فقد أخرج أحمد والنسائي وصححه والحاكم وغيرهم عن والطبراني قال: ابن عباس مكة النبي صلى الله عليه وسلم أن يجعل لهم الصفا ذهبا وأن ينحي عنهم الجبال فيزرعوا فقيل له: إن شئت أن تستأني بهم وإن شئت أن تؤتيهم الذي سألوا، فإن كفروا أهلكوا كما أهلكت من قبلهم من الأمم فقال عليه الصلاة والسلام: لا بل أستأني بهم، فأنزل الله تعالى هذه الآية. سأل أهل
وأن ما بعدها في تأويل مصدر منصوب على أنه مفعول منع على ما صرح به الطبرسي أو منصوب بنزع الخافض كما قيل: لتعدي الفعل إلى مفعوله الثاني بالحرف كما في قوله تعالى: ألم نستحوذ عليكم ونمنعكم من المؤمنين أي: وما منعنا الإرسال أو من الإرسال بالآيات إلا أن كذب بها أي: بجنسها الأولون من الأمم السابقة المقترحة، والاستثناء مفرغ من أعم الأشياء وأن وما بعدها في تأويل مصدر فاعل منع؛ أي: ما منعنا شيء من الأشياء إلا تكذيب الأولين.
وزعم أنه على تقدير مضاف؛ أي إلا إهلاك تكذيب الأولين، ولا حاجة إليه عند الآخرين. أبو البقاء
والمنع لغة كف الغير وقسره عن فعل يريد أن يفعله ولاستحالة ذلك في حقه سبحانه لاستلزامه العجز المحال المنافي للربوبية قالوا: إنه هنا مستعار للصرف وأن المعنى: وما صرفنا عن إرسال الآيات المقترحة إلا تكذيب الأولين المقترحين المستتبع لاستئصالهم فإنه يؤدي إلى تكذيب الآخرين المقترحين بحكم اشتراكهم في العتو والعناد وهو مفض إلى أن يحل بهم مثل ما حل بهم بحكم الشركة في الجريرة والفساد وجريان السنة الإلهية والعادة الربانية بذلك، وفعل ذلك بهم مخالف لما كتب في لوح القضاء بمداد الحكمة من تأخير عقوبتهم، وحاصله أنا تركنا إرسال الآيات لسبق مشيئتنا تأخير العذاب عنهم لحكم نعلمها، واستشعر بعضهم من الصرف نوع محذور فجعل المنع مجازا عن الترك. وتعقب بأنه لا يصح مع كون الفاعل التكذيب لأن التارك هو الله تعالى.
وأجيب بأن دعوى لزوم اتحاد الفاعل في المعنى الحقيقي والمستعار له مما لم يقم عليه دليل بل الظاهر خلافه. وذكر بعض المحققين -ولله تعالى أبوه- وإن نوقش أن تكذيب الأولين المستتبع للاستئصال والمستلزم لتكذيب الآخرين المفضي لحلول الوبال مناف لإرسال الآيات المقترحة لتعين التكذيب المستدعي لما ينافي الحكمة في تأخير عقوبة هذه الأمة فعبر عن تلك المنافاة بالمنع على نهج الاستعارة إيذانا بتعاضد مبادئ الإرسال لا كما زعموا من عدم إرادته تعالى لتأييد رسوله صلى الله عليه وسلم بالمعجزات وهو السر في إيثار الإرسال على الإيتاء لما فيه من الإشعار بتداعي الآيات إلى النزول لولا أن تمسكها يد التقدير، وإسناد المنع إلى تكذيب الأولين لا إلى علمه تعالى بما سيكون من المقترحين الآخرين كما في قوله تعالى: ولو علم الله فيهم خيرا لأسمعهم ولو أسمعهم لتولوا وهم معرضون لإقامة الحجة عليهم بإبراز الأنموذج وللإيذان بأن مدار عدم الإجابة إلى إيتاء مقترحهم ليس إلا صنيعهم، ثم حكمة التأخير قيل إظهار مزيد شرف النبي صلى الله عليه وسلم، وقيل: العناية بمن سيولد من بعضهم من المؤمنين وبمن سيؤمن منهم، وينبغي أن يزاد في كل إلى غير ذلك مثلا وإلا فلا حصر، وقيل: معنى الآية: إنا لا نرسل الآيات المقترحة لعلمنا بأنهم لا يؤمنون عندها كما لم يؤمن بها من اقترحوها قبلهم فيكون إرسالها عبثا لا فائدة فيه، والحكيم لا يفعله، وأنت تعلم أنه إذا كان إرسال المقترح إذا لم يؤمن عنده المقترح عبثا لا يفعله الحكيم أشكل [ ص: 104 ] فعله من أول مرة على أن ما روي في سبب النزول يقتضي التفسير الأول كما لا يخفى وفسرت الآيات بالمقترحة لأن ما بها إثبات دعوى الرسالة من مقتضيات الإرسال وما زاد على ذلك ولم يكن عن اقتراح لطف من الملك المتعال.
وآتينا ثمود الناقة عطف على ما يفصح عنه النظم الكريم كأنه قيل: وما منعنا أن نرسل بالآيات إلا أن كذب بها الأولون حيث آتيناهم ما اقترحوا على أنبيائهم عليهم السلام من الآيات الباهرة فكذبوها وآتينا ثمود الناقة باقتراحهم على نبيهم صالح عليه السلام وأخرجناها لهم من الصخرة مبصرة على صيغة اسم الفاعل حال من الناقة، والمراد ذات إبصار أو ذات بصيرة يبصرها الغير ويتبصر بها فالصيغة للنسب أو جاعلة الناس ذوي بصائر على أنه اسم فاعل من أبصره والهمزة للتعدية أي جعله ذا بصيرة وإدراك ويحتمل أن يكون إسناد الإبصار إليها مجازا وهو في الحقيقة حال من يشاهدها وقرأ قوم: «مبصرة» بزنة اسم المفعول أي يبصرها الناس ولا خفاء في ذلك.
وقرأ «مبصرة» بفتح الميم والصاد أي محل إبصار بجعل الحامل على الشيء بمنزلة محله نحو: الولد مبخلة مجبنة. وقرأ قتادة: رضي الله تعالى عنهما: «مبصرة» بزنة اسم الفاعل والرفع على إضمار مبتدأ؛ أي: هي مبصرة، وقرأ الجمهور: ( ثمود ) ممنوعا من الصرف، وقال زيد بن علي هارون: أهل الكوفة ينونون في كل وجه، وقال لا تنون العامة، والعلماء بالقرآن ( ثمود ) في وجه من الوجوه وفي أربعة مواطن ألف مكتوبة ونحن نقرؤه بغير ألف اه. أبو حاتم:
وهو كما قال عجمي، وقيل: عربي وترك صرفه لكونه اسم قبيلة، وهو فعول من الثمد وهو الماء القليل الذي لا مادة له ومنه قيل: فلان مثمود ثمدته النساء، أي قطعن مادة مائه لكثرة غشيانه لهن، ومثمود إذا كثر عليه السؤال حتى نفدت مادة ماله وصحح كثير عربيته، أي: آتينا تلك القبيلة الناقة الراغب فظلموا بها أي فكفروا بها وجحدوا كونها من عند الله تعالى لتصديق رسوله أو فكفروا بها ظالمين، أي: لم يكتفوا بمجرد الكفر بها بل فعلوا بها ما فعلوا من العقر أو ظلموا أنفسهم وعرضوها للهلاك بسبب عقرها. ولعل تخصيص إيتائها بالذكر لما أن ثمود عرب مثل أهل مكة المقترحين وأن لهم من العلم بحالهم ما لا مزيد عليه حيث يشاهدون آثار هلاكهم لقرب ديارهم منهم ورودا وصدورا، وجوز أن يكون ذلك لأن الناقة من جهة أنها حيوان أخرج من الحجر أوضح دليل على تحقق مضمون قوله تعالى: قل كونوا حجارة أو حديدا إلخ. والأول أقرب وما نرسل بالآيات إلا تخويفا أي: لمن أرسلت عليهم، والمراد بها إما المقترحة فالتخويف بالاستئصال لإنذارها به في عادة الله تعالى، أي: ما نرسلها إلا تخويفا من العذاب المستأصل كالطليعة له، فإن لم يخافوا فعل بهم ما فعل، وإما غيرها كآيات القرآن والمعجزات فالتخويف بعذاب الآخرة دون العذاب الدنيوي بالاستئصال أي ما نرسلها إلا تخويفا وإنذارا بعذاب الآخرة. واستظهر كون المراد بها الآيات التي معها إمهال كالخسوف والكسوف وشدة الرعد والبرق والرياح والزلازل وغور ماء العيون وزيادتها على الحد حتى يغرق منها بعض الأرضين، وعد الحسن من ذلك الموت الذريع؛ أي: ما نرسلها إلا تخويفا مما هو أعظم منها. أبو حيان
أخرج عن ابن جرير قال: إن الله تعالى يخوف الناس بما شاء من آياته لعلهم يعتبون أو يذكرون ويرجعون، وذكر قتادة أن آيات الله تعالى المعتبر بها ثلاثة أقسام، قسم عام في كل شيء، ففي كل شيء له آية، تدل على أنه واحد، وهناك فكرة العلماء، وقسم معتاد كالرعد والكسوف وهناك فكرة الجهلة، وقسم [ ص: 105 ] خارق للعادة وقد انقضى بانقضاء النبوة وإنما يعتبر اليوم بتوهم مثله وتصوره اه. ابن عطية
وفيه غفلة عن الكرامة فإن أهل السنة يثبتونها للولي في كل عصر، والجملة مستأنفة لا محل لها من الإعراب، وجوز على الوجه الأول أن تكون حالا من ضمير ظلموا؛ أي: فظلموا بها ولم يخافوا العاقبة، والحال أنا ما نرسل بالآيات التي هي من جملتها إلا تخويفا من العذاب الذي يعقبها فنزل بهم ما نزل، ونصب تخويفا على أنه مفعول له.
وجوز أن يكون حالا أي مخوفين، والباء في الموضعين سيف خطيب، و (الآيات) مفعول نرسل أو للملابسة والمفعول محذوف؛ أي: ما نرسل نبيا ملتبسا بها، وقيل: إنها للتعدية وأن أرسل يتعدى بنفسه وبالباء. ورد بأنه لم ينقل عن أحد من الثقات، قال الخفاجي: ولا حجة في قول كثير:
لقد كذب الواشون ما بحت عندهم بسر ولا أرسلتهم برسول
لاحتمال الزيادة فيه أيضا مع أن الرسول فيه بمعنى الرسالة فهو مفعول مطلق والكلام في دخولها على المفعول به، ولا يخفى أن جعل الرسول مفعولا به وزيادة الباء فيه مما لا يقدم عليه فاضل.