ووجه ربط قوله تعالى: ضرب الله مثلا إلخ على هذا عند المدقق أنه تعالى بعد أن نهاهم عن ضرب الأمثال له سبحانه ضرب مثلا دل به على أنهم ليسوا أهلا لذلك وأنهم إذا كانوا على هذا الحد من المعرفة والتقليد أو المكابرة فليس لهم إلى ضرب الأمثال المطابقة المستدعى ذكاء وهداية سبيل، وقال غيره في ذلك ولعله أظهر منه إنه تعالى لما ذكر أنه يعلم كيف تضرب الأمثال وأنهم لا يعلمون علمهم كيف تضرب الأمثال في هذا الباب فقال تعالى: ( ضرب ) إلخ.
ووجه الربط على ما تقدم من أن النهي عن الإشراك أنه سبحانه لما نهاهم عن ضرب المثل الفعلي وهو الإشراك عقبه بالكشف لذي البصيرة عن فساد ما ارتكبوه بقوله سبحانه: ( ضرب ) إلخ أي أورد وذكر ما يستدل به على [ ص: 195 ] تباين الحال بين جنابه تعالى شأنه وبين ما أشركوه به سبحانه وينادي بفساد ما هم عليه نداء جليا عبدا مملوكا لا يقدر على شيء بدل من مثلا وتفسير له والمثل في الحقيقة حالته العارضة له من المملوكية والعجز التام وبحسبها ضرب نفسه مثلا ووصف العبد بالمملوكية للتمييز عن الحر لاشتراكهما في كونهما عبدا لله تعالى، وقد أدمج فيه على ما قيل إن الكل عبيد له تعالى وبعدم القدرة لتمييزه عن المكاتب والمأذون اللذين لهما تصرف في الجملة، وفي إبهام المثل أولا ثم بيانه بما ذكر ما لا يخفى من الجزالة ومن رزقناه من نكرة موصوفة على ما استظهره ليطابق ( عبدا ) فإنه أيضا نكرة موصوفة وإلى ذلك ذهب الزمخشري ، وقال أبو البقاء هي موصولة واستظهره الحوفي: ، وزعم بعضهم أن ذلك لكون استعمالها موصولة أكثر من استعمالها موصوفة، والأول مختار الأكثرين أي حرا رزقناه بطريق الملك والالتفات إلى التكلم للإشعار باختلاف حال ضرب المثل والرزق، وفي اختيار ضمير العظمة تعظيم لأمر ذلك الرزق ويزيد ذلك تعظيما قوله سبحانه: أبو حيان منا أي من جنابنا الكبير المتعالي رزقا حسنا حلالا طيبا أو مستحسنا عند الناس مرضيا ويؤخذ منه على ما قيل كونه كثيرا بنا على أن القلة التي هي أخت العدم لا حسن في ذاتها فهو ينفق منه تفضلا وإحسانا، والفاء لترتب الإنفاق على الرزق كأنه قيل: ومن رزقناه منا رزقا حسنا فأنفق وإيثار المنزل من الجملة الاسمية الفعلية الخبر للدلالة على ثبات الإنفاق واستمراره التجددي سرا وجهرا أي حال السر وحال الجهر أو إنفاق سر وإنفاق جهر والمراد بيان عموم إنفاقه للأوقات وشموله إنعامه لمن يجتنب عن قبوله جهرا.
وجوز أن يكون وصفه بالكثرة مأخوذا من هذا بناء أن المراد منه كيف يشاء وهو يدل على أنحاء التصرف وسعة المتصرف منه، وتقديم السر على الجهر للإيذان بفضله عليه، وقد مر الكلام في ذلك والعدول عن تطبيق القرينتين بأن يقال: وحرا مالكا للأموال مع كونه أدل على تباين الحال بينه وبين قسيمه لما في إرشاد العقل السليم من توخي تحقيق الحق بأن الأحرار أيضا تحت ربقة عبوديته تعالى وأن مالكيتهم لما يملكونه ليست إلا بأن يرزقهم الله تعالى إياه من غير أن يكون لهم مدخل في ذلك مع محاولة المبالغة في الدلالة على ما قصد بالمثل من تباين الحال بين الممثلين فإن العبد المملوك حيث لم يكن مثل العبد المالك فما ظنك بالجماد ومالك الملك خلاق العالمين هل يستوون جمع الضمير وإن تقدمه اثنان وكان الظاهر- يستويان- للإيذان بأن المراد بما ذكر من اتصف بالأوصاف المذكورة من الجنسين المذكورين لا فردان معينان منهما وإن أخرج ابن عساكر وجماعة عن رضي الله تعالى عنهما أن الآية نزلت في ابن عباس هشام بن عمرو وهو الذي ينفق ماله سرا وجهرا وفي عبده أبي الجوزاء الذي كان ينهاه والله تعالى أعلم بصحته. وقيل: نزلت في رضي الله تعالى عنه وعبد له ولا يصح إسناده كما في البحر، وفيه أنه يحتمل أن يكون الجمع باعتبار أن المراد- بمن- الجمع وأن يكون باعتبار عود الضمير على العبيد والأحرار وإن لم يجر لهما ذكر لدلالة «عبد مملوك» عثمان بن عفان ومن رزقناه عليهما، والمعول عليه ما ذكر أولا، والمعنى هل يستوي العبيد والأحرار الموصوفون بما ذكر من الصفات مع أن الفريقين سيان في البشرية والمخلوقية لله سبحانه وأن ما ينفقه الأحرار ليس مما لهم دخل في إيجاده ولا تملكه بل هو مما أعطاه الله تعالى إياهم فحيث لم يستو الفريقان فما ظنكم برب العالمين حيث تشركون به ما لا ذليل [ ص: 196 ] أذل منه وهو الأصنام، وقيل: إن هذا تمثيل للكافر المخذول والمؤمن الموفق شبه الأول بمملوك لا تصرف له لأنه لإحباط عمله وعدم الاعتداد بأفعاله واتباعه لهواه كالعبد المنقاد الملحق بالبهائم بخلاف المؤمن الموفق، وجعله تمثيلا لذلك مروي عن رضي الله تعالى عنهما، ابن عباس ولا تعيين أيضا وإن قيل: إن الآية نزلت في وقتادة رضي الله تعالى عنه أبي بكر وأبي جهل، على أن أبا حيان قال: إنه لا يصح إسناد ذلك، هذا ثم اعلم أنهم اختلفوا في العبد هل يصح له ملك أم لا قال في الكشاف: المذهب الظاهر أنه لا يصح وبه قال وقال الشافعي، ابن المنير على ما لخصه في الكشف من كلام طويل إنه يصح له الملك عند مالك: وظاهر الآية تشهد له لأنه أثبت له العجز بقوله تعالى: مملوكا ثم نفى القدرة العارضة بتمليك السيد بقوله سبحانه: لا لا يقدر على شيء وليس المعنى القدرة على التصرف لأن مقابله ومن رزقناه منا رزقا حسنا والحمل على إخراج المكاتب مع شذوذه إيجاز مع إخلال كما قال رحمه الله تعالى في: « إمام الحرمين » الحمل على المكاتبة بعيد لا يجوز والمأذون لم يخرج لما مر من أن المراد بالقدرة ما هو، وليس لقائل أن يقول: إنه صفة لازمة موضحة فالأصل في الصفات التقييد اهـ. أيما امرأة نكحت بغير إذن وليها
وتعقبه المدقق بقوله: والجواب أن المعنى على نفي القدرة عن التصرف فالآية واردة في تمثيل حال الأصنام به تعالى عن ذلك علوا كبيرا وكلما بولغ في حال عجز المشبه به وكمال المقابل دل في المشبه به أيضا على ذلك فالذي يطابق المقام القدرة على التصرف وهو في مقابلة قوله تعالى: ينفق منه سرا وجهرا وما ذكره لا حاصل له ولا إخلال في إخراج المكاتب لشمول اللفظ مع أن المقام مقام مبالغة فما يتوهم دخوله بوجهه ينبغي أن ينفى وأين هذا مما نقله عن إمام الحرمين اهـ. واستدل بالآية أيضا على أن أيضا وروي ذلك عن العبد لا يملك الطلاق رضي الله تعالى عنهما، فقد أخرج ابن عباس عنه أنه قال: ليس للعبد طلاق إلا بإذن سيده وقرأ الآية وقد فصلت أحكام العبيد في حكم الفقه على أتم وجه ابن أبي حاتم الحمد لله أي كله له سبحانه لا يستحقه أحد غيره تعالى لأنه جل شأنه المولي للنعم وإن ظهرت على أيدي بعض الوسائط فضلا عن استحقاق العبادة.
وفيه إرشاد إلى ما هو الحق من أن ما يظهر على يد من ينفق فيما ذكر راجع إليه تعالى كما لوح به رزقناه وقال غير واحد هذا حمد على ظهور المحجة وقوة هذه الحجة بل أكثرهم لا يعلمون
ما ذكر فيضيفون نعمه تعالى إلى غيره ويعبدونه لأجلها أو لا يعلمون ظهور ذلك وقوة ما هنالك فيبقون على شركهم وضلالهم، ونفي العلم عن أكثرهم للإشعار بأن بعضهم يعلمون ذلك وإنما لم يعملوا بموجبه عنادا وقيل: المراد بالأكثر الكل فكأنه قيل: هم لا يعلمون، وقيل: ضمير هم للخلق والأكثر هم المشركون، وكلا القولين خلاف الظاهر.