وقال في الكشاف: جمع الشافع لكثرة الشفعاء، ووحد الصديق لقلته، ألا ترى أن الرجل إذا امتحن بإرهاق ظالم نهضت جماعة وافرة من أهل بلده رحمة له وحسبة - إن لم تسبق له بأكثرهم معرفة - وأما الصديق الصادق في ودادك الذي يهمه ما يهمك فهو أعز من بيض الأنوق، ويجوز أن يريد بالصديق الجمع، أي: فإنه يطلق عليه لما أنه على زنة المصدر بخلاف الشافع.
وذكر في توحيد الصديق وجها آخر أيضا، وهو أن الصديق الواحد يسعى أكثر مما يسعى الشفعاء، وحاصله أن الواحد في معنى الجمع بحسب العادة، فلذا اكتفي به لما فيه من المطابقة المعنوية كما قيل: البيضاوي
الناس ألف منهمو كواحد وواحد كالألف إن أمر عنا
وقال بعض الكلمة: إن إيراد الشافعين بصيغة الجمع لمجرد مصلحة الفاصلة، وأما إيراد الصديق مفردا؛ فلأن المقام مقام المفرد، ومصلحة الفاصلة حصلت قبله وهو كما ترى.
وقال سعد أفندي : لا يبعد أن يكون جمع الأول وإفراد الثاني إشارة إلى أنه لا فرق بين الاستغراقين، وفيه أن إيثار صيغة لإفادة مسألة عربية ليس من دأب القرآن المجيد، والذي أميل إليه أن الإفراد على الأصل، والجمع - وإن أدى مؤداه - على سنن ما كانوا يقولونه ويزعمونه في الدنيا من تعدد الشفعاء، ولا يضر في ذلك كون المنفي هنا أعم من المثبت هناك من حيث شموله للأصنام والكبراء والملائكة والأنبياء - عليهم السلام - كما هو المتبادر إلى الفهم.
وأخرج ، ابن جرير ، عن وابن المنذر ، عن عكرمة أن المعنى: (فما لنا من شافعين) من أهل السماء ولا صديق حميم من أهل الأرض. ابن جريج
وزعم بعضهم أنهم عنوا بالشافعين هنا ما عنوا بالمجرمين من كبرائهم وساداتهم، وفرعوا النفي على قولهم: وما أضلنا إلا المجرمون فكأنهم قالوا: سادتنا وكبراؤنا الذين أضلونا مجرمون معذبون مثلنا، فلم يقدروا على السعي في نفعنا والشفاعة لنا.
وفي الكشاف (فما لنا من شافعين) كما نرى المؤمنين لهم شفعاء من الملائكة والنبيين، ولا صديق كما نرى لهم أصدقاء، فإنه لا يتصادق في الآخرة إلا المؤمنون قال تعالى: الأخلاء يومئذ بعضهم لبعض عدو إلا المتقين أو ( فما لنا من شافعين ولا صديق حميم ) من الذين كنا نعدهم شفعاء وأصدقاء؛ لأنهم كانوا يعتقدون في أصنامهم أنهم شفعاؤهم عند الله تعالى، وكان لهم الأصدقاء من شياطين الإنس، أو أرادوا أنهم وقعوا في مهلكة علموا أن الشفعاء والأصدقاء لا ينفعونهم ولا يدفعون عنهم، فقصدوا بنفيهم نفي ما يتعلق بهم من النفع؛ لأن ما لا ينفع حكمه حكم المعدوم، انتهى.
والظاهر على هذا الأخير أن الكلام كناية عن شدة الأمر، بحيث لا ينفع فيه أحد ولو أدنى نفع، وهو وجه وجيه، والوجه الأول لا يكاد يتسنى على مذهب المعتزلة الذين لا يجوزون أو قبله؛ لأن الظاهر من قولهم: فما لنا من شافعين كما نرى المؤمنين لهم شفعاء من الملائكة والنبيين، فما لنا من شافعين يخلصونا من النار كما نرى المؤمنين لهم شفعاء من الملائكة والنبيين يخلصونهم منها، فارتضاء الشفاعة في الخلاص من النار بعد دخولها لهذا الوجه غريب، اللهم إلا أن يقال: المراد التشبيه باعتبار مطلق الشفاعة، الزمخشري والمعتزلة [ ص: 106 ] يجوزون بعض أصنافها كالشفاعة في زيادة الدرجات في الجنة، لكن لا يخلو عن بعد، والله تعالى أعلم.