هذا ومن باب الإشارة في الآيات: قد كان لكم يا معشر السالكين إلى مقصد الكل (آية) دالة على كمالكم وبلوغكم إلى ذروة التوحيد في فئتين التقتا للحرب (فئة) منهما وهي فئة القوى الروحانية التي هي جند الله تعالى تقاتل في سبيل الله وطريق الوصول إليه وأخرى منهما وهي جنود النفس وأعوان الشيطان كافرة ساترة للحق محجوبة عن حظائر الصدق، ترى الفئة الأخيرة الفئة الأولى لحول عين بصيرتها مثليهم عند الالتقاء في معركة البدن رؤية مكشوفة ظاهرة لا خفاء فيها مثل رؤية العين، وذلك لتأييد الفئة المؤمنة بالأنوار الإلهية والإشراقات الجبروتية، وخذلان الفئة الكافرة بما استولى عليها من تراكم ظلمات الطبيعة وذل البعد عن الحضرة والله تعالى يؤيد بنصره من يشاء تأييده لقبول استعداده لذلك إن في ذلك التأييد لعبرة أي اعتبارا أو أمرا يعتبر به في الوصول إلى حيث المأمول للمستبصرين الفاتحين أعين بصائرهم لمشاهدة الأنوار الأزلية في آفاق المظاهر الإلهية.
زين للناس حب الشهوات بسبب ما فيهم من العالم السفلي والغشاوة الطبيعية والغواشي البدنية من النساء وهي النفوس والبنين وهي الخيالات المتولدة منها الناشئة عنها والقناطير المقنطرة من الذهب والفضة وهي العلوم المتداولة وغير المتداولة، أو الأصول والفروع والخيل المسومة وهي مراكب الهوى وأفراس اللهو والأنعام وهي رواحل جمع الحطام وأسباب جلب المنافع الدنيوية والحرث وهو زرع الحرص وطول الأمل ذلك متاع الحياة الدنيا الزائل عما قليل بالرجوع إلى المبدأ الأصلي والموطن القديم.
ولك أن تبقي هذه المذكورات على ظواهرها فإن النفوس المنغمسة في أوحال الطبيعة لها ميل كلي إلى ذلك أيضا قل أأنبئكم بخير من ذلكم المذكور للذين اتقوا النظر إلى الأغيار جنات جنة يقين وجنة مكاشفة وجنة مشاهدة وجنة رضا وجنة لا أقولها وهي التي فيها ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر، وليس في تلك الجنة عند العارفين إلا الله عز وجل.
تجري من تحتها أنهار التجليات المترعة بماء الغيوب خالدين فيها ببقائهم بعد فنائهم وأزواج مطهرة وهي الأرواح المقدسة عن أدناس الطبيعة المقصورة في خيام الصفات الإلهية ورضوان من الله لا يقدر قدره والله بصير بالعباد في تقلب أرواحهم في عالم الملكوت، محترقات من سطوات أنوار الجبروت حبا لجواره وشوقا إلى لقائه يجازيها بقدر همومها في طلب وجهه الأزلي وجماله الأبدي الذين يقولون ربنا إننا آمنا بأنوار أفعالك وصفاتك فاغفر لنا ذنوب وجوداتنا بذاتك وقنا عذاب النار نار الحرمان ووجود البقية الصابرين على مضض المجاهدة والرياضة والصادقين في المحبة والإرادة والقانتين في السلوك إليه والمنفقين ما عداه فيه والمستغفرين من ذنوب تلوناتهم وتعيناتهم في أسحار التجليات، ويقال: (الصابرين) الذين صبروا على الطلب ولم يحتشموا من التعب وهجروا كل راحة وطرب فصبروا على البلوى ورفضوا الشكوى حتى وصلوا إلى المولى ولم يقطعهم شيء من الدنيا والعقبى، (والصادقين) الذين صدقوا في الطلب فوردوا ثم صدقوا فشهدوا ثم صدقوا فوجدوا ثم صدقوا ففقدوا، فحالهم قصد ثم ورود ثم شهود ثم وجود ثم خمود، (والقانتين) الذين لازموا الباب [ ص: 104 ] وداوموا على تجرع الاكتئاب وترك المحاب إلى أن تحققوا بالاقتراب، (والمنفقين) الذين جادوا بنفوسهم من حيث الأعمال ثم جادوا بميسورهم من الأموال ثم جادوا بقلوبهم لصدق الأحوال ثم جادوا بكل حظ لهم في العاجل والآجل استهلاكا في أنوار الوصال (والمستغفرين) هم الذين يستغفرون عن جميع ذلك إذا رجعوا إلى الصحو وقت نزول الرب إلى السماء الدنيا وإشراق أنوار جماله على آفاق النفس وندائه «هل من سائل هل من مستغفر هل من كذا هل من كذا» ثم لما مدح سبحانه أحبابه أرباب الدين وذم أعداءه الكافرين عقب ذلك ببيان الدين الحق والعروة الوثقى على أتم وجه وآكده فقال سبحانه: