وقد يفسر بالمحتاج وحينئذ تكون الآية ظاهرة فيما يدعيه القائل المذكور ، وادعى من يقول : إن المسكين من لا شيء له أصلا وهو الفقير عند الأول أن السفينة لم تكن ملكا لهم بل كانوا أجراء فيها ، وقيل : كانت معهم عارية واللام للاختصاص لا للملك، ولا يخفى أن ذلك خلاف الظاهر ولا يقبل بلا دليل ، وقيل : إنهم نزلوا منزلة من لا شيء له أصلا وأطلق عليهم المساكين ترحما .
وقرأ كرم الله تعالى وجهه (لمساكين) بتشديد السين جمع تصحيح لمساك فقيل : المعنى لملاحين ، وقيل : المساك من يمسك رجل السفينة وكانوا يتناوبون ذلك ، وقيل : المساكون دبغة المسوك وهي الجلود واحدها مسك ولعل إرادة الملاحين أظهر علي يعملون في البحر أي يعملون بها فيه ويتعيشون بما يحصل لهم ، وإسناد العمل إلى الكل على القول بأن منهم زمنى على التغليب أو لأن عمل الوكلاء بمنزلة عمل الموكلين فأردت أن أعيبها أي أجعلها ذات عيب بالخرق ولم أرد إغراق من بها كما حسبت، ولإرادة هذا المعنى جيء بالإرادة ولم يقل فأعبتها . وهذا ظاهر في أن اللام في الاعتراض للتعليل ويحتاج حملها على العاقبة إلى ارتكاب خلاف الظاهر هنا كما لا يخفى على المتأمل وكان وراءهم ملك أي : أمامهم وبذلك قرأ ابن عباس وهو قول وابن جبير قتادة وأبي عبيدة وابن السكيت ، وعلى ذلك جاء قول والزجاج لبيد :
أليس ورائي إن تراخت منيتي لزوم العصا تحنى عليها الأصابع
وقول سوار بن المضرب السعدي :
أيرجو بنو مروان سمعي وطاعتي وقومي تميم والفلاة ورائيا
وقول الآخر :
أليس ورائي أن أدب على العصا فيأمن أعدائي ويسأمني أهلي
وفي القرآن كثير أيضا ، ولا خلاف عند أهل اللغة في مجيء وراء بمعنى أمام وإنما الخلاف في غير ذلك ، وأكثرهم على أنه معنى حقيقي يصح إرادته منها في أي موضع كان، وقالوا : هي من الأضداد ، وظاهر كلام البعض أن لها معنى واحدا يشمل الضدين فقال ابن الكمال نقلا عن : إنها اسم للجهة التي يواريها الشخص من خلف أو قدام ، وقال الزمخشري ما حاصله : إنه في الأصل مصدر ورا يرئي كقضا يقضي وإذا أضيف إلى [ ص: 10 ] الفاعل يراد به المفعول أعني المستور وهو ما كان خلفا، وإذا أضيف إلى المفعول يراد به الفاعل أعني الساتر وهو ما كان قداما . ورد عليه بقوله تعالى : البيضاوي ارجعوا وراءكم فإن وراء أضيفت فيه إلى المفعول والمراد بها الخلف .
وقال : لا يجوز أن يقال للرجل بين يديك هو وراءك وكذا في سائر الأجسام، وإنما يجوز ذلك في المواقيت من الليالي والأيام وقال الفراء : إنما جاز استعمال وراء بمعنى أمام على الاتساع لأنها جهة مقابلة لجهة فكانت كل واحدة من الجهتين وراء الأخرى إذا لم يرد معنى المواجهة، ويجوز ذلك في الأجرام التي لا وجه لها مثل حجرين متقابلين كل واحد منهما وراء الآخر ، وقيل : أي خلفهم كما هو المشهور في معنى وراء . أبو علي
واعترض بأنه إذا كان خلفهم فقد سلموا منه ، وأجيب بأن المراد أنه خلفهم مدرك لهم ومار بهم أو بأن رجوعهم عليه واسمه على ما يزعمون هدد بن بدد وكان كافرا ، وقيل : جلندى بن كركر ملك غسان ، وقيل : مفواد بن الجلند ابن سعيد الأزدي وكان بجزيرة الأندلس يأخذ كل سفينة أي : صالحة وقد قرأ كذلك ، ولو أبقي العموم على ظاهره لم يكن للتعييب فائدة أبي بن كعب غصبا من أصحابها ، وانتصابه على أنه مصدر مبين لنوع الأخذ ، والظاهر أنه كان يغصب السفن من أصحابها ثم لا يردها عليهم ، وقيل : كان يسخرها ثم يردها ، والفاء في (فأردت) للتفريع فيفيد أن سبب إرادة التعييب كونها لقوم مساكين عجزة لكن لما كانت مناسبة هذا السبب للمسبب خفية بين ذلك بذكر عادة الملك في غصب السفن ، ومآل المعنى أما السفينة فكانت لقوم مساكين عجزة يكتسبون بها فأردت بما فعلت إعانتهم على ما يخافونه ويعجزون عن دفعه من غصب ملك وراءهم عادته غصب السفن الصالحة ، وذكر بعضهم أن السبب مجموع الأمرين المسكنة والغصب إلا أنه وسط التفريع بين الأمرين وكان الظاهر تأخيره عنهما للغاية به من حيث إن ذلك الفعل كان هو المنكر المحتاج إلى بيان تأويله وللإيذان بأن الأقوى في السببية هو الأمر الأول ولذلك لم يبال بتخليص سفن سائر الناس مع تحقق الجزء الأخير من السبب ولأن في تأخيره فصلا بين السفينة وضميرها مع توهم رجوعه إلى الأقرب فليفهم ، وظاهر الآية أن موسى عليه السلام ما علم تأويل هذا الفعل قبل .
ويشكل عليه ما جاء عن الربيع أن الخضر عليه السلام بعد أن خرق السفينة وسلمت من الملك الظالم أقبل على أصحابها فقال : إنما أردت الذي هو خير لكم فحمدوا رأيه وأصلحها لهم كما كانت فإنه ظاهر في أنه عليه السلام أوقفهم على حقيقة الأمر ، والظاهر أن موسى عليه السلام كان حاضرا يسمع ذلك ، وقد يقال : إن هذا الخبر لا يعول عليه واحتمال صحته مع عدم سماع موسى عليه السلام مما لا يلتفت إليه.