أقم الصلاة لدلوك الشمس إلى غسق الليل الآية، ذكر أن صلاة المواصلة والمناغاة في مقام الخفي وصلاة المشاهدة في مقام الروح وصلاة المناجاة في مقام السر وصلاة الحضور في مقام القلب وصلاة المطاوعة والانقياد في مقام النفس، فدلوك الشمس إشارة إلى زوال شمس الوحدة عن الاستواء على وجود العبد بالفناء المحض فإنه لا صلاة في حال الاستواء؛ إذ لا وجود [ ص: 197 ] للعبد حينئذ ولا شعور له بنفسه، وإنما تجب بالزوال وحدوث ظل وجود العبد سواء عند الاحتجاب بالخلق وهو حالة الفرق قبل الجمع أو عند البقاء وهو حالة الفرق بعد الجمع، وغسق الليل إشارة إلى غسق ليل النفس، وقرآن الفجر إشارة إلى قرآن فجر القلب، وأدل الصلوات وألطفها صلاة المواصلة، وأفضلها صلاة الشهود المشار إليها بصلاة العصر، وأخفها صلاة السر المشار إليها بصلاة المغرب، وأشدها تثبيتا للنفس صلاة النفس المشار إليها بصلاة العشاء، وأزجرها للشيطان صلاة الحضور المشار إليها بالفجر. الصلاة على خمسة أقسام،
إن قرآن الفجر كان مشهودا أي: تشهده ملائكة الليل والنهار، وهذا إشارة إلى نزول صفات القلب وأنوارها وذهاب صفات النفس وزوالها.
ومن الليل فتهجد به نافلة لك أي: زيادة على الفرائض الخمس خاصة بك، قيل: لكونه علامة مقام النفس فيجب تخصيصه بزيادة الطاعة لزيادة احتياج هذا المقام إلى الصلاة بالنسبة إلى سائر المقامات، وقيل: إنما خص صلى الله عليه وسلم بالتهجد لأن الليل وقت خلوة المحب بالحبيب وهو عليه الصلاة والسلام الحبيب الأعظم، والخليل المكرم.
عسى أن يبعثك ربك مقاما محمودا وهو مقام إلحاق الناقص بالكامل والكامل بالأكمل وقل رب أدخلني حضرة الوحدة في عين الجمع مدخل صدق إدخالا مرضيا بلا آفة زيغ البصر إلى الالتفات إلى الغير أصلا وأخرجني إلى فضاء الكثرة عند الرجوع إلى التفصيل بالوجود. الموهوب الحقاني مخرج صدق سالما من آفة التلوين والانحراف عن جادة الاستقامة واجعل لي من لدنك سلطانا نصيرا حجة ناصرة بالتثبيت والتمكين وقل إذا زالت نقطة الغين عن العين جاء الحق أي: ظهر الوجود الثابت وهو الوجود الواجبي وزهق الباطل وهو الوجود الإمكاني.
ففي الحديث الصحيح: أصدق كلمة قالها شاعر كلمة لبيد:
ألا كل شيء ما خلا الله باطل
ويقال: الحق العلم، والباطل الجهل، والحق ما بدا من الإلهام، والباطل هواجس النفس ووساوس الشيطان. وقال فارس: كل ما يحملك على سلوك سبيل الحقيقة فهو حق، وكل ما يحجبك ويفرق عليك وقتك فهو باطل وننزل من القرآن ما هو شفاء من أمراض الصفات الذميمة ورحمة للمؤمنين بالغيب يفيدهم الكمالات والفضائل العظيمة، فالأول إشارة إلى التخلية والثاني إلى التحلية، ويقال: هو شفاء من داء الشك لضعفاء المؤمنين، ومن داء النكرة للعارفين، ومن وجع الاشتياق للمحبين، ومن داء القنوط للمريدين والقاصدين، وأنشدوا:
وكتبك حولي لا تفارق مضجعي وفيها شفاء للذي أنا كاتم
ولا يزيد الظالمين الباخسين حظوظهم من الكمال بالميل إلى الشهوات النفسانية إلا خسارا بزيادة ظهور أنفسهم بصفاتها من إنكار ونحوه.
وإذا أنعمنا على الإنسان أعرض ونأى بجانبه فاحتجب بالنعمة عن المنعم ولم يشكر وإذا مسه الشر كان يئوسا لجهله بعظيم قدرة الله تعالى ولم يصبر قل كل يعمل على شاكلته على طريقته التي تشاكل استعداده وكل إناء بالذي فيه يرشح.
ويسألونك عن الروح قل الروح من أمر ربي أي: من عالم الإبداع وهو عالم الذوات المقدسة عن الشكل واللون والجهة والأين فلا يمكن إدراك المحجوبين لها وما أوتيتم من العلم إلا قليلا وهو علم المحسوسات ( من يهد الله ) بنوره بمقتضى العناية الأزلية فهو المهتد دون غيره ومن يضلل بمنع ذلك النور عنه فلن تجد لهم أولياء من دونه تعالى يهدونه أو يحفظونه من قهره عز وجل ونحشرهم يوم القيامة على وجوههم لانجذابهم إلى الجهة السفلية عميا وبكما وصما لأنها أحوال تناسب أحوالهم في الدنيا إن الذين أوتوا العلم من قبله إذا يتلى عليهم يخرون للأذقان سجدا [ ص: 198 ] لعلمهم بحقيته، ووقوفهم على ما أودع فيه من الأسرار ويخرون للأذقان يبكون لعظمته أو شوقا لمنزله وحبا للقائه، قال أبو يعقوب السوسي: البكاء على أنواع: بكاء من الله تعالى؛ وهو أن يبكي خوفا مما جرى به القلم في الفاتحة ويظهر في الخاتمة، وبكاء على الله عز وجل وهو أن يبكي تحسرا على ما يفوته من الحق تعالى، وبكاء لله تبارك وتعالى وهو أن يبكي عند ذكره سبحانه وذكر وعده ووعيده، وبكاء بالله تعالى وهو أن يبكي بلا حظ منه في بكائه، وقال القاسم: البكاء على وجوه: بكاء الجهال على ما جهلوا، وبكاء العلماء على ما قصروا، وبكاء الصالحين مخافة الفوت، وبكاء الأئمة مخافة السبق، وبكاء الفرسان من أرباب القلوب للهيبة والخشية ولا بكاء للموحدين، وفي الآية إشارة ما إلى السماع ولا أشرف من سماع القرآن فهو الروح والريحان قل ادعوا الله أو ادعوا الرحمن قيل: دعاء الله بالفناء في الذات ودعاء الرحمن بالفناء في الصفة، وصفة الرحمانية هي أم الصفات وبها استوى سبحانه على عرشه، ومن ذلك يعلم أنه ليس المراد من الإيجاد إلا رحمة الموجودين أيا ما تدعوا أي: أيا ما طلبت من هذين المقامين فله تعالى في هذين المقامين الأسماء الحسنى لا لك؛ إذ لست هناك بموجود أما في الفناء في الذات فظاهر، وأما في الفناء في الصفة المذكورة فلأن الرحمن لا يصلح اسما لغير تلك الذات ولا يمكن ثبوت تلك الصفة لغيرها، ولا يخفى عليك أن ضمير له على هذا التأويل عائد على ما عاد إليه على التفسير. وفي الفتوحات المكية أنه تعالى جعل الأسماء الحسنى لله كما هي للرحمن غير أن الاسم له معنى وصورة، فيدعى الله بمعنى الاسم ويدعى الرحمن بصورته لأن الرحمن هو المنعوت بالنفس وبالنفس ظهرت الكلمات الإلهية في مراتب الخلاء الذي ظهر فيه العالم فلا ندعوه إلا بصورة الاسم وله صورتان صورة عندنا من أنفاسنا وتركيب حروفنا وهي التي ندعوه بها وهي أسماء الأسماء الإلهية وهي كالخلع عليها ونحن بصورة هذه الأسماء مترجمون عن الأسماء الإلهية ولها صور من نفس الرحمن من كونه قائلا ومنعوتا بالكلام وخلف تلك الصور المعاني التي هي كالأرواح للأسماء الإلهية التي يذكر الحق بها نفسه وهي من نفس الرحمن فله الأسماء الحسنى وأرواح تلك الصور هي التي لاسم الله خارجة عن حكم النفس لا تنعت بالكيفية، وهي لصور الأسماء النفسية الرحمانية كالمعاني للحروف، ولما علمنا هذا وأمرنا بأن ندعوه سبحانه وخيرنا بين الاسمين الجليلين فإن شئنا دعوناه بصور الأسماء النفسية الرحمانية وهي الهمم الكونية التي في أرواحنا وإن شئنا دعوناه بالأسماء التي من أنفاسنا بحكم الترجمة فإذا تلفظنا بها أحضرنا في نفوسنا إما الله فننظر المعنى، وإما الرحمن فننظر صورة الاسم الإلهي النفسي الرحماني كيفما شئنا فعلنا فإن دلالة الصورتين منا ومن الرحمن على المعنى واحد سواء علمنا ذلك أو لم نعلمه اه، وهو كلام يعسر فهمه إلا على من شاء الله تعالى، بيد أنه ليس فيه حمل الدعاء على ما سمعت.
وقل الحمد لله الذي لم يتخذ ولدا فضلا عن أن يكون له سبحانه ولد بطريق التولد ولم يكن له شريك في الملك فلا مدخل لغيره تعالى في ملكية شيء على الحقيقة، وما يوجد بسبب ليس السبب إلا آلة له ولا تملك الآلة شيئا بل لا شيء إلا وهو صنعه تعالى على الحقيقة، والسرير مثلا وإن أضيف إلى النجار من حيث الصنعة إلا أنه في الحقيقة آلة كالقدوم ولا يضاف العمل إلى الآلة على الحقيقة كذا قيل، وللشيخ قدس سره كلام في هذا المقام يفصح عن بعض هذا ذكره في الباب الثامن والتسعين بعد المائة فارجع إليه وتدبر، وكذا له كلام في قوله سبحانه: ولم يكن له ولي من الذل لكن يغني عنه ما قدمناه وكبره تكبيرا قال بعضهم: تكبيره تعالى أن تعلم أنك لا تطيق أن تكبره إلا به، وقال ابن عطاء: تكبيره عز وجل بتعظيم منته وإحسانه في القلب بالعلم بالتقصير في الشكر وكيف يوفي [ ص: 199 ] أحد شكره تعالى ونعمه جل وعلا لا تحصى وآلاؤه لا تستقصى، هذا وقد تم بفضل الله تعالى تفسير هذه السورة الكريمة.