وقرأ ابن أبي عبلة (لاهية ) بالرفع على أنه خبر بعد خبر لهم ، والسر في اختلاف الخبرين لا يخفى ، و وعيسى لاهية من لهي عن الشيء بالكسر لهيا ولهيانا إذا سلا عنه وترك ذكره وأضرب عنه كما في الصحاح ، وفي الكشاف هي من لهي عنه إذا ذهل وغفل وحيث اعتبر في الغفلة فيما مر أن لا يكون للغافل شعور بالمفعول عنه أصلا بأن لا يخطر بباله ولا يقرع سمعه أشكل وصف قلوبهم بالغفلة بعد سماع الآيات إذ قد زالت عنهم بذلك وحصل لهم الشعور وإن لم يوفقوا للإيمان وبقوا في غيابة الخزي والخذلان .
وأجيب بأن الوصف بذلك على تنزيل شعورهم لعدم انتفاعهم به منزلة العدم نظير ما قيل في قوله تعالى : ولقد علموا لمن اشتراه ما له في الآخرة من خلاق ولبئس ما شروا به أنفسهم لو كانوا يعلمون [البقرة : 102] وأنت تعلم أنه لا بأس أن يراد من الغفلة المذكورة في تفسير لهي الترك والإعراض على ما تفصح عنه عبارة الصحاح ، وإنما لم يجعل ذلك من اللهو بمعنى اللعب على ما هو المشهور لأن تعقيب ( يلعبون ) بذلك حينئذ مما لا يناسب جزالة التنزيل ولا يوافق جلالة نظمه الجزيل وإن أمكن تصحيح معناه بنوع من التأويل ، والمراد بالحدوث الذي يستدعيه محدث التجدد وهو يقتضي المسبوقية بالعدم ، ووصف الذكر بذلك باعتبار تنزيله لا باعتباره نفسه وإن صح ذلك بناء على حمل الذكر على الكلام اللفظي والقول بما شاع عن الأشاعرة من حدوثه ضرورة أنه مؤلف من الحروف والأصوات لأن الذي يقتضيه المقام ويستدعيه حسن الانتظام بيان أنه كلما تجدد لهم التنبيه والتذكير وتكرر على أسماعهم [ ص: 8 ] كلمات التخويف والتحذير ونزلت عليهم الآيات وقرعت لهم العصا ونبهوا عن سنة الغفلة والجهالة عدد الحصا وأرشدوا إلى طريق الحق مرارا لا يزيدهم ذلك إلا فرارا ، وأما إن ذلك المنزل حادث أو قديم فمما لا تعلق له بالمقام كما لا يخفى على ذوي الأفهام ، وجوز أن يكون المراد بالذكر الكلام النفسي وإسناد الإتيان إليه مجاز بل إسناده إلى الكلام مطلقا كذلك والمراد من الحدوث التجدد ويقال : إن وصفه بذلك باعتبار التنزيل فلا ينافي القول بقدم الكلام النفسي الذي ذهب إليه مثبتوه من أهل السنة والجماعة ، والحنابلة القائلون بقدم اللفظي كالنفسي يتعين عندهم كون الوصف باعتبار ذلك لألا تقوم الآية حجة عليهم ، وقال الحسن بن الفضل المراد بالذكر النبي صلى الله عليه وسلم وقد سمي ذكرا في قوله تعالى : قد أنزل الله إليكم ذكرا رسولا [الطلاق : 10 ، 11] ويدل عليه هنا ( هل ) هذا إلخ الآتي قريبا إن شاء الله تعالى وفيه نظر ، وبالجملة ليست الآية مما تقام حجة على رد أهل السنة ولو الحنابلة كما لا يخفى وأسروا النجوى كلام مستأنف مسوق لبيان جناية أخرى من جناياتهم ، ( والنجوى ) اسم من التناجي ولا تكون إلا سرا فمعنى إسرارها المبالغة في إخفائها ، ويجوز أن تكون مصدرا بمعنى التناجي فالمعنى أخفوا تناجيهم بأن لم يتناجوا بمرأى من غيرهم ، وهذا على ما في الكشف أظهر وأحسن موقعا ، وقال : الإسرار من الأضداد ، ويحتمل أن يكون هنا بمعنى الإظهار ومنه قول أبو عبيدة : الفرزدق
فلما رأى الحجاج جرد سيفه أسر الحروري الذي كان أضمرا
وأنت تعلم أن الشائع في الاستعمال معنى الإخفاء وإن قلنا إنه من الأضداد كما نص عليه ولا موجب للعدول عن ذلك ، وقوله تعالى : التبريزي الذين ظلموا بدل من ضمير أسروا كما قال ، وعزاه المبرد إلى ابن عطية ، وفيه إشعار بكونهم موصوفين بالظلم الفاحش فيما أسروا به ، وقال سيبويه . أبو عبيدة ، وغيرهما : هو فاعل والأخفش أسروا والواو حرف دال على الجمعية كواو قائمون وتاء قامت وهذا على لغة أكلوني البراغيث وهي لغة لأزد شنوءة قال شاعرهم :
يلومونني في اشتراء النخيل أهلي وكلهم ألوم
.وهي لغة حسنة على ما نص وليست شاذة كما زعمه بعضهم ، وقال أبو حيان : هو مبتدأ والجملة قبله خبره وقدم اهتماما به ، والمعنى هم أسروا النجوى فوضع الموصول موضع الضمير تسجيلا على فعلهم بكونه ظلما ، وقيل هو مبتدأ محذوف أي هم الذين ، وقيل هو فاعل لفعل محذوف أي يقول الذين والقول كثيرا ما يضمر ، واختاره الكسائي النحاس ، وهو على هذه الأقوال في محل الرفع .
وجوز أن يكون في محل النصب على الذم كما ذهب إليه أو على إضمار أعني كما ذهب إليه بعضهم ، وأن يكون في محل الجر على أن يكون نعتا ( للناس ) كما قال الزجاج أو بدلا منه كما قال أبو البقاء وكلاهما كما ترى ، وقوله تعالى : الفراء هل هذا إلا بشر مثلكم إلخ في حيز النصب على أنه مفعول لقول مضمر بعد الموصول وصلته هو جواب عن سؤال نشأ مما قبله كأنه قيل ماذا قالوا في نجواهم ؟ فقيل قالوا هذا إلخ أو بدل من أسروا أو معطوف عليه ، وقيل حال أي قائلين هل هذا إلخ وهو مفعول لقول مضمر قبل الموصول على ما اختاره النحاس ، وقيل مفعول للنجوى نفسها لأنها في معنى القول والمصدر المعرف يجوز إعماله الخليل ، ، وقيل بدل منها أي أسروا هذا الحديث ، و ( هل ) بمعنى النفي وليست للاستفهام التعجبي كما زعم وسيبويه ، والهمزة في قوله تعالى : أبو حيان أفتأتون السحر للإنكار والفاء للعطف على مقدر يقتضيه المقام ، وقوله سبحانه : وأنتم تبصرون [ ص: 9 ] حال من فاعل تأتون مقررة للإنكار مؤكدة للاستبعاد ، وأرادوا كما قيل ما هذا إلا بشر مثلكم أي من جنسكم وما أتى به سحر تعلمون ذلك فتأتونه وتحضرونه على وجه الإذعان والقبول وأنتم تعاينون أنه سحر قالوه بناء على ما ارتكز في اعتقادهم الزائغ أن الرسول لا يكون إلا ملكا وأن كل ما يظهر على يد البشر من الخوارق من قبيل السحر ، وعنوا بالسحر ها هنا القرآن ففي ذلك إنكار لحقيته على أبلغ وجه قاتلهم الله تعالى أنى يؤفكون ، وإنما أسروا ذلك لأنه على طريق توثيق العهد وترتيب مبادئ الشر والفساد وتمهيد مقدمات المكر والكيد في هدم أمر النبوة وإطفاء نور الدين والله تعالى يأبى إلا أن يتم نوره ولو كره المشركون ، وقيل أسروه ليقولوا للرسول صلى الله عليه وسلم والمؤمنين إن كان ما تدعونه حقا فأخبرونا بما أسررناه ؟ ورده في الكشف بأنه لا يساعده النظم ولا يناسب المبالغة في قوله تعالى : وأسروا النجوى الذين ظلموا ولا في قوله سبحانه : أفتأتون السحر