وقرأ كرم الله تعالى وجهه علي وابن مسعود وعبد الرحمن بن عبد الله « ( يمشون) » بتشديد الشين المفتوحة مع ضم الياء مبنيا للمفعول أي يمشيهم حوائجهم أو الناس والتضعيف للتكثير كما في قول الهذلي : يمشي بيننا حانوت خمر وقرأ أبو عبد الرحمن السلمي كما في البحر «يمشون» بضم الياء والشين مع التشديد مبنيا للفاعل وهو مبالغة يمشي المخفف فهي مطابقة للقراءة المشهورة ولا يحتاج إلى تقدير يمشيهم حوائجهم ونحوه. وأنشدوا قوله:
ومشى بأغصان المباءة وابتغى قلائص منها صعبة وذلول
وقوله :
فقد تركت خزينة كل وغد يمشي بين خاتام وطاق
وفي بعض نسخ الكشاف ما يدل على أنه لم يظفر بهذه القراءة، وقوله تعالى: وجعلنا بعضكم لبعض فتنة أتصبرون قيل تسلية له صلى الله عليه وسلم أيضا لكن عن قولهم: أو يلقى إليه كنز أو تكون له جنة [الفرقان: 8] أي وجعلنا أغنياءكم أيها الناس ابتلاء لفقرائكم لننظر هل يصبرون وكان ربك بصيرا أي عالما بالصواب فيما يبتلى به وغيره فلا يضيقن صدرك ولا تستخفنك أقاويلهم، وقيل: تصبير له عليه الصلاة والسلام على ما قالوه واستبدعوه من أكله الطعام ومشيه في الأسواق بعد الاحتجاج عليهم بسائر الرسل، والكلام من تلوين الخطاب بتعميمه لسائر الرسل عليهم السلام بطريق التغليب على ما اختاره بعضهم، والمراد بالبعض الأول كفار الأمم واختصاصهم بالرسل مصحح لأن [ ص: 255 ] يعدوا بعضا منهم وبالبعض الثاني رسلهم على معنى جعلنا كل بعض معين من الأمم فتنة لبعض معين على من الرسل كأنه قيل وجعلنا كل أمة مخصوصة من الأمم الكافرة فتنة لرسولها المعين. وإنما لم يصرح بذلك تعويلا على شهادة الحال، وحاصله جرت سنتنا بموجب حكمتنا على ابتلاء المرسلين بأممهم وبمناصبتهم لهم العداوة وإطلاق ألسنتهم فيهم بالأقاويل الخارجة عن حد الإنصاف وسلوكهم في أذاهم كل مسلك لنعلم صبرهم أو هو خطاب الناس كافة على ما قيل وهو الظاهر، والبعض الأول أعم من الكفار والأغنياء والأصحاء وغيرهم ممن يصلح أن يكون فتنة والبعض الثاني أعم من الرسل والقراء والمرضى وغيرهم ممن يصلح أن يفتن. والكلام عليه مفيد لتصبره صلى الله عليه وسلم على ما قالوه وزيادة، وقيل: المراد بالبعض الأول من لا مال له من المرسلين وبالبعض الثاني أممهم ويدخل في ذلك نبينا صلى الله عليه وسلم وأمته دخولا أوليا فكأنه قيل جعلناك فتنة لأمتك لأنك لو كنت صاحب كنوز وجنات لكان ميلهم إليك وطاعتهم لك للدنيا أو ممزوجة بالدنيا وإنما بعثناك لا مال لك ليكون طاعة من يطيعك منهم خالصة لوجه الله تعالى من غير طمع دنيوي وكذا حال سائر من لا مال له من المرسلين مع أممهم والأظهر عموم الخطاب والبعضين وهو الذي تقتضيه الآثار وإليه ذهب فقال: ذلك عام للمؤمن والكافر فالصحيح فتنة للمريض والغني فتنة للفقير والرسول المخصوص بكرامة النبوة فتنة شراف الناس الكفار في عصره وكذلك العلماء وحكام العدل، وقد تلا ابن عطية ابن القاسم هذه الآية حين رأى أشهب انتهى. واختار ذلك . ولا يضر فيه خصوص سبب النزول فقد روي عن أبو حيان أنها نزلت في الكلبي أبي جهل والوليد بن المغيرة والعاصي بن وائل ومن في طبقتهم قالوا: إن أسلمنا وقد أسلم قبلنا عمار وصهيب وبلال وفلان وفلان ترفعوا علينا إدلالا بالسابقة. والاستفهام إما في حيز التعليل للجعل ومعادله محذوف كما حذف فيما لا يحصى من الأمثلة والتقدير لنعلم أتصبرون أم لا أي ليظهر ما في علمنا. وقرينة تقدير العلم تضمن الفتنة إياه. وإما أن لا يكون في حيز التعليل وليس هناك معادل محذوف بأن يكون للترغيب والتحريض والمراد اصبروا فإني ابتليت بعضكم ببعض.
ويجوز أن لا يقدر معادل على تقدير اعتبار التعليل أيضا بأن يكون الخطاب للرسل عليهم السلام على ما سمعت. وجعل الخطاب فيما سبق عاما وفي ابن عطية أتصبرون خاصا بالمؤمنين الذين جعل إمهال الكفار فتنة لهم في ضمن العموم السابق وقدر معادلا فقال: كأنه جعل إمهال الكفار فتنة للمؤمنين ثم وقفهم أتصبرون أم لا. وجعل قوله تعالى: وكان ربك بصيرا وعدا للصابرين ووعيدا للعاصين. وجعله بعضهم وعدا للرسول صلى الله عليه وسلم بالأجر الجزيل لصبره الجميل مع مزيد تشريف له عليه الصلاة والسلام بالالتفات إلى اسم الرب مضافا إلى ضميره صلى الله عليه وسلم. وجوز أن يكون وعيدا لأولئك المعاندين له عليه الصلاة والسلام جيء به إتماما للتسلية أو التصبر وليس بذاك واستدل بالآية على القضاء والقدر فإنها أفادت أن أفعال العباد كعداوة الكفار وإيذائهم بجعل الله تعالى وإرادته والفتنة بمعنى الابتلاء وإن لم تكن من أفعال العباد إلا أنها مفضية ومستلزمة لما هو منها. وفيه من الخفاء ما فيه. وقوله تعالى.
تم والحمد لله الجزء الثامن عشر من تفسير روح المعاني ويليه إن شاء الله تعالى الجزء التاسع عشر وأوله "وقال الذين لا يرجون .