنصب أيضا بمقدر أي وجعل لكم خدما يحفدون في مصالحكم ويعينونكم في أموركم.
وقال بعد نقل عدة أقوال في المراد من ذلك: وهذه الأقوال مبنية على أن كل أحد جعل له من زوجته بنون وحفدة ولا يخفى أنه باعتبار الغالب، ويحتمل أن يحمل قوله تعالى: ابن عطية من أزواجكم على العموم والاشتراك أي جعل من أزواج البشر البنين والحفدة ويستقيم على هذا إجراء الحفدة على مجراها في اللغة إذ [ ص: 191 ] البشر بجملتهم لا يستغني أحدهم عن حفدة اهـ، وحينئذ لا يحتاج إلى تقدير لكن لا يخفى أن فيه بعدا، وتأخير المنصوب في الموضعين عن المجرور لما مر غير مرة من التشويق، وتقديم المجرور باللام على المجرور بمن للإيذان من أول الأمر بعود منفعة الجعل إليهم إمدادا للتشويق وتقوية له.
ورزقكم من الطيبات أي اللذائذ وهو معناها اللغوي، وجوز أن يراد بالطيب ما هو متعارف في لسان الشرع وهو الحلال. وتعقبه بأن المخاطبين بهذا الكفار وهم لا شرع لهم فتفسيره بذلك غير ظاهر، وأجيب بأنهم مكلفون بالفروع كالأصول فيوجد في حقهم الحلال والحرام، وأيضا هم مرزوقون بكثير من الحلال الذي أكلوا بعضه ولا يلزم اعتقادهم للحل ونحوه، و(من) للتبعيض لأن ما رزقوه بعض من كل الطيبات فإن ما في الدنيا منها بأسره أنموذج لما في الآخرة إذ فيها ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر، وما في الدنيا لم يصل كثير منه إليهم، والظاهر على ما ذكرنا عموم الطيبات للنبات والثمار والحبوب والأشربة والحيوان، وقيل: المراد بها ما أتى من غير نصب، وقيل: الغنائم، وليس بشيء. أبو حيان
أفبالباطل وهو منفعة الأصنام وبركتها وما ذاك إلا وهم باطل لم يتوصلوا إليه بدليل ولا أمارة، والجار والمجرور متعلق بقوله تعالى: يؤمنون وقدم للحصر فيفيد أن ليس لهم إيمان إلا بذلك كأنه شيء معلوم مستيقن وبنعمة الله المشاهدة المعاينة التي لا شبهة فيها لذي عقل وتمييز مما ذكر ومما لا تحيط به دائرة البيان هم يكفرون أي يستمرون على الكفر بها والإنكار لها كما ينكر المحال الذي لا يتصوره العقول وذلك بإضافتها إلى أصنامهم، وقيل: الباطل ما يسول لهم الشيطان من تحريم البحيرة والسائبة وغيرهما ونعمة الله تعالى ما أحل لهم. والآية على هذا ظاهرة التعلق بقوله سبحانه: ورزقكم من الطيبات فقط دون ما قبله أيضا والظاهر تعلقها بهما، ومن ذلك يظهر حال ما أخرجه عن ابن المنذر من أن الباطل الشيطان ونعمة الله تعالى محمد صلى الله عليه وسلم، وما ذكرناه قد صرح بأكثره ابن جريج ، واستفادة الحصر من التقديم ظاهرة، وأما كأنه شيء معلوم مستيقن فمستفاد من حصرهم الإيمان فيما ذكر لأن ذلك شأن المؤمن به لا سيما وقد حصروا، وأيضا المقابلة بالمشاهد المحسوس أعني نعمة الله تعالى دلت على تعكيسهم فيدل على أنهم جعلوا الموهوم بمنزلة المتيقن وبالعكس، والفاء التي للتعكيس شديدة الدلالة على هذا الأمر والحمل على أنها للعطف على محذوف ليس بالوجه كذا في الكشف، وفيه رد على ما قيل إن في كلا التركيبين تأكيدا وتخصيصا، أما التخصيص فيهما فمن تقديم المعمول، وأما التأكيد في الأول فلأن الفاء تستدعي معطوفا عليه تقديره أيكفرون بالحق ويؤمنون بالباطل والكفر بالحق مستلزم للإيمان بالباطل فقد تكرر الإيمان بالباطل والتكرير يفيد التأكيد، وأما التأكيد في الثاني فمن بناء ( يكفرون ) على هم المفيد لتقوي الحكم، وجعل كلام الزمخشري مشيرا إلى ذلك كله فتدبر. وما ذكر من أن تقديم الجار في التركيبين للتخصيص مما صرح به غير واحد، والعلامة الزمخشري جوز ذلك لكنه أقحم الإيهام هنا نظير ما فعلناه فيما سلف آنفا. البيضاوي
ووجه ذلك بأن المقام ليس بمقام تخصيص حقيقة إذ لا اختصاص لإيمانهم بالباطل ولا لكفرانهم بنعم الله سبحانه ولم يقحمه في تفسير نظير ذلك في العنكبوت فإن وجه بأنهم إذا آمنوا بالباطل كان إيمانهم بغيره بمنزلة [ ص: 192 ] العدم وإن النعم كلها من الله تعالى إما بالذات أو بالواسطة فليس كفرانهم إلا لنعمه سبحانه كما قيل لا يشكر الله من لا يشكر الناس بقي المخالفة. وأجيب بأنه إذا نظر للواقع فلا حصر فيه وإن لوحظ ما ذكر يكون الحصر ادعائيا وهو معنى الإيهام للمبالغة فلا تخالف، وجوز أن يكون التقديم للاهتمام لأن المقصود بالإنكار الذي سيق له الكلام تعلق كفرانهم بنعمة الله تعالى واعتقادهم للباطل لا مطلق الإيمان والكفران، وأن يكون لرعاية الفواصل وهو دون النكتتين، والالتفات إلى الغيبة للإيذان باستيجاب حالهم للإعراض عنهم وصرف الخطاب إلى غيرهم من السامعين تعجيبا لهم مما فعلوه.
وفي البحر أن السلمي قرأ «تؤمنون» بالتاء على الخطاب وأنه روى ذلك عن عاصم، والجملة فيما بعده على هذا كما استظهره في البحر مجردا عن الكفرة غير مندرج في التقريع. هذا بقي أنه وقع في العنكبوت أفبالباطل يؤمنون وبنعمة الله يكفرون بدون ضمير ووقع هنا ما سمعت بالضمير، وبين الخفاجي سر ذلك بأنه لما سبق في هذه السورة قوله تعالى: أفبنعمة الله يجحدون أي يكفرون كما مر فلو ذكر ما نحن فيه بدون الضمير لكانت الآية تكرارا بحسب الظاهر فأتى بالضمير الدال على المبالغة والتأكيد ليكون ترقيا في الذم بعيدا عن اللغوية، ثم قال: وقيل: إنه أجري على عادة العباد إذا أخبروا عن أحد بمنكر يجدون موجدة فيخبروا عن حاله الأخرى بكلام آكد من الأول، ولا يخفى أن هذا إنما ينفع إذا سئل لم قيل: أفبالباطل يؤمنون بدون ضمير وقيل: وبنعمت الله هم يكفرون به، وأما في الفرق بين ما هنا وما هناك فلا، وقيل: آيات العنكبوت استمرت على الغيبة فلم يحتج إلى زيادة ضمير الغائب وأما الآية التي نحن فيها فقد سبق قبلها مخاطبات كثيرة فلم يكن بد من ضمير الغائب المؤكد لئلا يلتبس بالخطاب، وتخصيص هذه بالزيادة دون ( أفبالباطل يؤمنون ) مع أنها الأولى بها بحسب الظاهر لتقدمها لئلا يلزم زيادة الفاصلة الأولى على الثانية. واعترض عليه بأنه لا يخفى أنه لا مقتضى للزوم الغيبة ولا لبس لو ترك الضمير.
وقد يقال: إنما لم يؤت في آية العنكبوت بالضمير ويبنى الفعل عليه إفادة للتقوي استغناء بتكرر ما يفيد كفر القوم بالنعم مع قربه من تلك الآية عن ذلك، على أنه قد تقدم هناك ما تستمد منه الجملتان أتم استمداد وإن كان فيه نوع بعد ومغايرة ما وذلك قوله تعالى: والذين آمنوا بالباطل وكفروا بالله أولئك هم الخاسرون [العنكبوت: 52] ولما لم تكن آية النحل فيما ذكر بهذه المرتبة جيء فيها بما يفيد التقوي، أو يقال: إنه لما كان سرد النعم هنا على وجه ظاهر في وصولها إليهم والامتنان بها عليهم كان ذلك أوفق بأن يؤتى بما يفيد كفرهم بها على وجه يشعر باستبعاد وقوعه منهم فجيء بالضمير فيه ولما لم يكن ما هنالك كذلك لم يؤت فيه بما ذكر، ولعل التعبير هنا- بـ يكفرون- وفيما قبل ( يجحدون ) لأن ما قبل كان مسبوقا على ما قيل بضرب مثل لكمال قباحة ما فعلوه والجحود أوفق بذلك لما أن كمال القبح فيه أتم ولا كذلك فيما البحث فيه كذا قيل فافهم والله تعالى بأسرار كتابه أعلم