ذكر محل ذلك الثواب بقوله عز وجل: تلك الدار الآخرة مشيرا إشارة تعظيم وتفخيم إلى ما نزل لشهرته منزلة المحسوس المشاهد كأنه قيل:
تلك التي سمعت خبرها وبلغك وصفها، (والدار) صفة لاسم الإشارة الواقع مبتدأ وهو يوصف بالجامد ولا حاجة إلى تقدير مضاف أي نعيم الدار كما يوهمه كلام البحر، (والآخرة) صفة للدار، والمراد بها الجنة وخبر المبتدأ قوله تعالى: نجعلها للذين لا يريدون علوا في الأرض أي غلبة وتسلطا ولا فسادا أي ظلما وعدوانا على العباد كدأب فرعون وقارون، وليس الموصول مخصوصا بهما، وفي إعادة لا إشارة إلى أن كلا من العلو والفساد مقصود بالنفي، وفي تعليق الموعد بترك إرادتهما لا بترك أنفسهما من مزيد تحذير منهما.
وأخرج عبد بن حميد عن وابن أبي حاتم أنه قال: العلو في الأرض التكبر وطلب الشرف والمنزلة عند سلاطينها وملوكها والفساد العمل بالمعاصي وأخذ المال بغير حقه. عكرمة
وعن العلو الاستكبار عن الإيمان والفساد الدعاء إلى عبادة غير الله تعالى، وروي عن الكلبي تفسير العلو بما روي عن مقاتل الكلبي،
[ ص: 126 ] وأخرج ابن مردويه عن وابن عساكر كرم الله تعالى وجهه أنه كان يمشي في الأسواق وحده وهو وال يرشد الضال ويعين الضعيف ويمر بالبقال والبياع فيفتتح عليه القرآن ويقرأ تلك الدار الآخرة إلى آخرها، ويقول: علي
نزلت هذه الآية تلك الدار الآخرة إلخ، في أهل العدن والتواضع من الولاة وأهل القدرة من سائر الناس.
وأخرج ابن مردويه عن عدي بن حاتم أنه لما دخل على النبي صلى الله تعالى عليه وسلم ألقى إليه وسادة فجلس على الأرض، فقال عليه الصلاة والسلام أشهد أنك لا تبغي علوا في الأرض ولا فسادا
فأسلم رضي الله تعالى عنه، وعن الفضيل أنه قرأ الآية ثم قال: ذهبت الأماني هاهنا، وعن أنه كان يرددها حتى قبض، وأخرج عمر بن عبد العزيز ابن أبي شيبة وابن جرير وابن المنذر عن وابن أبي حاتم كرم الله تعالى وجهه أنه قال: إن الرجل ليحب أن يكون شسع نعله أجود من شسع نعل صاحبه فيدخل في هذه الآية. علي
ولعل هذا إذا أحب ذلك ليفتخر على صاحبه ويستهينه وإلا
فقد روى عن أبو داود أبي هريرة أن رجلا أتى رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم وكان جميلا فقال: يا رسول الله إني رجل حبب (إلي) الجمال وأعطيت منه ما ترى حتى ما أحب أن يفوقني أحد إما قال بشراك نعل وإما قال بشسع نعل أفمن الكبر ذلك؟ قال لا ولكن الكبر من بطر الحق وغمط الناس.
وروى مسلم وأبو داود عن والترمذي «أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ابن مسعود لا يدخل الجنة من كان في قلبه مثقال ذرة من كبر. فقال رجل: إن الرجل يحب أن يكون ثوبه حسنا، ونعله حسنا. قال: إن الله تعالى جميل يحب الجمال الكبر بطر الحق وغمط الناس».
واستدل بعض المعتزلة بالآية بناء على عموم العلو والفساد فيها على تخليد مرتكب الكبيرة في النار، وفي الكشاف ما هو ظاهر في ذلك، والتزم بعضهم في الجواب تفسير العلو والفساد بما فسرهما به وآخر أن المراد بهما ما يكون مثل العلو والفساد اللذين كانا من الكلبي فرعون وقارون. ورد بأن التذييل بقوله تعالى: والعاقبة للمتقين يدل على أن العمدة هي التقوى ولا يكفي ترك العلو والفساد المقيدين.
وأجيب بأن المتقي هاهنا هو المتقي من علو فرعون وفساد قارون أو من لم يكن من المؤمنين مثل فرعون في الاستكبار على الله تعالى بعدم امتثال أوامره والارتداع عن زواجره ولم يكن مثل قارون في إرادة الفساد في الأرض وإخراج كل شيء من كونه منتفعا به لا سيما نفسه فإن غاية إفسادها الامتناع من عبادة ربها لأنها خلقت للعبادة فإذا امتنع عنها خرجت عن كونها منتفعا بها وليس معنى المتقي إلا ذلك. وتعقبه صاحب الكشف بأن الأول تقييد بلا دليل والثاني هو الذي يسعى له المعتزلي، وقال الفاضل الخفاجي: إما أن يراد بالعاقبة المحمودة على وجه الكمال أو يراد بالمتقي المتقي ما لا يرضاه الله تعالى مثل حال قارون بقرينة المقام، والنصوص الدالة على أن غير الكفار لا يخلد في النار فلا وجه للقول بأن ذلك تقييد بلا دليل مع أن مبنى الاستدلال على أن اللام للتخصيص وهو ممنوع، وقال بعض في الجواب على تقدير إرادة العموم في علوا وفسادا: إن المراد من جعل الجنة للذين لا يريدون شيئا منهما تمكينهم منها أتم تمكين نحو قولك: جعل السلطان بلد كذا لفلان وذلك لا ينافي أن يدخلها غيرهم من مرتكب الكبيرة ويكون فيها بمنزلة دون منزلتهم، ولعله إنما دخلها بشفاعة بعض منهم، وقريب منه ما قيل: إن جعلها لهم باعتبار أنهم أهلها الأولون وملوكها السابقون وغيرهم إنما يرد عليهم وينزل بهم ويقال في قوله تعالى: والعاقبة للمتقين نحو ما مر آنفا عن الخفاجي. بقي في الآية كلام آخر، وهو أن بعضهم استدل بها على عدم وجود الجنة اليوم بناء على أن معنى نجعلها للذين لا يريدون إلخ نخلقها في المستقبل لأجلهم، وأجيب بأنه يحتمل أن يكون الجعل متعديا إلى مفعولين ثانيهما للذين لا يريدون إلخ فيصير المعنى نجعلها كائنة وحاصلة لهم في الزمان المستقبل فتفيد الآية أن جعلها كائنة لهم غير حاصل الآن لا جعلها نفسها [ ص: 127 ] وهو محل النزاع، ودفع بأن المتبادر من جعل الدار كائنة لزيد تمكينه وعدم منعه من التمكن فيها سواء حصل له التمكن فيها أو لم يحصل، فمعنى نجعلها للذين إلخ تمكنهم في الاستقبال من التمكن فيها، ولا يخفى ركاكته لأن التمكين من التمكن فيها لازم لوجودها غير منفك عنها على ما يدل عليه قوله تعالى: أعدت للمتقين فلا يمكن أن تكون نفس الجنة الآن ويكون جعلها كائنة لهم في الاستقبال، وحمل الجعل على التمكن بالفعل والتمكين من التمكن وإن كان لازما لوجود الجنة لكن التمكن فيها بالفعل غير لازم بل يكون فيما سيجيء عدول عن المتبادر فإن المتبادر من قولك: جعلك الدار لزيد تمكينه من التمكن فيها لا جعل زيد متمكنا فيها بالفعل فتدبر ذلك كله