وإن من قرية الظاهر العموم لأن إن نافية ومن زائدة لاستغراق الجنس أي: وما من قرية من القرى إلا نحن مهلكوها قبل يوم القيامة بإماتة أهلها حتف أنوفهم أو معذبوها عذابا شديدا بالقتل وأنواع البلاء، وروي هذا عن وهو ظاهر ما روي عن مقاتل وإليه ذهب مجاهد وجماعة، وروي عن الأول أنه قال: الهلاك للصالحة والعذاب للطالحة، وقال أيضا: وجدت في كتاب الجبائي الضحاك بن مزاحم في تفسيرها: أما مكة فتخربها الحبشة، وتهلك المدينة بالجوع، والبصرة بالغرق، والكوفة بالترك، والجبال بالصواعق والرواجف، وأما خراسان فهلاكها ضروب، ثم ذكر بلدا بلدا.
وروي عن أن الجزيرة آمنة من الخراب حتى تخرب وهب بن منبه أرمينية، وأرمينية آمنة حتى تخرب مصر، ومصر آمنة حتى تخرب الكوفة، ولا تكون الملحمة الكبرى حتى تخرب الكوفة، فإذا كانت الملحمة الكبرى فتحت قسطنطينية على يد رجل من بني هاشم، وخراب الأندلس من قبل الزنج، وخراب إفريقية من قبل الأندلس، وخراب مصر من انقطاع النيل واختلاف الجيوش فيها، وخراب العراق من الجوع، وخراب الكوفة من قبل عدو يحصرهم ويمنعهم الشرب من الفرات، وخراب البصرة من قبل العراق، وخراب الأبلة من عدو يحصرهم برا وبحرا، وخراب الري من الديلم، وخراب خراسان من قبل النبت، وخراب النبت من قبل الصين، وخراب الهند واليمن من قبل الجراد والسلطان، وخراب مكة من الحبشة، وخراب المدينة من قبل الجوع.
وعن رضي الله تعالى عنه أبي هريرة المدينة». أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «آخر قرية من قرى الإسلام خرابا
كذا نقله العلامة أبو السعود وما في كتاب وكذا ما روي عن الضحاك لا يكاد يعول عليه، وما روي عن وهب مقبول، وقد رواه عنه بهذا اللفظ أبي هريرة ورواه أيضا النسائي، بنحوه، وقال: حسن غريب. الترمذي
ورواه بلفظ: أبو حيان المدينة». «آخر قرية في الإسلام خرابا
وفي البحور الزاخرة أن [ ص: 101 ] سبب خرابها أن بعض أهلها يخرجون مع المهدي إلى الجهاد ثم ترجف بمنافقيها وترميهم إلى الدجال ويهاجر بعض المخلصين إلى بيت المقدس عند إمامهم، ومن بقي منهم تقبض الريح الطيبة روحه فتبقى خاوية، ويأبى كونها سبب خرابها الجوع حسبما سمعت عن الضحاك وابن منبه، ظاهر ما أخرجه الشيخان: المدينة على خير ما كانت مذللة ثمارها لا يغشاها إلا العوافي الطير والسباع وآخر من يحشر راعيان من مزينة». الحديث. «لتتركن
وأخرج بسند رجاله ثقات: الإمام أحمد «المدينة يتركها أهلها وهي مرطبة قالوا: فمن يأكلها؟ قال: السباع والعوافي».
وما ذكر من أن مكة تخربها الحبشة ثابت.
في الصحيحين وغيرهما لكن بلفظ: الكعبة ذو السويقتين من الحبشة». «يخرب
وفي حديث مرفوعا: حذيفة «كأني أنظر إلى حبشي أحمر الساقين أزرق العينين أفطس الأنف كبير البطن وقد صف قدميه على الكعبة هو وأصحاب له ينقضونها حجرا حجرا ويتداولونها بينهم حتى يطرحوها في البحر».
وفي حديث عن أحمد أنه تجيء أبي هريرة الحبشة فيخربونه؛ أي البيت خرابا لا يعمر بعده أبدا.
نعم اختلف في أنه متى يكون ذلك؟ فقيل: زمن عيسى عليه السلام، وقيل: حين لا يبقى على الأرض من يقول: الله. وهو آخر الآيات، ومال إلى ذلك السفاريني، وظاهر ما تقدم في المدينة من الأخبار بأنها آخر قرى الإسلام خرابا يقتضي أن خراب مكة قبلها. والله تعالى أعلم.
وما ذكر في خبر ابن منبه من أن مصر آمنة حتى تخرب الكوفة إن صح يقتضي أن الكوفة تعمر ثم تخرب وإلا فهي قد خربت منذ مئات من السنين وبقيت إلى الآن خرابا، ومصر آمنة عامرة على أحسن حال اليوم وبعمارتها حسبما يقتضيه الخبر جاءت آثار عديدة كما لا يخفى على من طالع الكتب المؤلفة في أمارات الساعة وأخبار المهدي والسفياني إلا أن في أكثرها للمنقر مقالا. وزعم البوني وأضرابه أنها تعمر في أواخر القرن الثالث عشر وقد أخذوا ذلك من كلام الشيخ محيي الدين قدس سره، وأنت تعلم أنه أشبه شيء بالهندية ولا يكاد يعد من اللغة العربية، وما ذكر من أن خراب العراق من الجوع يعم بغداد فإنها قاعدته.
وقال في الشفاء: روي أنه صلى الله عليه وسلم قال: القاضي عياض «تبنى مدينة بين دجلة ودجيل وقطربل والصراة تنقل إليها الخزائن يخسف بها».
يعني بغداد، وهذا صريح في أن هلاكها بالخسف لا بالجوع، لكن ذكر المحدثون أن في سند الخبر مجهولا، ثم الظاهر على هذا التفسير أن قوله تعالى: أو معذبوها إلخ مقيد بمثل ما قيد به المعطوف عليه فيكون كل من الإهلاك والتعذيب قبل يوم القيامة، أي في الزمان القريب منه وقد شاع استعمال ذلك بهذا المعنى وستسمعه قريبا إن شاء الله تعالى في الحديث، وإنكاره مكابرة غير مسموعة، وكأنه سبحانه بعد أن ذكر من شأن البعث والتوحيد ما ذكر ذكر بعض ما يكون قبل يوم البعث مما يدل على عظمته سبحانه وفيه تأييد لما ذكر قبله، وقد صح أنه بعد موت عيسى عليه السلام تجيء ريح باردة من قبل الشام فلا تبقي على وجه الأرض أحدا في قلبه مثقال ذرة من إيمان إلا قبضته فيبقى شرار الناس وعليهم تقوم الساعة، وجاء في غير ما خبر: ما يصيب الناس قبل قيامها من العذاب، فمن ذلك ما أخرجه الطبراني عن وابن عساكر حذيفة بن اليمان رضي الله تعالى عنه: لتقصدنكم نار هي اليوم خامدة في واد يقال له برهوت يغشى الناس فيها عذاب أليم، تأكل الأنفس والأموال تدور الدنيا كلها في ثمانية أيام تطير طيران الريح والسحاب، حرها بالليل أشد من حرها بالنهار، ولها بين السماء والأرض دوي كدوي الرعد القاصف قيل: يا رسول الله، أسليمة يومئذ على المؤمنين والمؤمنات؟ قال: وأين المؤمنون والمؤمنات؟ الناس يومئذ شر من الحمر يتسافدون كما يتسافد البهائم، وليس فيهم رجل يقول: [ ص: 102 ] مه مه، إلى غير ذلك من الأخبار، ولا يبعد بعد أن اعتبر العموم في القرية حمل الإهلاك والتعذيب على ما تضمنته تلك الأخبار من إماتة المؤمنين بالريح وتعذيب الباقين من شرار الناس بالنار المذكورة، وصح أنها تسوقهم إلى المحشر وورد أنهم يتقون بوجوههم كل حدب وشوك وأنه تلقى الآفة على الظهر حتى لا تبقى ذات ظهر حتى إن الرجل ليعطى الحديقة المعجبة بالشارف ذات القتب ليفر عليها، وكون ذلك قبل يوم القيامة هو المعول عليه وقد اعتمده الحافظ ابن حجر وصوبه وذهب إليه القاضي عياض القرطبي والخطابي وجاء مصرحا به في بعض الأحاديث.
فقد أخرج الإمام أحمد وقال: حسن صحيح عن والترمذي رضي الله تعالى عنهما مرفوعا: ابن عمر حضرموت أو من بحر حضرموت قبل يوم القيامة تحشر الناس. الحديث. ستخرج نار من
ولا يبعد أن يعذبوا بغير ذلك أيضا، بل في الآثار ما يقتضيه كان ذلك أي: ما ذكر من الإهلاك والتعذيب في الكتاب أي: في اللوح المحفوظ كما روي عن إبراهيم التيمي وغيره مسطورا مكتوبا، وذكر غير واحد أنه ما من شيء إلا بين فيه بكيفياته وأسبابه الموجبة له ووقته المضروب له. واستشكل العموم بأنه يقتضي عدم تناهي الأبعاد وقد قامت البراهين النقلية والعقلية على خلاف ذلك فلا بد أن يقال بالتخصيص بأن يحمل الشيء على ما يتعلق بهذه النشأة أو نحو ذلك، وقال بعضهم بالعموم إلا أنه التزم كون البيان على نحو يجتمع مع التناهي فاللوح المحفوظ في بيانه جميع الأشياء الدنيوية والأخروية وما كان وما يكون نظير الجفر الجامع في بيانه لما يبينه، وقد رأيت أنا صحيفة للشيخ الأكبر قدس سره ادعى أنه يعلم منها ما يقع في أرض المحشر يوم القيامة وأخرى ادعى أنه يعلم منها أسماء أهل الجنة والنار وأسماء آبائهم وأخرى ادعى أنه يعلم منها الحوادث التي تكون في الجنة، وقبول هذه الدعاوى وردها مفوض إليك، وفسر بعضهم الكتاب بالقضاء السابق ففي الكلام تجوز لا يخفى.
هذا وذهب أبو مسلم إلى أن المراد ما من قرية من قرى الكفار واختاره المولى أبو السعود وجعل الآية بيانا لتحتم حلول عذابه تعالى بمن لا يحذره إثر بيان أنه حقيق بالحذر وأن أساطين الخلق من الملائكة والنبيين عليهم السلام على حذر من ذلك، وذكر أن المعنى: ما من قرية من قرى الكفار إلا نحن مخربوها البتة بالخسف بها أو بإهلاك أهلها بالمرة لما ارتكبوا من عظائم الموبقات المستوجبة لذلك أو معذبو أهلها عذابا شديدا لا يكتنه كنهه والمراد به ما يعم البلايا الدنيوية من القتل والسبي ونحوهما، والعقوبات الأخروية مما لا يعلمه إلا الله تعالى حسبما يفصح عنه إطلاق التعذيب عما قيد به الإهلاك من قبلية يوم القيامة ولا يخص بالبلايا الدنيوية، كيف وكثير من القرى العاتية العاصية قد أخرت عقوبتها إلى يوم القيامة، ثم إنه يحتمل أن يقال في وجه الربط على تقدير التخصيص: أنه سبحانه بعد أن أشار إلى أن الكفرة المخاطبين في بلاء وضر، وأن آلهتهم لا يملكون كشف ذلك عنهم ولا تحويله، أشار إلى أن مثل ذلك لا بد وأن يصيب الكفرة ولا يملك أحد كشفه ولا تحويله عنهم، وهذا ظاهر بناء على ما تقدم عن البعض في سبب النزول الذي بسببه فسر الضر بالقحط فتأمل.
وفي اختيار صيغة الفاعل في الموضعين وإن كانت بمعنى المستقبل من الدلالة على التحقق والتقرر ما فيه، والتقييد بيوم القيامة لأن الإهلاك يومئذ غير مختص بالقرى الكافرة ولا هو بطريق العقوبة وإنما هو لانقضاء عمر الدنيا، ثم قال: إن تعميم القرية لا يساعده السباق ولا السياق. اه وفيه تأمل.
ومن الناس من رجحه [ ص: 103 ] على ما سبق بأن فيه حمل الإهلاك على ما يتبادر منه وهو ما يكون عن عقوبة ولا كذلك فيما سبق.
وأجيب بأن ذلك سهل فقد استعمل في مقام التخويف فيما لم يكن عن عقوبة كقوله تعالى: