وقوله تعالى : ففهمناها سليمان عطف على يحكمان فإنه في حكم الماضي كما مضى .
وقرأ (فأفهمناها ) بهمزة التعدية والضمير للحكومة أو الفتيا المفهومة من السياق . روي أنه كانت امرأة عابدة من بني إسرائيل وكانت قد تبتلت وكان لها جاريتان جميلتان فقالت إحداهما للأخرى : قد طال علينا البلاء أما هذه فلا تريد الرجال ولا نزال بشر ما كنا لها فلو أنا فضحناها فرجمت فصرنا إلى الرجال فأخذا ماء البيض فأتياها وهي ساجدة فكشفتا عنها ثوبها ونضحتاه في دبرها وصرختا أنها قد بغت وكان من زنى فيهم حده الرجم فرفعت إلى عكرمة داود وماء البيض في ثيابها فأراد رجمها فقال سليمان : ائتوا بنار فإنه إن كان ماء الرجل تفرق وإن كان ماء البيض اجتمع فأتي بنار فوضعها عليه فاجتمع فدرأ عنها الرجم فعطف عليه داود عليه السلام فأحبه جدا فاتفق أن دخل على داود عليه السلام رجلان فقال أحدهما : إن غنم هذا دخلت في حرثي ليلا فأفسدته فقضى له بالغنم فخرجا فمرا على سليمان وكان يجلس على الباب الذي يخرج منه الخصوم فقال : كيف قضى بينكما أبي ؟ فأخبراه فقال : غير هذا أرفق بالجانبين فسمعه داود عليه السلام فدعاه فقال له : بحق النبوة والأبوة ألا أخبرتني بالذي هو أرفق فقال : أرى أن تدفع الغنم إلى صاحب الأرض لينتفع بدرها ونسلها وصوفها والحرث إلى صاحب الغنم ليقوم عليه حتى يعود كما كان ثم يترادا فقال : القضاء ما قضيت وأمضى الحكم بذلك ، وكان عمره إذ ذاك إحدى عشرة سنة ، ومال كثير إلى أن حكمهما عليهما السلام كان بالاجتهاد وهو جائز على الأنبياء عليهم السلام كما بين في الأصول وبذلك أقول فإن قول سليمان عليه السلام غير هذا أرفق ، ثم قوله : أرى أن تدفع إلخ صريح في أنه ليس بطريق الوحي وإلا لبت القول بذلك ولما ناشده داود عليهما السلام لإظهار ما عنده بل وجب عليه أن يظهره بداء وحرم عليه كتمه ، مع أن الظاهر أنه عليه السلام لم يكن نبيا في ذلك السن ومن ضرورته أن يكون القضاء السابق أيضا كذلك ضرورة استحالة نقض حكم النص بالاجتهاد ، وفي الكشف أن القول بأن كلا الحكمين عن اجتهاد باطل لأن حكم سليمان نقض حكم داود عليهما السلام والاجتهاد [ ص: 75 ] لا ينقض بالاجتهاد البتة فدل على أنهما جميعا حكما بالوحي ويكون ما أوحي به لسليمان عليه السلام ناسخا لحكم داود عليه السلام أو كان حكم سليمان وحده بالوحي ، وقوله تعالى : ففهمناها لا يدل على أن ذلك اجتهاد . وتعقب بأنه إن أراد بعدم نقض الاجتهاد بالاجتهاد عدم نقضه باجتهاد غيره حتى يلزم تقليده به فليس ما نحن فيه ، وإن أراد عدم نقضه باجتهاد نفسه ثانيا وهو عبارة عن تغير اجتهاده لظهور دليل آخر فهو غير باطل بدليل أن المجتهد قد ينقل عنه في مسألة قولان كمذهب رضي الله تعالى عنه القديم والجديد ورجوع كبار الصحابة رضي الله تعالى عنهم إلى آراء بعضهم وهم مجتهدون ، وقيل : يجوز أن يكون أوحي إلى الشافعي داود عليه السلام أن يرجع عن اجتهاده ويقضي بما قضى به سليمان عليه السلام عن اجتهاد ، وقيل : إن عدم نقض الاجتهاد بالاجتهاد من خصائص شريعتنا ، على أنه ورد في بعض الأخبار أن داود عليه السلام لم يكن بت الحكم في ذلك حتى سمع من سليمان عليه السلام ما سمع ، وممن اختار كون كلا الحكمين عن اجتهاد شيخ الإسلام مولانا أبو السعود قدس سره ثم قال : بل أقول والله تعالى أعلم : إن رأي سليمان عليه السلام استحسان كما ينبئ عنه قوله : أرفق بالجانبين ورأي داود عليه السلام قياس كما أن العبد إذا جنى على النفس يدفعه المولى عند الإمام أبي حنيفة رضي الله تعالى عنه إلى المجني عليه أو يفديه ويبيعه في ذلك أو يفديه عند الإمام الشافعي رضي الله تعالى عنه .
وقد روي أنه لم يكن بين قيمة الحرث وقيمة الغنم تفاوت ، وأما سليمان عليه السلام فقد استحسن حيث جعل الانتفاع بالغنم بإزاء ما فات من الانتفاع بالحرث من غير أن يزول ملك المالك من الغنم وأوجب على صاحب الغنم أن يعمل في الحرث إلى أن يزول الضرر الذي آتاه من قبله كما قال بعض أصحاب فيمن غصب عبدا فأبق منه إنه يضمن القيمة فينتفع بها المغصوب منه بإزاء ما فوته الغاصب من المنافع فإذا ظهر الآبق ترادا انتهى . الشافعي
وأما حكم المسألة في شريعتنا فعند الإمام أبي حنيفة رضي الله تعالى عنه لا ضمان إذا لم يكن معها سائق أو قائد لما روى الشيخان من قوله صلى الله عليه وسلم : ولا تقييد فيه بليل أو نهار ، وعند «جرح العجماء جبار » يجب الضمان ليلا لا نهارا لما في السنن من أن ناقة الشافعي دخلت حائط رجل فأفسدته فقضى رسول الله صلى الله عليه وسلم على أهل الأموال بحفظها بالنهار وعلى أهل المواشي بحفظها بالليل . البراء
وأجيب بأن في الحديث اضطرابا ، وفي رجال سنده كلاما مع أنه يجوز أن يكون أرسلها كما يجوز في هذه القصة أن يكون كذلك فلا دليل فيه البراء وكلا من داود وسليمان آتينا حكما وعلما كثيرا ومنه العلم بطريق الاجتهاد لا سليمان عليه السلام وحده ، فالجملة لدفع هذا التوهم وفيها دلالة على أن خطأ المجتهد لا يقدح في كونه مجتهدا ، وقيل : إن الآية دليل على أن كل مجتهد في مسألة لا قاطع فيها مصيب فحكم الله تعالى في حقه وحق مقلده ما أدى إليه اجتهاده فيها ولا حكم له سبحانه قبل الاجتهاد وهو قول جمهور المتكلمين منا كالأشعري ، والقاضي ، ومن المعتزلة كأبي الهذيل ، والجبائي وأتباعهم ، ونقل عن الأئمة الأربعة رضي الله تعالى عنهم القول بتصويب كل مجتهد والقول بوحدة الحق وتخطئة البعض ، وعد في الأحكام ممن يقول كذلك . ورد بأن الله تعالى خصص الأشعري سليمان بفهم الحق في الواقعة بقوله سبحانه : ففهمناها سليمان [ ص: 76 ] وذلك يدل على عدم فهم داود عليه السلام ذلك فيها وإلا لما كان التخصيص مفيدا . وتعقبه الآمدي بقوله : ولقائل أن يقول : إن غاية ما في قوله تعالى : ففهمناها سليمان تخصيصه عليه السلام بالتفهيم ولا دلالة له على عدم ذلك في حق داود عليه السلام إلا بطريق المفهوم وليس بحجة وإن سلمنا أنه حجة غير أنه قد روي أنهما حكما بالنص حكما واحدا ثم نسخ الله تعالى الحكم في مثل تلك القضية في المستقبل وعلم سليمان بالنص الناسخ دون داود عليهما السلام فكان هذا هو الفهم الذي أضيف إليه ، والذي يدل على هذا قوله تعالى : وكلا آتينا حكما وعلما ولو كان أحدهما مخطئا لما كان قد أوتي في تلك الواقعة حكما وعلما وإن سلمنا أن حكمهما كان مختلفا لكن يحتمل أنهما حكما بالاجتهاد مع الإذن فيه وكانا محقين في الحكم إلا أنه نزل الوحي على وفق ما حكم به سليمان عليه السلام فصار ما حكم به حقا متعينا بنزول الوحي به ونسب التفهيم إلى سليمان عليه السلام بسبب ذلك ، وإن سلمنا أن داود عليه السلام كان مخطئا في تلك الواقعة غير أنه كان فيها نص أطلع عليه سليمان دون داود ، ونحن نسلم الخطأ في مثل هذه الصورة وإنما النزاع فيما إذا حكما بالاجتهاد وليس في الواقعة نص انتهى .
وأكثر الأخبار تساعد أن الذي ظفر بحكم الله تعالى في هذه الواقعة هو سليمان عليه السلام ، وما ذكر لا يخلو مما فيه نظر فانظر وتأمل وسخرنا مع داود الجبال شروع في بيان ما يختص بكل منهما عليهما السلام من كراماته تعالى إثر ذكر الكرامة العامة لهما عليهما السلام يسبحن يقدسن الله تعالى بلسان القال كما سبح الحصا في كف رسول الله صلى الله عليه وسلم وسمعه الناس ، وكان عند الأكثرين يقول : سبحان الله تعالى ، وكان داود عليه السلام وحده يسمعه على ما قاله ، وقيل : يسمعه كل أحد وقيل : بصوت يظهر له من جانبها وليس منها وهو خلاف الظاهر وليس فيه من إظهار الكرامة ما في الأول بل إذا كان هذا هو الصدى فليس بشيء أصلا ودونه ما قيل إن ذلك بلسان الحال ، وقيل : ( يسبحن ) بمعنى يسرن من السباحة . وتعقب بمخالفته للظاهر مع أن هذا المعنى لم يذكره أهل اللغة ولا جاء في آية أخرى أو خبر سير الجبال معه عليه السلام . يحيى بن سلام
وقيل : إسناد التسبيح إليهن مجاز لأنها كانت تسير معه فتحمل من رآها على التسبيح فأسند إليها وهو كما ترى .
وتأول الجبائي وعلي بن عيسى جعل التسبيح بمعنى السير بأنه مجاز لأن السير سبب له فلا حاجة إلى القول بأنه من السباحة ومع هذا لا يخفى ما فيه ، والجملة في موضع الحال من ( الجبال ) أو استئناف مبين لكيفية التسخير ( ومع ) متعلقة بالتسخير ، وقال : يسبحن وهو نظير قوله تعالى : أبو البقاء يا جبال أوبي معه [سبأ : 10] والتقديم للتخصيص ويعلم منه ما في حمل التسبيح على التسبيح بلسان الحال وعلى ما يكون بالصدى ( والطير ) عطف على ( الجبال ) أو مفعول معه ، وفي الآثار تصريح بأنها كانت تسبح معه عليه السلام كالجبال . وقرئ (والطير ) بالرفع على الابتداء والخبر محذوف أي والطير مسخرات ، وقيل : على العطف على الضمير في يسبحن ومثله جائز عند الكوفيين ، وقوله تعالى : وكنا فاعلين تذييل لما قبله أي من شأننا أن نفعل أمثاله فليس ذلك ببدع منا وإن كان بديعا عندكم