وجوز أن يكون الحق مبتدأ خبره من ربكم واختار هنا الأول، قال في الكشف: ووجه إيثار الحذف أن المعنى عليه أتم التئاما؛ لأنه لما أمره سبحانه بالمداومة على تلاوة هذا الكتاب العظيم الشأن في جملة التالين له حق التلاوة المريدين وجهه تبارك وتعالى غير ملتفت إلى زخارف الدنيا فمن أوتي هذه النعمة العظمى فله بشكرها اشتغال عن كل شاغل ذيله لإزاحة الأعذار والعلل بقوله سبحانه: الزمخشري وقل إلخ؛ أي: هذا الذي أوحي هو الحق فمن شاء فليدخل في سلك الفائزين بهذه السعادة ومن شاء فليكن في الهالكين انهماكا في الضلالة، أما لو جعل مبتدأ فالتعريف إن كان للعهد رجع إلى الأول مع فوات المبالغة وإن كان للجنس على معنى: جميع الحق من ربكم لا من غيره ويشمل الكتاب شمولا أوليا لم يطبق المفصل؛ إذ ليس ما سيق له الكلام كونه منه تعالى لا غير، بل كونه حقا لازم الاتباع لا غير. اه.
وهو كلام يلوح عليه مخايل التحقيق ويشعر ظاهره بحمل الدعاء على ثاني الأقوال فيه، وكون المشار إليه الكتاب مطلقا لا المتضمن الأمر بصبر النفس مع المؤمنين وترك الطاعة للغافلين كما جوزه وعلى تقدير أن يكون الحق مبتدأ قيل: المراد أنه القرآن كما كان المراد من المشار إليه على تقدير كونه خبرا وهو المروي عن ابن عطية، وقال مقاتل، هو التوحيد، وقال الضحاك: الكرماني: الإسلام والقرآن.
وقال المراد به التوفيق والخذلان؛ أي: قل: التوفيق والخذلان من عند الله تعالى يهدي من يشاء فيوفقه فيؤمن ويضل من يشاء فيخذله فيكفر ليس إلي من ذلك شيء وليس بشيء كما لا يخفى، وجوز أن يكون قوله سبحانه: مكي: فمن شاء فليؤمن إلخ تهديدا من جهته تعالى غير داخل تحت القول المأمور به، فالفاء لترتيب ما بعدها من التهديد على نفس الأمر؛ أي: قل لهم ذلك وبعد ذلك من شاء أن يؤمن به أو أن يصدقك فيه فليفعل ومن شاء أن يكفر به أو أن يكذبك فيه فليفعل، وعلى الوجهين ليس المراد حقيقة الأمر والتخيير؛ وهو ظاهر.
وذكر الخفاجي أن الأمر بالكفر غير مراد وهو استعارة للخذلان والتخلية بتشبيه حال من هو كذلك بحال المأمور بالمخالفة ووجه الشبه عدم المبالاة والاعتناء، وهذا كقول كثير: أسيئي بنا أو أحسني لا ملومة واستدل المعتزلة بالآية على أن العبد مستقل في أفعاله موجد لها؛ لأنه علق فيها تحقق الإيمان والكفر على محض مشيئته لأن المتبادر من الشرط أنه علة تامة للجزاء فدل على أنه مستقل في إيجادهما ولا فرق بين فعل وفعل فهو الموجد لكل أفعاله. وأجيب بأنا لو فرضنا أن مشيئة العبد مؤثرة وموجدة للأفعال لا يتم المقصود لأن العقل والنقل يدلان على توقفها على مشيئة الله تعالى وإرادته، أما الأول فلأنهم قالوا: لو لم تتوقف على ذلك لزم الدور أو التسلسل، وأما الثاني فلأنه سبحانه يقول: وما تشاءون إلا أن يشاء الله ومع هذا التوقف لا يتم أمر الاستقلال ويثبت أن العبد مضطر في صورة مختار؛ وهو مذهب الأشاعرة، وفي الإحياء لحجة الإسلام: فإن قلت: إني أجد في نفسي وجدانا ضروريا أني إن شئت الفعل قدرت عليه وإن شئت الترك قدرت عليه فالفعل والترك بي لا بغيري قلت: هب أنك تجد من نفسك هذا المعنى ولكن هل تجد من نفسك [ ص: 267 ] أنك إن شئت مشيئة الفعل حصلت تلك المشيئة أو لم تشأ تلك المشيئة لم تحصل لأن العقل يشهد بأنه يشاء الفعل لا لسبق مشيئة أخرى على تلك المشيئة وإذا شاء الفعل وجب حصول الفعل من غير مكنة واختيار، فحصول المشيئة في القلب أمر لازم وترتب الفعل على حصول المشيئة أيضا أمر لازم، وهذا يدل على أن الكل من الله تعالى انتهى.
وبعضهم يكتفي في إثبات عدم الاستقلال بثبوت توقف مشيئة العبد على مشيئة الله تعالى وتمكينه سبحانه بالنص ولا يذكر حديث لزوم الدور أو التسلسل لما فيه من البحث، وتمام الكلام في ذلك في كتب الكلام، وسنذكر إن شاء الله تعالى طرفا لائقا منه في الموضع اللائق به، وقال هذه الآية منسوخة بقوله سبحانه: السدي: وما تشاءون إلا أن يشاء الله ولعله أراد أن لا يراد المتبادر منها للآية المذكورة وإلا فهو قول باطل، وحكى عن فرقة أن فاعل «شاء» في الشرطيتين ضميره تعالى، واحتج له بما روي عن ابن عطية رضي الله تعالى عنهما أنه قال في الآية: من شاء الله تعالى له الإيمان آمن ومن شاء له الكفر كفر. ابن عباس
والحق أن الفاعل ضمير «من» والرواية عن الحبر أخرجها ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم في الأسماء والصفات، فإذا صحت يحتمل أن يكون ذلك القول لبيان أن من شاء الإيمان هو من شاء الله تعالى له الإيمان، ومن شاء الكفر هو من شاء الله سبحانه له ذلك لا لبيان مدلول الآية وتحقيق مرجع الضمير، ويؤيد ذلك قوله في آخر الخبر الذي أخرجه الجماعة وهو قوله تعالى: والبيهقي وما تشاءون إلا أن يشاء الله رب العالمين والله تعالى أعلم.
وقرأ أبو السمال قعنب: «وقل الحق» بفتح اللام حيث وقع، قال وذلك رديء في العربية، وعنه أيضا ضم اللام حيث وقع كأنه إتباع لحركة القاف، وقرأ أيضا: «الحق» بالنصب وخرجه صاحب اللوامح على تقدير: قل القول الحق و أبو حاتم: من ربكم قيل: حال؛ أي: كائنا من ربكم، وقيل: صفة؛ أي: الكائن من ربكم وفيه بحث.
وقرأ الحسن «فليؤمن» و «ليكفر» بكسر لام الأمر فيهما وعيسى الثقفي: إنا أعتدنا للظالمين للكافرين بالحق بعد ما جاء من الله سبحانه، والتعبير عنهم بالظالمين للتنبيه على أن مشيئة الكفر واختياره تجاوز عن الحد ووضع للشيء في غير موضعه، والجملة تعليل للأمر بما ذكر من التخيير التهديدي، وجعلها من جعل فمن شاء إلخ تهديدا من قبله تعالى تأكيدا للتهديد وتعليلا لما يفيده من الزجر عن الكفر.
وجوز كونها تعليلا لما يفهم من ظاهر التخيير من عدم المبالاة بكفرهم وقلة الاهتمام بشأنهم، ( وأعتدنا ) من العتاد وهو في الأصل ادخار الشيء قبل الحاجة إليه، وقيل: أصله أعددنا فأبدل من إحدى الدالين تاء، والمعنى واحد؛ أي: هيأنا لهم نارا عظيمة عجيبة أحاط بهم سرادقها أي فسطاطها، شبه به ما يحيط بهم من لهبها المنتشر منها في الجهات ثم استعير له استعارة مصرحة، والإضافة قرينة، والإحاطة ترشيح، وقيل: السرادق الحجزة التي تكون حول الفسطاط تمنع من الوصول إليه، ويطلق على الدخان المرتفع المحيط بالشيء، وحمل عليه بعضهم ما في الآية وهو أيضا مجاز كإطلاقه على اللهب، وكلام القاموس يوهم أنه حقيقة، والمروي عن تفسيره بمجموع الأمرين اللهب والدخان. قتادة
وأخرج عن ابن جرير أنه حائط من نار، وحكى ابن عباس أنه عنق يخرج من النار فيحيط بالكفار، وحكى الكلبي القاضي الماوردي أنه البحر المحيط بالدنيا يكون يوم القيامة نارا ويحيط بهم، واحتج له بما أخرجه أحمد في التاريخ والبخاري وصححه، وابن أبي حاتم في البعث وآخرون عن والبيهقي يعلى بن أمية أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: نارا أحاط بهم سرادقها ». «إن البحر هو من جهنم ثم تلا:
والسرادق قال [ ص: 268 ] فارسي معرب وليس من كلامهم اسم مفرد ثالثه ألف وبعده حرفان انتهى، وقد أصاب في دعوى التعريب؛ فإن عامة اللغويين على ذلك، وأما قوله: وليس من كلامهم إلخ فيكذبه ورود علابط وقرامص وجنادف وحلاحل وكلها بزنة سرادق ومثل ذلك كثير والغفلة مع تلك الكثرة من هذا الفاضل بعيدة فلينظر ما مراده، ثم إنه معرب سرايرده؛ أي: ستر الديوان، وقيل: سراطاق؛ أي: طاق الديوان، وهو أقرب لفظا إلا أن الطاق معرب أيضا وأصله تا أو تاك، وقال الراغب: وغيره: معرب سرادر وهو الدهليز ووقع في بيت أبو حيان الفرزدق:
تمنيتهم حتى إذا ما لقيتهم تركت لهم قبل الضراب السرادقا
ويجمع كما قال بالألف والتاء وإن كان مذكرا فيقال: سرادقات، وفسره في النهاية بكل ما أحاط بموضع من حائط أو مضرب أو خباء، وأمر إطلاقه على اللهب أو الدخان أو غيرهما مما ذكر على هذا ظاهر. سيبويه
وإن يستغيثوا من العطش بقرينة قوله تعالى: يغاثوا بماء كالمهل وقيل: مما حل بهم من أنواع العذاب، والمهل على ما أخرج وغيره عن ابن جرير ابن عباس ماء غليظ كدردي الزيت، وفيه حديث مرفوع؛ فقد أخرج وابن جبير أحمد والترمذي وابن حبان وصححه والحاكم وآخرون عن والبيهقي أبي سعيد الخدري كالمهل قال: كعكر الزيت، فإذا قرب إليه سقطت فروة وجهه فيه. عن النبي صلى الله عليه وسلم في قوله تعالى:
وقال غير واحد: هو ما أذيب من جواهر الأرض، وقيل: ما أذيب من النحاس، وأخرج الطبراني وابن المنذر عن وابن جرير أنه سئل عنه فدعا بذهب وفضة فأذابه، فلما ذاب قال: هذا أشبه شيء بالمهل الذي هو شراب أهل النار، لونه لون السماء غير أن شراب أهل النار أشد حرا من هذا. ابن مسعود
وأخرج وغيره عن ابن أبي حاتم أنه القيح والدم الأسود، وقيل: هو ضرب من القطران، وقوله سبحانه: مجاهد
يغاثوا إلخ خارج مخرج التهكم بهم كقول بشر بن أبي حازم:
غضبت تميم أن تقتل عامر يوم النسار فأعتبوا بالصيلم
يشوي الوجوه ينضجها إذا قدم ليشرب من فرط حرارته حتى أنه يسقط جلودها كما سمعت في الحديث، فالوجوه جمع وجه وهو العضو المعروف، والظاهر أنه المراد لا غير، وقيل: عبر بالوجوه عن جميع أبدانهم، والجملة صفة ثانية لماء والأولى كالمهل أو حال منه كما في البحر؛ لأنه قد وصف أو حال من المهل كما قال أبو البقاء.
وظاهر كلام بعضهم جواز كونها في موضع الحال من الضمير المستتر في الكاف لأنها اسم بمعنى مشابه فيستتر الضمير فيها كما يستتر فيه وفيه ما لا يخفى من التكلف لأنها ليست صفة مشتقة حتى يستتر فيها ولم يعهد مشتق على حرف واحد؛ قاله الخفاجي.
وذكر أن أبا علي الفارسي منع في شرح الشواهد جعل ذؤابتي في قول الشاعر: رأتني كأفحوص القطاة ذؤابتي.
مرفوعا بالكاف لكونها بمنزل مثل وقال: إن ذلك ليس بالسهل؛ لأن الكاف ليست على ألفاظ الصفات.
وجوز أن تكون في موضع الحال من الضمير المستتر في الجار والمجرور، وقيل: يجوز أن يكون مراد ذلك البعض، إلا أنه تسامح.
بئس الشراب ذلك الماء الذي يغاثون به وساءت النار مرتفقا أي: متكأ كما قال وروي عن أبو عبيدة وأصل الارتفاق كما قيل الاتكاء على [ ص: 269 ] مرفق اليد. قال في السدي، الصحاح يقال: بات فلان مرتفقا؛ أي: متكئا على مرفق يده، وقيل: نصب المرفق تحت الخد فمرتفقا اسم مكان، ونصبه على التمييز، قال الزمخشري:
وهذا لمشاكلة قوله تعالى: وحسنت مرتفقا وإلا فلا ارتفاق لأهل النار ولا اتكاء إلا أن يكون من قوله:
إني أرقت فبت الليل مرتفقا كأن عيني فيها الصاب مذبوح
أي: فحينئذ لا يكون من المشاكلة ويكون الكلام على حقيقته؛ بأن يكون لأهل النار ارتفاق فيها أي اتكاء على مرافق أيديهم كما يفعله المتحزن المتحسر، وقد ذكر في الكشف أن الاتكاء على الحقيقة كما يكون للتنعم يكون للتحزن.
وتعقب بأن ذلك وإن أمكن عقلا إلا أن الظاهر أن العذاب أشغلهم عنه فلا يتأتى منهم حتى يكون الكلام حقيقة لا مشاكلة. وجوز أن يكون ذلك تهكما أو كناية عن عدم استراحتهم.
وروي عن أن المرتفق المنزل. وأخرج ذلك ابن عباس عن ابن أبي حاتم وفي معناه قول قتادة، ابن عطاء: المقر، وقول العتبي: المجلس، وقيل موضع الترافق؛ أي: ساءت موضعا للترافق والتصاحب، وكأنه مراد في تفسيره بالمجتمع، فإنكار مجاهد أن يكون له معنى مكابرة. الطبري
وقال المعنى: ساءت مطلبا للرفق لأن من طلب رفقا من جهنم عدمه، وجوز بعضهم أن يكون المرتفق مصدرا ميميا بمعنى الارتفاق والاتكاء ابن الأنباري: