فأوحينا إليه عقيب ذلك، وقيل: بسبب ذلك أن اصنع الفلك أن مفسرة لما في الوحي من معنى القول بأعيننا ملتبسا بمزيد حفظنا ورعايتنا لك من التعدي أو من الزيغ في الصنع ووحينا وأمرنا وتعليمنا لكيفية صنعها، والفاء في قوله تعالى: فإذا جاء أمرنا لترتيب مضمون ما بعدها على إتمام صنع الفلك، والمراد بالأمر العذاب كما في قوله تعالى: لا عاصم اليوم من أمر الله [هود: 43] فهو واحد الأمور لا الأمر بالركوب فهو واحد الأوامر كما قيل، والمراد بمجيئه كمال اقترابه أي ابتداء ظهوره أي إذا جاء أثر تمام الفلك عذابنا، وقوله سبحانه: وفار التنور بيان وتفسير لمجيء الأمر، روي أنه قيل له عليه السلام إذا فار التنور اركب أنت ومن معك وكان تنور آدم عليه السلام فصار إلى نوح عليه السلام فلما نبع منه الماء أخبرته امرأته فركبوا، واختلفوا في مكانه فقيل كان في مسجد الكوفة أي في موضعه عن يمين الداخل من باب كندة اليوم، وقيل:
كان في عين وردة من الشام، وقيل: بالجزيرة قريبا من الموصل، وقيل: التنور وجه الأرض، وقيل: فار التنور مثل كحمي الوطيس،
وعن كرم الله تعالى وجهه أنه فسر علي وفار التنور بطلع الفجر
فقيل: معناه إن فوران التنور كان عند طلوع الفجر وفيه بعد وتمام الكلام في ذلك قد تقدم لك.
فاسلك فيها أي ادخل فيها يقال سلك فيه أي دخل فيه وسلكه فيه أي أدخله فيه، ومنه قوله تعالى: ما سلككم في سقر [المدثر: 42] من كل أي من كل أمة زوجين أي فردين مزدوجين كما يعرب عنه قوله تعالى: [ ص: 27 ] اثنين فإنه ظاهر في الفردين دون الجمعين.
وقرأ أكثر القراء من «كل زوجين» بالإضافة على أن المفعول «اثنين» أي اسلك من كل أمتي الذكر والأنثى واحدين مزدوجين كجمل وناقة وحصان ورمكة. روي أنه عليه السلام لم يحمل في الفلك من ذلك إلا ما يلد ويبيض وأما ما يتولد من العفونات كالبق والذباب والدوود فلم يحمل شيئا منه، ولعل نحو البغال ملحقة في عدم الحمل بهذا الجنس لأنه يحصل بالتوالد من نوعين فالحمل منهما مغن عن الحمل منه إذا كان الحمل لئلا ينقطع النوع كما هو الظاهر فيحتاج إلى خلق جديد كما خلق في ابتداء الأمر. والآية صريحة في أن الأمر بالإدخال كان قبل صنعه الفلك، وفي سورة [هود: 40] حتى إذا جاء أمرنا وفار التنور قلنا احمل فيها من كل زوجين فالوجه أن يحمل على أنه حكاية لأمر آخر تنجيزي ورد عند فوران التنور الذي نيط به الأمر التعليقي اعتناء بشأن المأمور به أو على أن ذلك هو الأمر السابق بعينه لكن لما كان الأمر التعليقي قبل تحقق المعلق به في حق إيجاب المأمور به بمنزلة العدم جعل كأنه إنما حدث عند تحققه فحكي على صورة التنجيز وأهلك قيل عطف على اثنين على قراءة الإضافة وعلى زوجين على قراءة التنوين، ولا يخفى اختلال المعنى عليه فهو منصوب بفعل معطوف على فاسلك أي واسلك أهلك، والمراد بهم أمة الإجابة الذين آمنوا به عليه الصلاة والسلام سواء كانوا من ذوي قرابته أم لا وجاء إطلاق الأهل على ذلك، وإنما حمل عليه هنا دون المعنى المشهور ليشمل من آمن ممن ليس ذا قرابة فإنهم قد ذكروا في سورة هود والقرآن يفسر بعضه بعضا، وعلى هذا يكون قوله تعالى: إلا من سبق عليه القول منهم استثناء منقطعا، واختار بعضهم حمل الأهل على المشهور وإرادة امرأته وبنيه منه كما في سورة هود وحينئذ يكون الاستثناء متصلا كما كان هناك، وعدم ذكر من آمن للاكتفاء بالتصريح به ثمت مع دلالة ما في الاستثناء وكذا ما بعده على أنه ينبغي إدخاله، وتأخير الأمر بإدخال الأهل على التقديرين عما ذكر من إدخال الأزواج لأن إدخال الأزواج يحتاج إلى مزاولة الأعمال منه عليه السلام وإلى معاونة أهله إياه وأما هم فإنما يدخلون باختيارهم، ولأن في المؤخر ضرب تفصيل بذكر الاستثناء وغيره فتقديمه يخل بتجاوب النظم الكريم، والمراد بالقول القول بالإهلاك، والمراد بسبق ذلك تحققه في الأزل أو كتابة ما يدل عليه في اللوح المحفوظ قبل أن تخلق الدنيا، وجيء بعلى لكون السابق ضارا كما جيء باللام في قوله تعالى: إن الذين سبقت لهم منا الحسنى [الأنبياء: 101] لكون السابق نافعا ولا تخاطبني في الذين ظلموا أي لا تكلمني فيهم بشفاعة وإنجاء لهم من الغرق ونحوه، وإذا كان المراد بهم من سبق عليه القول فالإظهار في مقام الإضمار لا يخفى وجهه إنهم مغرقون تعليل للنهي أو لما ينبئ عنه من عدم قبول الشفاعة لهم أي إنهم مقضي عليهم بالإغراق لا محالة لظلمهم بالإشراك وسائر المعاصي ومن هذا شأنه لا ينبغي أن يشفع له أو يشفع فيه وكيف ينبغي ذلك وهلاكه من النعم التي يؤمر بالحمد عليها كما يؤذن به .