ولولا إذ سمعتموه ممن اخترعه أو المتابع له قلتم تكذيبا له وتهويلا لما ارتكبه ما يكون لنا أن نتكلم أي ما يمكننا وما يصدر عنا بوجه من الوجوه التكلم بهذا إشارة إلى القول الذي سمعوه باعتبار شخصه.
وجوز أن يكون إشارة إلى نوعه فإن محرم شرعا، وجاء عن قذف آحاد الناس المتصفين بالإحصان مرفوعا حذيفة فضلا عن تعرض أنه يهدم عمل مائة سنة حرمة رسول الله صلى الله عليه وسلم، والكلام في توسيط الظرف على نحو ما مر الصديقة سبحانك تعجب ممن تفوه به، وأصله أن يذكر عند معاينة العجيب من صنائعه تعالى شأنه تنزيها له سبحانه من أن يصعب عليه أمثاله ثم كثر حتى استعمل في كل متعجب منه واستعماله فيما ذكر مجاز متفرع على الكناية، ومثله في استعماله للتعجب لا إله إلا الله، والعوام يستعملون الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم في ذلك المقام أيضا ولم يسمع في لسان الشرع بل قد صرح بعض الفقهاء بالمنع منه.
وجوز أن يكون سبحانك هنا مستعملا في حقيقته والمراد تنزيه الله تعالى شأنه من أن يصم نبيه عليه الصلاة والسلام ويشينه فإن فجور الزوجة وصمة في الزوج تنفر عنه القلوب وتمنع عن اتباعه النفوس ولذا صان الله تعالى أزواج الأنبياء عليهم السلام عن ذلك، وهذا بخلاف الكفر فإن كفر الزوجة ليس وصمة في الزوج، وقد ثبت كفر زوجتي نوح ولوط عليهما السلام كذا قيل، وسيأتي إن شاء الله تعالى قريبا ما يتعلق به، وعلى هذا يكون سبحانك تقريرا لما قبله وتمهيدا لقوله سبحانه: هذا بهتان أي كذب يبهت ويحير سامعه لفظاعته عظيم لا يقدر قدره لعظمة المبهوت عليه فإن حقارة الذنوب وعظمها كثيرا ما يكونان باعتبار متعلقاتها، والظاهر أن التوبيخ للسامعين الخائضين لا للسامعين مطلقا،
فقد روي عن أن سعيد بن جبير سعد بن معاذ لما سمع ما قيل في أمر رضي الله تعالى عنها قال: سبحانك هذا بهتان عظيم. وعن عائشة أنه قال: كان رجلان من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم إذا سمعا شيئا من ذلك قالا ما ذكر سعيد بن المسيب بن حارثة أسامة بن زيد وأبو أيوب رضي الله تعالى عنهما. وأخرج عن ابن مردويه رضي الله تعالى عنها أنها قالت: إن عائشة امرأة أبي أيوب الأنصاري قالت له: يا أبا أيوب ألا تسمع ما يتحدث به الناس؟ فقال: ما يكون لنا أن نتكلم بهذا سبحانك هذا بهتان عظيم، ومنشأ هذا الجزم على ما قاله الإمام العلم بأن زوجة الرسول عليه الصلاة والسلام لا يجوز أن تكون فاجرة، وعلل بأن ذلك ينفر عن الاتباع فيخل بحكمة البعثة كدناءة الآباء وعهر الأمهات، وقد نص العلامة الثاني على أن من الرازي السلامة عن ذلك بل [ ص: 121 ] عن كل ما ينفر عن الاتباع. واستشكل ذلك بأنه إذا كان ما ذكر شرطا فكيف علمه من سمعت حتى قالوا ما قالوا وخفي الأمر على رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى قال كما في صحيح شروط النبوة وغيره: البخاري إنه بلغني عنك كذا وكذا فإن كنت بريئة فسيبرئك الله تعالى وإن كنت ألممت بذنب فاستغفري الله تعالى وتوبي إليه» . عائشة «يا
وجاء في بعض الروايات إن كنت فعلت هذا الأمر فقولي لي حتى أستغفر الله تعالى لك» عائشة «يا
وكذا خفي على صاحبه رضي الله تعالى عنه، فقد أخرج أبي بكر الصديق بسند صحيح عن البزار رضي الله تعالى عنها أنه لما نزل عذرها قبل عائشة رضي الله تعالى عنه رأسها فقالت: ألا عذرتني فقال: أي سماء تظلني وأي أرض تقلني إن قلت ما لا أعلم؟. أبو بكر
وأجيب بأن ذلك ليس من الشروط العقلية للنبوة كالأمانة والصدق بل هو من الشروط الشرعية والعادية، كما قال اللقاني فيجوز أن يقال: إنه لم يكن معلوما قبل وإنما علم بعد نزول آيات براءة رضي الله تعالى عنها، وعدم العلم بمثل ذلك لا يقدح في منصب النبوة، وأما دعوى علم من ذكر به فلا دليل عليها، وقولهم ذلك يجوز أن يكون ناشئا عن حسن الظن لا عن علم بكون السلامة من المنفر عن الاتباع من شروط النبوة، ويشهد لهذا نظرا إلى بعض القائلين والظاهر تساويهم ما أخرجه عائشة ابن إسحاق وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن مردويه عن بعض الأنصار أن وابن عساكر امرأة أبي أيوب قالت له حين قال أهل الإفك ما قالوا: ألا تسمع ما يقول الناس في رضي الله تعالى عنها؟ قال: بلى وذلك الكذب أكنت أنت فاعلة يا أم أيوب؟ قالت: لا والله فقال: عائشة رضي الله تعالى عنها والله خير منك وأطيب إنما هذا كذب وإفك باطل، وروى قريبا منه فعائشة الحاكم أيضا عن وابن عساكر أفلح مولى أبي أيوب ، ولعله المعني ببعض الأنصار في الخبر السابق، ولم يقل صلى الله عليه وسلم نحو ذلك لحسن الظن لشدة غيرته عليه الصلاة والسلام والغيور لا يكاد يعول في مثل ذلك على حسن الظن، ويمكن أن يكون قولهم ذلك ناشئا عن العلم بكون السلامة من المنفر عن الاتباع من شروط النبوة بأن يكونوا قد تفطنوا لكون حكمة البعثة تقتضي تلك السلامة وقد يتفطن العالم لما لا يتفطن له من هو أعلم منه.
وجوز أن يدعى أن النبي صلى الله عليه وسلم كان عالما بعدم جواز عليهم الصلاة والسلام لما فيه من النفرة المخلة بحكمة البعثة لكن أراد عليه الصلاة والسلام أن يظهر أمر براءة فجور نساء الأنبياء رضي الله تعالى عنها ظهور الشمس في رابعة النهار بحيث لا يبقى فيه خفاء عند أحد من الصحابة الكرام رضي الله تعالى عنهم، وما عراه من الهم إنما هو أمر طبيعي حصل بسبب خوض المنافقين ومن تبعهم وشيوع ما لا أصل له من الباطل بين الناس، ويحتمل أنه صلى الله عليه وسلم كان عالما بأن السلامة من المنفر من شروط النبوة لكن خشي من الله عز وجل الذي لا يجب عليه شيء أن لا يجعل ما خاض المنافقون وأتباعهم فيه من المنفر بأن لا يرتب سبحانه خلق النفرة في القلوب عليه ليمنع من الاتباع فتختل حكمة البعثة فداخله عليه الصلاة والسلام من الهم ما داخله وجعل يتتبع الأمر على أتم وجه وما ذلك إلا من مزيد العلم ونهاية الحزم، ونظيره من وجه خوفه عليه الصلاة والسلام من قيام الساعة عند اشتداد الريح بحيث لا يستطيع أن ينام ما دام الأمر كذلك حتى تمطر السماء. الصديقة
وقيل يجوز أن لا يعد فجور الزوجة منفرا إلا إذا أمسكت بعد العلم به فلم لا يجوز أن يقع فيجب طلاقها [ ص: 122 ] وإذا طلقت لا يتحقق المنفر المخل بالحكمة، هذا ولا يخفى عليك ما في بعض الاحتمالات من البحث بل بعضها في غاية البعد عن ساحة القبول، ولعل الحق أنه عليه الصلاة والسلام قد أخفي عليه أمر الشرطية إلى أن اتضح أمر البراءة ونزلت الآيات فيها لحكمة الابتلاء وغيره مما الله تعالى أعلم به. وإن قول أولئك الأصحاب رضي الله تعالى عنهم:
سبحانك هذا بهتان عظيم لم يكن ناشئا إلا عن حسن الظن، ولم يتمسك به صلى الله عليه وسلم لأنه لا يحسم القال والقيل ولا يرد به شيء من الأباطيل، ولا ينبغي لمن يؤمن بالله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم أن يخالج قلبه بعد الوقوف على الآيات والأخبار شك في طهارة نساء الأنبياء عليهم الصلاة والسلام عن الفجور في حياة أزواجهن وبعد وفاتهم عنهن، ونسب للشيعة قذف رضي الله تعالى عنها بما برأها الله تعالى منه وهم ينكرون ذلك أشد الإنكار وليس في كتبهم المعول عليها عندهم عين منه ولا أثر أصلا، وكذلك ينكرون ما نسب إليهم من القول بوقوع ذلك منها بعد وفاته صلى الله عليه وسلم وليس له أيضا في كتبهم عين ولا أثر. عائشة
والظاهر أنه ليس في الفرق الإسلامية من يختلج في قلبه ذلك فضلا عن الإفك الذي برأها الله عز وجل منه.